بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب في سرية إلي بطن رابغ -هي ميقات أهل الشام ومصر وتركيا ومن سلك طريقهم- في شعبان على رأس ثمانية أشهر من الهجرة، وعقد له لواء أبيض، وحمله مسطح بن أثاثة بن المطلب بن عبد مناف، وكانوا في ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصاري، فلقي أبا سفيان بن حرب، وهو في مائتين على بطن رابغ، على عشرة أميال من الجحفة، وكان بينهم الرمي، ولم يسلوا السيوف، ولم يصطفوا للقتال، وإنما كانت مناوشة، وكان سعد بن أبي وقاص فيهم، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، ثم انصرف الفريقان إلى حاميتهم.


عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها} [البقرة: 144]، فوجه نحو الكعبة، وصلى معه رجل العصر، ثم خرج فمر على قوم من الأنصار فقال: هو يشهد أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قد وجه إلى الكعبة، فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر.


في هذه السنة فرض صيام شهر رمضان، وقيل: إن فريضة صيام شهر رمضان كانت قبل غزوة بدر.


تسمى هذه الغزوة ببدر الآخرة، وبدر الصغرى، وبدر الثانية، وبدر الموعد؛ للمواعدة عليها مع أبي سفيان بن حرب يوم أحد؛ وذلك أن أبا سفيان لما انصرف من أحد نادى: "إن موعدكم بدر، العام المقبل".

فلما كانت السنة الرابعة من الهجرة، خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بألف وخمسمئة من أصحابه إلى بدر ومعه عشرة أفراس، وحمل لواءه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك في انتظار قدوم قريش حسب الموعد المحدد منذ وقعة أحد مع أبي سفيان زعيم قريش.

وانتظر المسلمون ثمانية أيام دون أن تقدم قريش، وكان أبو سفيان قد خرج بألفين ومعهم خمسون فرسا، فلما وصلوا مر الظهران على أربعين كيلا من مكة عادوا بحجة أن العام عام جدب، وكان لإخلافهم الموعد أثر في تقوية مكانة المسلمين وإعادة هيبتهم.

وقد واصل المسلمون إرسال سراياهم إلى الأنحاء المختلفة من نجد والحجاز لتأديب الأعراب، فقاد أبو عبيدة بن الجراح سرية إلى طيئ وأسد بنجد، فتفرقوا في الجبال دون أن يقع قتال.

وقاد الرسول صلى الله عليه وسلم جيشا من ألف مقاتل في شهر ربيع الأول من سنة خمس باتجاه دومة الجندل، وقد بلغه وجود تجمع للمشركين بها، ولكن الجمع تفرق عندما علموا بقدوم المسلمين الذين أقاموا أياما في المنطقة بثوا خلالها السرايا، فلم يلقوا مقاومة ورجعوا إلى المدينة بعد أن وادع في العودة عيينة بن حصن الفزاري.


اختلف العلماء في وقت وقوع هذه الغزوة، والأصح والأظهر أنها كانت في شعبان من السنة الخامسة للهجرة، وذهب إلى هذا القول الذهبي، وابن القيم، وابن كثير، وابن حجر، وغيرهم.

فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية.

فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء لهم يقال له: المريسيع.

من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم، ونفل الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عليه.

وقد كان من بين السبي جويرية بنت الحارث سيد القوم، فأسلمت وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وأعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فكانت من أعظم الناس بركة على قومها.


بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق -وهم بطن من قبيلة خزاعة الأزدية اليمانية- يجمعون لقتاله، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار؛ فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء لهم يقال له: (المريسيع)، ولذلك تسمى هذه الغزوة أيضا: بغزوة المريسيع.

فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم، ونفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عليه، وكان فيمن سبي جويرية رضي الله عنها بنت الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق، التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءته تستعينه في كتابتها، وجعل صداقها رضي الله عنها أربعين أسيرا من قومها، فأعتق الناس ما بأيديهم من الأسرى؛ لمكان جويرية رضي الله عنها.

