لما رأى المشركون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا وخرجوا، وحملوا وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج في يثرب، أصابتهم الكآبة والحزن، وساورهم القلق والهم، فاجتمع طواغيت مكة في دار الندوة ليتخذوا قرارا حاسما في هذا الأمر.

وكان اجتماعهم بعد شهرين ونصف تقريبا من بيعة العقبة، وتوافد إلى هذا الاجتماع جميع نواب القبائل القرشية؛ ليتدارسوا خطة حاسمة, تكفل القضاء سريعا على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته, ولما جاءوا إلى دار الندوة حسب الميعاد، اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، ووقف على الباب، فقالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد, سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأيا ونصحا.

قالوا: أجل، فادخل.

فدخل معهم.

وبعد أن تكامل الاجتماع, ودار النقاش طويلا.

قال أبو الأسود: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا، ولا نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، فقد أصلحنا أمرنا, وألفتنا كما كانت.

قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب، ثم يسير بهم إليكم - بعد أن يتبعوه - حتى يطأكم بهم في بلادكم، ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيا غير هذا.

قال أبو البختري: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء الذين كانوا قبله - زهيرا والنابغة - ومن مضى منهم، من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم.

قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه -كما تقولون- ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره.

بعد ذلك تقدم كبير مجرمي مكة أبو جهل بن هشام باقتراح آثم وافق عليه جميع من حضر, قال أبو جهل: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد.

قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم.

قال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره.

ووافقوا على هذا الاقتراح الآثم بالإجماع.


عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: «إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين».

وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي».

فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم».

فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر -وهو الخبط- أربعة أشهر.

قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «أخرج من عندك».

فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله.

قال: «فإني قد أذن لي في الخروج».

فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم».

قال أبو بكر: فخذ -بأبي أنت يا رسول الله- إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بالثمن».

قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت: ذات النطاقين.

قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب، ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا، يكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما، حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي، هاديا خريتا -والخريت الماهر بالهداية- قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل.

قال: سراقة بن جعشم: جاءنا رسل كفار قريش، يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، دية كل واحد منهما، من قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال يا سراقة: إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة، فتحبسها علي، وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فحططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي، حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها: أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام، تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني، إلا أن قال: «أخف عنا».

فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن عروة بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشأم، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم، أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم، لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار -ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم- يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك.


أول ما غزا النبي صلى الله عليه وسلم الأبواء ثم بواط ثم العشيرة.

وهي قرية من عمل الفرع، بينها وبين الجحفة من جهة المدينة ثلاثة وعشرون ميلا.

قيل سميت بذلك لما كان فيها من الوباء، وهي غزوة ودان بتشديد الدال، قال إسحاق: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غازيا بنفسه حتى انتهى إلى ودان، وهي الأبواء.

خرج من المدينة على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة يريد قريشا، فوادع بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة، من كنانة، وادعه رئيسهم مجدي بن عمرو الضمري، ورجع بغير قتال.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استعمل على المدينة سعد بن عبادة.

وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى الأبواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين رجلا فلقوا جمعا من قريش فتراموا بالنبل، فرمى سعد بن أبي وقاص بسهم، وكان أول من رمى بسهم في سبيل الله.


وهي غزوة ذي أمر بناحية نجد.

وسببها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن جمعا من بني ثعلبة بن سعيد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان، وبني محارب بن خصفة بن قيس بذي أمر قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمعهم رجل منهم يقال له: دعثور بن الحارث بن محارب، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج في أربعمئة وخمسين، معهم عدة أفراس، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، فأصابوا بالمدينة رجلا منهم بذي القصة يقال له: جبار من بني ثعلبة، فقال له المسلمون: أين تريد؟ فقال: أريد يثرب لأرتاد لنفسي وأنظر، فأدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره من خبرهم، قال: لن يلاقوك ولو سمعوا بسيرك هربوا في رؤوس الجبال وأنا سائر معك، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وأسلم، وضمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلال، فأخذ به جبار طريقا، وهبط به عليهم، وسمع القوم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهربوا في رؤوس الجبال، فبلغ ماء يقال له: ذو أمر، فعسكر به، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مطر كثير، فابتلت ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثياب أصحابه؛ فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة ونشر ثيابه لتجف، واضطجع، وذلك بمرأى من المشركين، واشتغل المسلمون في شؤونهم.