وأثناء الرجوع من هذه الغزوة تكلم أهل الإفك بما تكلموا به في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، الصديقة بنت الصديق المبرأة من فوق سبع سموات.

وفيها أيضا قال ابن أبي ابن سلول قولته: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل!"، فسمعه زيد بن أرقم، ونزلت سورة "المنافقون".


دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فقال له: "تجهز؛ فإني باعثك في سرية من يومك هذا، أو من الغد إن شاء الله تعالى"، فأصبح عبد الرحمن فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقعده بين يديه وعممه بيده، ثم عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء بيده، أو أمر بلالا يدفعه إليه، ثم قال له: "خذه باسم الله وبركته"، ثم حمد الله تعالى، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "اغز باسم الله، وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله! ولا تغل -الغلول: هو الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة-، ولا تغدر، ولا تقتل وليدا"، ثم أمره رسول الله أن يسير إلى بني كلب بدومة الجندل، فيدعوهم إلى الإسلام، وقال له: "إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم".

فسار عبد الرحمن رضي الله عنه بأصحابه وكانوا سبعمئة رجل، حتى قدم دومة الجندل؛ فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام؛ فلما كان اليوم الثالث أسلم رأسهم وملكهم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانيا، وأسلم معه ناس كثير من قومه؛ فبعث عبد الرحمن رافع بن مكيث بشيرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بما فتح الله عليه وكتب له بذلك، وتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ وقدم بها المدينة، فولدت له بعد ذلك أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.


بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في ثلاثين رجلا إلى عجز هوازن -محل بينه وبين مكة أربع ليال بطريق صنعاء يقال له: تربة-.

وأرسل صلى الله عليه وسلم دليلا من بني هلال فكان يسير الليل ويكمن النهار، فأتى الخبر لهوازن فهربوا، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه محالهم فلم يجد منهم أحدا فانصرف راجعا إلى المدينة فلما كان بمحل بينه وبين المدينة ستة أميال قال له الدليل هل لك جمع آخر من خثعم؟ فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، إنما أمرني بقتال هوازن.


بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بناحية فدك، في ثلاثين رجلا.

وخرج إليهم واستاق الشاء والنعم، ثم رجع فأدركه الطلب عند الليل، فرموهم بالنبل حتى فني نبل بشير وأصحابه، فقتلوا جميعا إلا بشيرا، فإنه حمل وبه رمق إلى فدك، فأقام عند يهود حتى برأت جراحه، فرجع إلى المدينة.


بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة بن ربعي رضي الله عنه في سرية إلى خضرة؛ وذلك لأن بني غطفان كانوا يحتشدون في خضرة -وهي أرض محارب بنجد- فبعثه صلى الله عليه وسلم في خمسة عشر رجلا، فقتل منهم، وسبى وغنم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.


سيدة نساء العالمين في زمانها، بنت سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشية الهاشمية وأم الحسنين.

أمها خديجة بنت خويلد، ولدت قبل البعثة بقليل، وتزوجها علي بن أبي طالب بعد بدر، وقيل: بعد أحد, فولدت له الحسن والحسين ومحسنا وأم كلثوم وزينب.

وهي أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم، كانت من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناقبها غزيرة، وكانت صابرة دينة خيرة صينة قانعة شاكرة لله توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر أو نحوها، وهي أول أهل النبي صلى الله عليه وسلم لحوقا به.

وأوصت في وفاتها أن تغطى، فكانت أول امرأة يغطى نعشها في الإسلام، غسلها زوجها علي وأسماء بنت عميس وقد كانت تحت أبي بكر رضي الله عنهم، وصلى عليها علي، وقيل: العباس، وأوصت أن تدفن ليلا، ففعل ذلك بها، ونزل في قبرها علي والعباس، والفضل بن العباس.

انقطع نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا منها رضي الله عنها.


بعد أن انصرف خالد من عين التمر أقام بدومة الجندل فظن الفرس أنه قد غادر العراق متوجها إلى الجزيرة العربية مع القسم الأكبر من قواته، فأرادوا طرد قواته من العراق، واستعادة الأراضي التي فتحها المسلمون؛ فطمع الأعاجم، وكاتبهم عرب الجزيرة غضبا لعقة، فخرج زرمهر وروزبه يريدان الأنبار، واتعدا حصيدا والخنافس، فسمع  القعقاع بن عمرو وهو خليفة خالد على الحيرة، فأرسل أعبد بن فدكي وأمره بالحصيد، وأرسل عروة بن الجعد البارقي إلى الخنافس، ورجع خالد من دومة إلى الحيرة وهو عازم على مصادمة أهل المدائن محلة كسرى، لكنه كره أن يفعل ذلك بغير إذن أبي بكر الصديق، وشغله ما قد اجتمع من جيوش الأعاجم مع نصارى الأعراب يريدون حربه، فبعث القعقاع بن عمرو أميرا على الناس، فالتقوا بمكان يقال له: الحصيد، وعلى العجم رجل منهم يقال له: روزبه، وأمده أمير آخر يقال له: زرمهر، فاقتتلوا قتالا شديدا، وهزم المشركون وقتل منهم المسلمون خلقا كثيرا، وقتل القعقاع بيده زرمهر، وقتل رجل يقال له: عصمة بن عبد الله الضبي روزبه.

وغنم المسلمون شيئا كثيرا، وهرب من هرب من العجم، فلجأوا إلى مكان يقال له: خنافس، فسار إليهم أبو ليلى بن فدكي السعدي، فلما أحسوا بذلك ساروا إلى المصيخ، وعندما وصل أبو ليلى إلى الخنافس وجدها خالية من الفرس، فأقام بها مدة، ثم أرسل إلى خالد بن الوليد ينهي إليه أنباء استيلائه على المدينة، ويخبره بفرار الفرس إلى المصيخ، فلما استقر الفرس  بالمصيخ بمن معهم من الأعاجم والأعارب قصدهم خالد بن الوليد بمن معه من الجنود، وقسم الجيش ثلاث فرق، وأغار عليهم ليلا وهم نائمون فأنامهم، ولم يفلت منهم إلا اليسير فما شبهوا إلا بغنم مصرعة.


بعد أن هزم الفرس في النمارق وما بعدها اجتمعوا إلى رستم فأرسل جيشا كثيفا ومعهم راية كسرى وراية أفريدون  فالتقوا مع المسلمين وبينهم جسر فعبر أبو عبيد بن مسعود الثقفي الجسر إليهم وجرت المعركة، وكانت فيلة الفرس تؤذي المسلمين وتؤذي خيولهم، فقتل عدد من قادة المسلمين منهم أبو عبيد القائد، واستحر القتل في المسلمين فمضوا نحو الجسر فقطعه أحد المسلمين وقال: قاتلوا عن دينكم.

فاقتحم الناس الفرات فغرق ناس كثير، ثم عقد المثنى الجسر وعبر المسلمون واستشهد يومئذ من المسلمين ألف وثمانمائة، وقيل أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وانحاز بالناس المثنى بن حارثة الشيباني.


اجتمع المسلمون في القادسية ثلاثون ألفا بقيادة سعد بن أبي وقاص بعد أن أمره عمر بن الخطاب بدل خالد بن الوليد، مكث سعد في القادسية شهرا يبث السرايا في كل الجهات، ويأتي بالغنائم، فأمر يزدجرد رستم على جيش كثيف من مائة وعشرين ألفا، ومثلها من المدد، فبعث سعد إليه من يدعوه للإسلام وحاول الفرس أن يغروا المسلمين، فطلبوا إرسال أكثر من رجل فأتاهم ربعي، ثم حذيفة بن محصن، وأخيرا أتاهم المغيرة ولم تنفع في شيء، فبدأ القتال بعد الظهيرة وبقيت المعركة ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع اشتد أثر الفيلة على المسلمين، ثم في هذا اليوم هبت ريح شديدة على الفرس أزالت خيامهم فهربوا وقتل رستم قائدهم، وتمت الهزيمة على الفرس، وقتل منهم ما لا يحصى، ثم ارتحل سعد ونزل غربي دجلة، على نهر شير، قبالة مدائن كسرى، وديوانه المشهور، ولما شاهد المسلمون إيوان كسرى كبروا وقالوا: هذا أبيض كسرى، هذا ما وعد الله ورسوله.