فبعث المشركون رجلا شجاعا منهم يقال له: دعثور بن الحارث، وكان سيدها وأشجعها، ومعه سيف متقلد به، فبادر دعثور وأقبل مشتملا على السيف، حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف مشهورا، فقال: يا محمد، من يمنعك مني اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله".

ودفع جبريل في صدره، فوقع السيف من يده؛ فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: "من يمنعك مني؟!" فقال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعا أبدا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه.
ثم أتى قومه فقالوا: ما لك؟ ويلك! فقال: نظرت إلى رجل طويل، فدفع في صدري، فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك، وشهدت بأن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليه جمعا.

وجعل يدعو قومه إلى الإسلام.

وأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم} [المائدة 11].

وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولم يلق كيدا، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة، وقيل: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بنجد صفر كله.


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري، جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة، وهو بين عسفان ومكة، ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان، فنفروا لهم قريبا من مائتي رجل كلهم رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب.

فاقتصوا آثارهم، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا وأعطونا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق، ولا نقتل منكم أحدا، قال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق، منهم خبيب الأنصاري، وابن دثنة، ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي في هؤلاء لأسوة يريد القتلى، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى فقتلوه، فانطلقوا بخبيب، وابن دثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرا، فأخبرني عبيد الله بن عياض، أن بنت الحارث أخبرته: أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها، فأعارته، فأخذ ابنا لي وأنا غافلة حين أتاه قالت: فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي، فقال: تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك.

والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، والله لقد وجدته يوما يأكل من قطف عنب في يده، وإنه لموثق في الحديد، وما بمكة من ثمر، وكانت تقول: إنه لرزق من الله رزقه خبيبا، فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل، قال لهم خبيب: ذروني أركع ركعتين.

فتركوه، فركع ركعتين، ثم قال: لولا أن تظنوا أن ما بي جزع لطولتها، اللهم أحصهم عددا، ثم ارتجز يقوله: لا أبالي حين أقتل مسلما.
.
.

على أي شق كان لله مصرعي، وذلك في ذات الإله وإن يشأ.
.
.

يبارك على أوصال شلو ممزع.

فقتله ابن الحارث، فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا، فاستجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه خبرهم، وما أصيبوا، وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل، ليؤتوا بشيء منه يعرف، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر، فبعث على عاصم مثل الظلة من الدبر، فحمته من رسولهم، فلم يقدروا على أن يقطع من لحمه شيئا.


عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:  أن رعلا، وذكوان، وعصية، وبني لحيان، استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب، على رعل، وذكوان، وعصية، وبني لحيان.

قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رفع: بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا.

وجاء في رواية عند البخاري: أن أولئك السبعين من الأنصار قتلوا ببئر معونة.

وعن أنس بن مالك، قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار، يقال لهم: القراء، فيهم خالي حرام، يقرءون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم، بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا.

قال: وأتى رجل حراما -خال أنس- من خلفه، فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا.


قال خالد بن الوليد: لما أراد الله عز وجل ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام وحضرني رشدي, وقلت قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد صلى الله عليه وسلم فليس موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني في غير شيء وأن محمدا سيظهر، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية خرجت في خيل المشركين فقمت بإزائه في عسفان وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا فهممنا أن نغير عليه فلم نمكن منه, فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف فوقع ذلك منا موقعا، وقلت: الرجل ممنوع.

فافترقنا, فلما صالح قريشا بالحديبية, ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء طلبني فلم يجدني، وكتب إلي كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وعقلك, ومثل الإسلام يجهله أحد؟.