واستشهد من المسلمين ألف وخمسمائة، وقتل من الفرس عشرون ألفا، وغنم المسلمون الكثير، وقيل: إنها كانت في سنة خمسة عشر.


هو رستم فرخزاد قائد الجيش الفارسي في عهد آخر ملوك الدولة الساسانية يزدجرد الثالث أصله من أرمينية، وكان يخدم ملك الفرس بإخلاص، أرسل يزدجرد الثالث القائد رستم مجبرا إياه قيادة الجيش الفارسي ليواجه جيوش المسلمين التي كانت تخترق العراق تمهيدا لفتح بلاد فارس، واجه رستم المسلمين في القادسية وفي رابع أيام القادسية هبت ريح شديدة فرفعت خيام الفرس عن أماكنها, وألقت سرير رستم الذي هو منصوب له، وتقدم القعقاع ومن معه حتى عثروا على سرير رستم وهم لا يرونه من الغبار، وكان رستم قد تركه واستظل ببغل, فوقع على رستم وهو لا يشعر به, فأزال من ظهره فقارا، وهرب رستم نحو نهر العتيق لينجو بنفسه, ولكن هلال بن علقمة التميمي أدركه, فأمسك برجله وسحبه ثم قتله، وصعد السرير ثم نادى: قتلت رستم ورب الكعبة، إلي، فأطافوا به, وما يرون السرير, وكبروا وتنادوا.


بقيت بقية من الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب يوم النهروان، وهؤلاء بقوا يبثون أفكارهم في الكوفة والبصرة وغيرها، وكان بدء تحركهم للخروج سنة 42هـ، عندما بدأوا يتشاورون في ذلك، فقد كانت الخوارج يلقى بعضهم بعضا فيذاكرون مصارع إخوتهم بالنهر، فيترحمون عليهم، ويحض بعضهم بعضا على الخروج للانتقام من حكامهم الجائرين، الذين عطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، فاجتمع رأيهم على ثلاثة نفر منهم لتولي قيادتهم: المستورد بن علفة التيمي، ومعاذ بن جويني الطائي، وحيان بن ظبيان السلمي الذي كان منزله مكانا لاجتماعاتهم، ولكن كل واحد من هؤلاء الثلاثة دفع تولي الخلافة عن نفسه، وأخيرا اتفقوا على أن يتولاها المستورد هذا، وكانوا أربعمائة شخص، ونادوه: بأمير المؤمنين، وكان المستورد ناسكا، كثير الصلاة، وله آداب وحكم مأثورة، وقد قام المغيرة بن شعبة بسجن بعضهم بعد أن علم نواياهم في الخروج عليه أيضا.

فعلم المستورد بن علفة بأمر المغيرة، وأنه بدأ يطلبهم فجهز جيشا, ثم اتفقوا على أن يكون الخروج في غرة شعبان, ولما علم بذلك المغيرة بن شعبة أرسل مدير شرطته قبيصة بن الدمون إلى مكان اجتماعهم وهو منزل حيان، فأخذوهم وجاءوا بهم إلى المغيرة فأودعهم السجن بعد استجوابهم وإنكارهم أن يكون اجتماعهم لشيء غير مدارسة كتاب الله، فأفرج عنهم.

وراح المستورد يراوغ في حربه للمغيرة فيخرج من مكان إلى آخر؛ حتى يبدد جيش المغيرة، ثم يلقاهم وقد تعبوا، فكان إلى أن كانت المعركة النهائية حيث تبارز المستورد مع معقل فضرب كل واحد منهما صاحبه فخرا ميتين، وهزمت الخوارج وقتلوا شر قتلة فلم ينج منهم غير خمسة أو ستة.


هي حفصة بنت عمر بن الخطاب، أمها زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب، كانت تحت خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي، هاجرا سويا للمدينة، ثم توفي عنها بعد بدر فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم طلقها تطليقة ثم ارتجعها، أمره جبريل بذلك وقال: (إن الله يأمرك أن ترجعها إنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة).