ثم سأل عني, فقيل: له يأتي الله به.

فقال: ما مثله جهل الإسلام, ولو كان يجعل نكايته مع المسلمين على المشركين كان خيرا له، ولقدمناه على غيره.

فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام، وسرني سؤاله عني, فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقىيت عثمان بن طلحة فعرضت عليه الإسلام فأسرع الإجابة، فخرج معي حتى انتهينا إلى الهدة فوجدنا عمرو بن العاص بها, فقال: مرحبا بالقوم.

فقلنا: وبك.

قال: إلى أين مسيركم؟ قلنا: الدخول في الإسلام، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم.

فقال: وذاك الذي أقدمني.

فاصطحبنا جميعا حتى دخلنا المدينة, فلبست من صالح ثيابي ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد أخبر بنا فسر بقدومنا, فما فما زال يتبسم حين رآني حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد علي السلام بوجه طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.

فقال الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلا رجوت أن لا يسلمك إلا إلى خير.

قلت: يا رسول الله قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك، فادع الله يغفرها لي.

فقال صلى الله عليه وسلم: الإسلام يجب ما كان قبله.


بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك سرية غالب بن عبد الله، في مائتي رجل؛ فأصابوا من بني مرة نعما، وقتلوا منهم قتلى.


فتح المسلمون بقيادة خالد بن الوليد بلدة أمغيشيا، وكانت مصرا كالحيرة، وقيل: اسمها منيشيا، وهي تقع على نهر الفرات، ولم يقع بأمغيشيا قتال، وإنما هجرها أهلها بعد هزيمة الفرس في أليس، فدخلها المسلمون فاتحين، وأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله لأن أهلها أعجلهم المسلمون أن ينقلوا أموالهم وأثاثهم وكراعهم وغير ذلك، بلغ سهم الفارس ألفا وخمسمائة، سوى النفل الذي نفله أهل البلاء, وأرسل إلى أبي بكر بالفتح والغنائم والسبي، وأخرب أمغيشيا.

فلما بلغ ذلك أبا بكر قال: عجز النساء أن يلدن مثل خالد.


قام الصديق أبو بكر رضي الله عنه بعقد أربعة ألوية لفتح بلاد الشام بعد أن فرغ من حروب الردة، وجعل قيادتها لأبي عبيدة بن الجراح، ووجهته حمص، وعمرو بن العاص ووجهته فلسطين، وشرحبيل بن حسنة ووجهته الأردن، ويزيد بن أبي سفيان ووجهته دمشق.

وقد أدت هذه الجيوش دورها الفعال في مقاتلة الروم وانتصروا في مواقع كثيرة، وكان الروم في جميعها أكثر عددا وعدة.


كان انتصار المسلمين في القادسية دافعا لهم للاستمرار في زحفهم نحو المدائن عاصمة الفرس، وسار سعد بجنوده حتى وصل إلى بهرسير "المدائن الغربية" وكانت إحدى حواضر فارس، فنزل سعد قريبا منها، وأرسل مجموعة من جنوده لاستطلاع الموقف، وعاد الجنود وهم يسوقون أمامهم آلاف الفلاحين، من أهل تلك المدينة.

وحينما علم شيرزار دهقان -أمير- ساباط بالأمر أرسل إلى سعد يطلب منه إطلاق سراح هؤلاء الفلاحين، ويخبره أنهم ليسوا مقاتلين، وإنما هم مجرد مزارعين أجراء، وأنهم لم يقاتلوا جنوده؛ فكتب سعد إلى عمر يعرض عليه الموقف ويسأله المشورة: إنا وردنا بهرسير بعد الذي لقينا فيما بين القادسية وبهرسير، فلم يأت أحد لقتال، فبثثت الخيول، فجمعت الفلاحين من القرى والآجام.

فأجابه عمر: إن من أتاكم من الفلاحين إذا كانوا مقيمين لم يعينوا عليكم فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به.

فلما جاءه خطاب عمر خلى سعد سبيلهم.

وأرسل سعد إلى الدهاقين - رؤساء المدن والأقاليم- يدعوهم إلى الإسلام، على أن يكون لهم ما هم عليه من الإمارة والحكم، أو الجزية ولهم الذمة والمنعة، فدخل كثير منهم الإسلام لما وجدوه من سماحة المسلمين وعدلهم مع ما هم عليه من بأس وقوة، ولكن بهرسير امتنعت عنه، وظن أهلها أن حصونها تحول دون فتح المسلمين لها، فحاصرها سعد بجنوده طوال شهرين يرمونها بالمجانيق، ويدكونها بالدبابات التي صنعوها من الجلود والأخشاب، ولكن المدينة كانت محصنة فنصب سعد حولها عشرين منجنيقا في أماكن متفرقة ليشغلهم ويصرفهم عن ملاحظة تقدم فرسانه نحو المدينة لاقتحامها، وأحس الفرس بمحاولة المسلمين اقتحام المدينة؛ فخرج إليهم عدد كبير من الجنود الفرس ليقاتلوهم ويمنعوهم من دخول المدينة، وضرب المسلمون أروع الأمثلة في البطولة والفداء، وقوة التحمل والحرص على الشهادة، وكان القائد زهرة بن الجوية واحدا من أولئك الأبطال الشجعان، استطاع أن يصل إلى قائد الفرس شهربراز، فضربه بسيفه فقتله، وما إن رأى جنود الفرس قائدهم يسقط على الأرض مضرجا في دمائه حتى تملكهم الهلع والذعر، وتفرق جمعهم، وتتشتت فرسانهم، وظل المسلمون يحاصرون بهرسير بعد أن فر الجنود والتحقوا بالفيافي والجبال، واشتد حصار المسلمين على المدينة؛ حتى اضطر أهلها إلى أكل الكلاب والقطط، فأرسل ملكهم إلى المسلمين يعرض الصلح على أن يكون للمسلمين ما فتحوه إلى دجلة، ولكن المسلمين رفضوا وظلوا يحاصرون المدينة، ويضربونها بالمجانيق، واستمر الحال على ذلك فترة من الوقت، وبدت المدينة هادئة يخيم عليها الصمت والسكون، وكأنه لا أثر للحياة فيها، فحمل المسلمون عليها ليلا، وتسلقوا أسوارها وفتحوها، ولكن أحدا لم يعترضهم من الجنود، ودخل المسلمون بهرسير "المدائن الغربية" فاتحين بعد أن حاصروها زمنا طويلا.


عزم سعد بن أبي وقاص أن يعبر جيشه دجلة بالخيل، فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه ويخلصون إليكم إذا شاءوا في سفنهم فيناوشونكم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، قد كفاكم أهل الأيام وعطلوا ثغورهم، وقد رأيت من الرأي أن تجاهدوا العدو قبل أن تحصدكم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم.

فقالوا جميعا: عزم الله لنا ولك على الرشد، فافعل.

فندب الناس إلى العبور وقال: من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من العبور؟ فانتدب عاصم بن عمرو ذو البأس، في ستمائة من أهل النجدات ليحموا لهم الشاطئ من الفرس حتى تتلاحق الجند، ولما رأى سعد عاصما على الفراض قد منعها، أذن للناس في الاقتحام وقال: قولوا: نستعين بالله، ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه، وليظهرن دينه، وليهزمن عدوه، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وتلاحق الناس في دجلة وإنهم يتحدثون كما يتحدثون في البر، وطبقوا دجلة حتى ما يرى من الشاطئ شيء.