توفيت في المدينة في خلافة معاوية عام 45 هـ، ودفنت في البقيع رضي الله عنها وأرضاها.


هو الأمير أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم بن عثمان بن يسار، بن شذوس بن جودرن من ولد بزرجمهر بن البختكان الخراساني الفارسي صاحب الدعوة، وهازم جيوش الدولة الأموية، والقائم بإنشاء الدولة العباسية.

وقيل كان اسمه إبراهيم بن عثمان بن يسار غيره بطلب من الإمام إبراهيم بن محمد لمزيد من التخفي.

قال الذهبي: "كان أبو مسلم من أكبر الملوك في الإسلام، كان ذا شأن عجيب، ونبأ غريب، من رجل يذهب على حمار بإكاف من الشام حتى يدخل خراسان، ثم يملك خراسان بعد تسعة أعوام، ويعود بكتائب أمثال الجبال، ويقلب دولة، ويقيم دولة أخرى! كان قصيرا، أسمرا، جميلا، حلوا، نقي البشرة، أحور العين، عريض الجبهة، حسن اللحية، طويل الشعر، طويل الظهر، خافض الصوت، فصيحا بالعربية وبالفارسية، حلو المنطق، وكان لا يكاد يقطب في شيء من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام، فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الفادحة الشديدة، فلا يرى مكتئبا, وكان إذا غضب، لم يستفزه الغضب, وكان لا يأتي النساء في العام إلا مرة واحدة، يشير إلى شرف نفسه وتشاغلها بأعباء الملك".

كان مولده بأصبهان سنة 100, وضعته أمه يتيما فنشأ عند عيسى بن معقل، فلما ترعرع اختلف مع ولده إلى المكتب، فخرج أديبا لبيبا يشار إليه من صغره, وكان راوية للشعر، عارفا بالأمور، لم ير ضاحكا ولا مازحا إلا في وقته.

كان بدء أمر أبي مسلم أنه قدم الكوفة جماعة من نقباء العباسيين، فصادفوا أبا مسلم، فأعجبهم عقله ومعرفته وكلامه وأدبه، ومال هو إليهم ثم عرف أمرهم وأنهم دعاة، ثم خرج معهم إلى مكة، فأهدوه للإمام إبراهيم بن محمد، فأعجب به وبمنطقه وعقله وأدبه، وقال لهم: هذا عضلة من العضل.

وأقام أبو مسلم عند الإمام إبراهيم يخدمه حضرا وسفرا.

ثم إن النقباء عادوا إلى الإمام إبراهيم وسألوه رجلا يقوم بأمر خراسان، فقال: إني قد جربت هذا الأصبهاني وعرفت ظاهره وباطنه فوجدته حجر الأرض، ثم دعا أبا مسلم وكان عمره ثمان عشر سنة وقلده الأمر وأرسله إلى خراسان, فأخذ يدعو الناس إلى رجل من بني هاشم وأقام على ذلك سنين, وبعد مقتل الإمام إبراهيم بن علي صار أبو مسلم يدعو الناس إلى أبي العباس عبد الله بن محمد الملقب السفاح.

حتى مكن للعباسيين وقضى على الأمويين في الشرق وكان سفاكا للدماء قال ابن خلكان: "قتل أبو مسلم في دولته ستمائة ألف صبرا.

قيل لعبد الله بن المبارك: أبو مسلم خير أو الحجاج قال: لا أقول إن أبا مسلم خيرا من أحد، ولكن الحجاج كان شرا منه", وقال الذهبي: "كان أبو مسلم سفاكا للدماء، يزيد على الحجاج في ذلك، وهو أول من سن للعباسيين لبس السواد, وكان بلاء عظيما على عرب خراسان، فإنه أبادهم بحد السيف".