فلما رأى الفرس ذلك، وأتاهم أمر لم يكن في حسابهم خرجوا هاربين نحو حلوان، وتركوا في الخزائن من الثياب والمتاع والآنية والفصوص والألطاف ما لا يدرى قيمته، وخلفوا ما كانوا أعدوا للحصار من البقر والغنم والأطعمة، وكان في بيت المال ثلاثة آلاف ألف ألف ألف، ثلاث مرات، وكان أول من دخل المدائن كتيبة الأهوال، وهي كتيبة عاصم بن عمرو، ثم كتيبة الخرساء، وهي كتيبة القعقاع بن عمرو، فأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحدا يخشونه إلا من كان في القصر الأبيض، فأحاطوا بهم ودعوهم فاستجابوا على تأدية الجزية والذمة، فتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم، ليس في ذلك ما كان لآل كسرى، ونزل سعد القصر الأبيض، واتخذ سعد إيوان كسرى مصلى، ولما دخل سعد الإيوان قرأ: {كم تركوا من جنات وعيون} [الدخان: 25].
.
.
الآية، وصلى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات، ثم جمع ما في القصر والإيوان والدور من الغنائم، وكان أهل المدائن قد نهبوها عند الهزيمة، وهربوا في كل وجه، فما أفلت أحد منهم بشيء إلا أدركهم الطلب، فأخذوا ما معهم، ورأوا بالمدائن قبابا تركية مملؤة سلالا مختومة برصاص فحسبوها طعاما، فإذا فيها آنية الذهب والفضة.


لما دخل المسلمون المدائن وفتحوها واتخذ سعد بن أبي وقاص قصرها مسكنا جعل إيوانها المشهور مسجدا ومصلى وتلا قوله تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26) ونعمة كانوا فيها فاكهين (27) كذلك وأورثناها قوما آخرين (28) فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} [الدخان: 25 - 29] ثم صلى الجمعة في الإيوان.


لما تسلم علي بن أبي طالب الخلافة بدأ بعزل بعض العمال وأبدلهم بآخرين، وكان ممن عزلهم معاوية بن أبي سفيان الذي كان على الشام, كان رأي علي في قتلة عثمان عدم الاستعجال في القصاص قبل أن يستتب الأمر ويقوى سلطان الخلافة, وكان معاوية على رأي أهل الجمل الاستعجال في الاقتصاص من قتلة عثمان، قرر علي عزل معاوية عن ولاية الشام, وولى بدلا عنه سهل بن حنيف، ولما سار الأخير للشام رفضه أهلها، وأبى معاوية الانعزال؛ لأنه يرى أن الأمر لم يستتب تماما لعلي، وخاصة أن قتلة عثمان لا يزالون يسرحون في البلاد، فقام علي بالحزم وهو لا يرضى اللين في مثل ذلك، فحرك جيشا إليه وهو على رأسهم؛ ولكنه تحول إلى البصرة بعد سماعه بخروج طلحة والزبير وعائشة ومن معهم، فكانت موقعة الجمل، وبعد أن انتهى من الجمل وبقي في الكوفة فترة أرسل خلالها جرير بن عبد الله لمعاوية ليبايع له، ويبين له حجة علي في أمر القتلة؛ لكن معاوية لم يعط جوابا، ثم تتابعت الرسل ولكن دون جدوى حتى سير علي الجيش، وعلم معاوية بذلك فسار بجيشه وسبق إلى صفين واستمكن من الماء، ولما وصل علي طلب أن يكون الماء حرا للطرفين فأبوا عليه، فاستطاع أهل العراق إزاحتهم عن الماء فجعله علي رضي الله عنه حرا للجميع، وبقي الطرفان أياما دون قتال، ثم وقع القتال ودخل شهر محرم فتوقف الفريقان عن القتال لعلهم يتصالحون، وكانت السفراء بينهم ولكن دون جدوى، فعلي باق على رأيه ومعاوية لا يستجيب بشيء، ثم عادت المناوشات واستمرت لشهر صفر، ثم اشتد القتال ثلاثة أيام قتل فيها عمار بن ياسر الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية).

ولما بدأت لوائح الهزيمة تلوح على أهل الشام اقترحوا التحكيم، ثم كتبت صحيفة التحكيم وشهد عليها رجال من الطرفين، ثم رحل علي إلى الكوفة ومعاوية إلى الشام، ثم اجتمع المحكمان أبو موسى الأشعري من طرف علي وعمرو بن العاص من طرف معاوية، ولكن اجتماعهما لم يسفر عن أي اتفاق مما جعل عليا يتهيأ للمسير ثانية للشام؛ ولكن أمر الخوارج صرفه عن ذلك.