قال أحمد بن سيار: حدثنا الحسن بن رشيد العنبري، سمعت يزيد النحوي يقول: "أتاني إبراهيم بن إسماعيل الصائغ، فقال لي: ما ترى ما يعمل هذا الطاغية، إن الناس معه في سعة، غيرنا أهل العلم؟ قلت: لو علمت أنه يصنع بي إحدى الخصلتين لفعلت، إن أمرت ونهيت يقيل أو يقتل، ولكني أخاف أن يبسط علينا العذاب، وأنا شيخ كبير، لا صبر لي على السياط.

فقال الصائغ: لكني لا أنتهي عنه.

فذهب، فدخل عليه، فأمره ونهاه، فقتله" وكان أبو مسلم يجتمع قبل أن يعلن بدعوة العباسيين بإبراهيم الصائغ، ويعده بإقامة الحق, فلما ظهر وبسط يده، دخل عليه، فوعظه فقتله".

لما خشي المنصور من خطر أبي مسلم على دولته قرر التخلص منه, وكان المنصور قد غضب عليه لعدة أمور؛ منها: أنه تقدم عليه في الحج، وأكثر من النفقة حتى قيل فيه ما قيل، ثم إنه خافه بعد أن صار أمره في خراسان قويا، فبعد أن هزم أبو مسلم جيش عبد الله بن علي، أمره المنصور بالعودة إليه فأبى، فاحتال له أنه يوليه الشام ومصر فأبى عليه كل ذلك، وأرسل له رسلا وكتبا، كل ذلك وهو يأبى الرجوع؛ حيث شعر أن هناك مكيدة، ومن ذلك أن المنصور كاتب أبا مسلم ليقدم عليه، فكتب إليه أبو مسلم: "إنه لم يبق لك عدو إلا أمكنك الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان: إن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، فإن أرضاك ذلك، فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت نقضت ما أبرمت من عهدك، ضنا بنفسي، والسلام" فرد عليه الجواب يطمئنه ويمنيه، وكان المنصور داهية وقته، ثم لما جاءه الخبر أن المنصور سيقاتله بنفسه إن أبى الرجوع إليه، عاد، وقيل: إنه قيل له أن يقتل المنصور قبل أن يقتله، لكن المنصور احتال عليه وأمر بعضهم بالاختباء وراء الستور، فإذا صفق بيده انقضوا عليه، فدعاه المنصور على غدائه وعاتبه على أفعاله، وكل ذلك يعتذر أبو مسلم ويقبل يده، ولكنه لم يرض عنه حتى صفق بيده، فخرجوا وقتلوه، فكانت تلك نهاية أبي مسلم الخراساني، الذي كان له الأثر الكبير في توطيد دعائم الدعوة العباسية.

قتله المنصور وله من العمر سبع وثلاثون سنة.

قال الذهبي: " فرحنا بمصير الأمر إلى بني العباس، ولكن والله ساءنا ما جرى؛ لما جرى من سيول الدماء، والسبي، والنهب فإنا لله وإنا إليه راجعون فالدولة الظالمة مع الأمن وحقن الدماء، ولا دولة عادلة تنتهك دونها المحارم، وأنى لها العدل؟ بل أتت دولة أعجمية خراسانية جبارة، ما أشبه الليلة بالبارحة " وقال: "وقد كان بعض الزنادقة، والطغام من التناسخية، اعتقدوا أن الباري سبحانه وتعالى حل في أبي مسلم الخراساني المقتول، عندما رأوا من تجبره، واستيلائه على الممالك، وسفكه للدماء، فأخبار هذا الطاغية يطول شرحها".

لما قتل أبو مسلم الخرساني، خرج بخراسان سنباذ للطلب بثأر أبي مسلم، وكان سنباذ مجوسيا، فغلب على نيسابور والري، وظفر بخزائن أبي مسلم، واستفحل أمره, فجهز المنصور لحربه جمهور بن مرار العجلي، في عشرة آلاف فارس، فانهزم سنباذ، وقتل من عسكره نحو من ستين ألفا، وعامتهم كانوا من أهل الجبال، فسبيت ذراريهم، ثم قتل سنباذ بأرض طبرستان.


هو العلامة الفقيه المجتهد الرباني الحنفي، أبو الهذيل زفر بن الهذيل بن قيس بن سلم ولد سنة 110 في العراق.