هو محمد بن علي بن أبي طالب، أمه خولة بنت جعفر من بني حنيفة من سبي اليمامة، نسب إليها تمييزا له عن أخويه الحسن والحسين ولدي فاطمة رضي الله عنهم أجمعين، كانت الشيعة في زمانه تتغالى فيه، وتدعي إمامته، وأول من دعا إلى ذلك المختار الثقفي، ولقبوه بالمهدي، ويزعمون أنه لم يمت، كان أحد الأبطال الشجعان، وكان كثير العلم والورع، توفي في المدينة ودفن في البقيع كما قال ولده عبد الله، وله خمس وستون سنة.


هو سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي، أبو أيوب.

كان مولده بالمدينة في بني جذيلة، وهو الخليفة الأموي السابع، ويعد من خلفاء بني أمية الأقوياء, ولد بدمشق عام 54هـ وولي الخلافة بعد أخيه الوليد  عام 96هـ.

ومدة خلافته لا تتجاوز السنتين وسبعة شهور.

كان الناس في دمشق يسمونه مفتاح الخير، ذهب عنهم الحجاج، فولي سليمان، أحبه الناس وتباركوا به، أشاع العدل، وأنصف كل من وقف ببابه، كان فصيحا, ويتصف بالجمال والوقار، عظيم الخلقة، طويل القامة، أبيض الوجه، مقرون الحاجبين، فصيحا بليغا، عمل في فترة تولية الخلافة كل ما فيه مصلحة الناس، وحافظ على اتساع وقوة الدولة الأموية، واهتم بكل ما يعني الناس، أطلق الأسرى، وأخلى السجون، وأحسن معاملة الجميع، فكسب محبتهم، وكان من أعدل خلفاء بني أمية والمسلمين، واستخلف عمر بن عبد العزيز من بعده.

محبا للغزو، فتح في عهده جرجان وطبرستان، وجهز جيشا كبيرا من سواحل الشام بقيادة أخيه مسلمة ومعه ابنه داود، وسيره في السفن لحصار القسطنطينية، وسار سليمان بن عبد الملك مع الحملة حتى بلغ دابق، وعزم أن لا يعود منها حتى تفتح القسطنطينية أو يموت، فمات مرابطا في دابق شمال مدينة حلب.


لما قربت وفاة سليمان كان يريد أن يعهد لولده داود؛ لكن رجاء بن حيوة صرفه عن ذلك، فسأله عن عمر بن عبد العزيز فأثنى رجاء عليه، فجعل سليمان الأمر لعمر بن عبد العزيز، ثم ليزيد بن عبد الملك بعده، فكان لرجاء الفضل في إحكام ذلك بعد موت سليمان، فقرأ عليهم كتاب سليمان بعد أن أخذ البيعة على الكتاب منهم، ثم أجلس عمر بن عبد العزيز على المنبر بعد أن صلى عمر على سليمان، ثم انتقل إلى دار الخلافة بعد أن فرغت من أهل سليمان وبايعه كذلك عبد العزيز بن الوليد، وبذلك تمت له الخلافة.


هو إمام دار الهجرة، أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث الأصبحي، ثم المدني، جده الصحابي أبو عامر الأصبحي، كان طويلا عظيم الهامة أصلع أبيض الرأس واللحية.

أبيض شديد البياض إلى الشقرة.

ولد بالمدينة سنة ثلاث وتسعين، عام موت أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشأ في أسرة ذات صون ورفاهية وتجمل.

أحد الأئمة الأربعة المشهورين، إليه تنسب المالكية، كان إماما في الحديث بلا منازع، له كتاب الموطأ المشهور.

تعرض للفتنة أيام المنصور؛ بسبب فتوى له في قتال البغاة، أقام في المدينة، وكان يعظم ما جرى عليه عمل أهل المدينة في الفقه، وروى عن نافع مولى ابن عمر، وأكثر من رحل إليه للعلم المصريون والمغربيون، فكان هذا سبب انتشار مذهبه في تلك البقاع، توفي في المدينة ودفن في البقيع- رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.


هو هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، صاحب الأندلس، توفي في صفر، وكانت إمارته سبع سنين وسبعة أشهر وثمانية أيام، وقيل: تسعة أشهر، وقيل: سبعة أشهر، وكان عمره تسعا وثلاثين سنة وأربعة أشهر، كان ذا رأي وشجاعة وعدل، محبا لأهل الخير والصلاح، شديدا على الأعداء، راغبا في الجهاد، وهو الذي تمم بناء جامع قرطبة، وكان أبوه قد مات قبل فراغه منه، وبنى عدة مساجد معه، وبلغ من عز الإسلام في أيامه وذل الكفر أن رجلا مات في أيامه، فأوصى أن يفك أسير من المسلمين من تركته، فطلب ذلك، فلم يوجد في دار الكفار أسير يشترى ويفك؛ لضعف العدو وقوة المسلمين!


كان لآل برمك نفوذ كبير في دولة الرشيد؛ إذ كان يحيى بن خالد مربيا للرشيد، وكان أولاده جعفر والفضل وموسى ومحمد أتراب الرشيد، ثم تغيرت أحوال البرامكة وتبدل لهم الرشيد فجأة، فقتل جعفر بن يحيى وسجن يحيى وابنه الفضل، وصادر أملاكهم، وقد قيل في سبب ذلك أشياء؛ منها: أنهم- يعني البرامكة- زاد نفوذهم كثيرا، وزادت مصروفاتهم كثيرا، حتى فاقوا الخليفة بذلك؛ مما جعل أمرهم مريبا مخيفا؛ فقد بنى جعفر بيتا له كلفه عشرين مليون درهم، وعندما عاد الفضل بن يحيى من حربه في الديلم أطلق لمادحيه ثلاثة ملايين درهم.

وهذا السرف جعل الرشيد يتابعهم في الدواوين والكتابات، فاكتشف وجود خلل كبير في مصاريف الدولة.

وقيل: لتشيعهم وتعاطفهم مع العلويين؛ فقد حمل يحيى بن خالد البرمكي إلى يحيى بن عبد الله الطالبي في أثناء ثورته بالديلم مئتي ألف دينار، كما أن جعفرا أطلقه بعد سجنه من دون علم الخليفة.

وقد أحضر الخليفة جعفرا وسأله، فأقر بالأمر، فأظهر الرشيد أنه راض عن عمله، فلما خرج من مجلسه قال: "قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك", وقد يعد هذا من أقوى أسباب نقمة الرشيد عليهم، وقيل: لتعصبهم للفرس ومحاولة إقصاء العرب عن المناصب المهمة؛ فقد أبدوا كراهيتهم لمحمد بن الليث لميله عن العجم، وسعوا لدى الرشيد للإيقاع بيزيد بن مزيد الشيباني، واتهموه بالتراخي في قتال الخوارج.

وقيل: بل لأن الرشيد لما كان يحب أن يجتمع مع جعفر وأخته العباسة (أخت الرشيد) وهي محرمة على يحيى، فزوجها الرشيد من جعفر على ألا يقربها، بل فقط ليجتمعوا ويسمروا سويا، ولكن جعفرا أتاها فحملت العباسة منه، ولما ولدت وجهته إلى مكة، ثم علم الرشيد بذلك من بعض حواضن العباسة، فعد ذلك خيانة من جعفر،  وقد تناقل المؤرخون قصة عباسة وجعفر البرمكي، وكأنها أحدثت فعلا، بينما علية بنت المهدي تقول للرشيد بعد إيقاعه بالبرامكة: ما رأيت لك يوم سرور تاما منذ قتلت جعفرا، فلأيما شيء قتلته؟ فقال: لو علمت أن قميصي يعلم السبب الذي قتلت به جعفرا لأحرقته.

فهل كانت علية بنت المهدي جاهلة السبب لو كان هناك مثل هذه الفضيحة (قصة عباسة وجعفر البرمكي) في قصر الخلافة؟!