وكانت أسرة زفر على جانب من سعة الرزق وبحبوحة العيش، وهو ما ساعده على الانصراف إلى طلب العلم دون أن يشغل نفسه بأعباء الحياة، فحفظ القرآن صغيرا واستقام به لسانه، وتفتحت مواهبه واستعدت لطلب العلم، ومالت نفسه ورغبت في تلقي الحديث النبوي، فتردد على حلقاته واتصل بشيوخه الأبرار، وفي مقدمتهم محدث الكوفة سليمان بن مهران المعروف بالأعمش، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسعيد بن أبي عروبة، وإسماعيل بن أبي خالد، ومحمد بن إسحاق، وأيوب السختياني في أصبهان.

ثم ذهب إلى أصبهان مع والده، في خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكان أبوه قد تولى أمر أصبهان، وفي الفترة التي أقامها زفر في أصبهان أخذ عن علمائها ومحدثيها المشهورين، حتى أصبح حافظا متقنا، وثقة مأمونا.

ولما رسخت قدمه في السنة أقبل عليه طلاب العلم يتعلمون على يديه، ويروون عنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر هؤلاء: أبو نعيم الأصبهاني، وحسان بن إبراهيم، وأكثم بن محمد، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، وخالد بن الحارث.

وكان زفر محدثا بصيرا وخبيرا بفنون الحديث، وناقدا دقيقا، ويصف أبو نعيم ذلك بقوله: "كنت أعرض الحديث على زفر، فيقول هذا ناسخ وهذا منسوخ، وهذا يؤخذ به وهذا يرفض".

وبلغ من سعة علمه وتمكنه من فنون الحديث وقدرته على التمييز بين درجات الحديث من حيث الصحة والضعف أنه كان يقول للحافظ أبي نعيم: "هات أحاديثك، أغربلها لك غربلة"، ولما عاد إلى الكوفة وكانت تموج بحلقات العلماء، استأنف اتصاله بكبار الأئمة، وانتظم في حلقاتهم، ونهل من علمهم، حتى اتصل بأبي حنيفة النعمان، وكان قد انتهت إليه رئاسة الفقه في العراق، واتسعت شهرته، فلازمه ملازمة لصيقة، حتى غلب عليه الفقه وعرف به، فقيل: "كان صاحب حديث، ثم غلب عليه الفقه".

ويذكر أبو جعفر الطحاوي أن سبب انتقال زفر إلى حلقة أبي حنيفة مسألة فقهية أعيته وأعيت أصحابه من المحدثين، وعجزوا عن حلها، فلما أتى بها إلى أبي حنيفة أجابه إجابة شافية، فكان ذلك أحد الأسباب التي دفعت بزفر إلى الاشتغال بالفقه والإقبال عليه، فالتزم أبا حنيفة أكثر من عشرين سنة، ووجد فيه الفهم العميق والفكر السديد، ومالت نفسه إليه.

ولما توفي أبو حنيفة النعمان خلفه في حلقته زفر بن الهذيل بإجماع تلامذة الإمام دون معارضة، وقد رفض منصب القضاء حين عرض عليه، وظل منقطعا إلى العلم، وقد توفي وهو في الثامنة والأربعين.

قال الذهبي: ذكره يحيى بن معين، فقال: ثقة مأمون


هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، أمير المؤمنين في الحديث، أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري التميمي، ولد سنة 97 بالكوفة, وهو سيد أهل زمانه في العلم والدين، من كبار تابعي التابعين, وأحد الأئمة المجتهدين الذين كان لهم أتباع، مصنف كتاب (الجامع) ولد: سنة 98 اتفاقا، وطلب العلم وهو حدث باعتناء والده المحدث الصادق سعيد بن مسروق الثوري، وكان والده من أصحاب الشعبي، وخيثمة بن عبد الرحمن، ومن ثقات الكوفيين، وعداده في صغار التابعين, ولا يختلف في إمامة سفيان وأمانته وحفظه وعلمه وزهده.

قال يونس بن عبيد: "ما رأيت أفضل من سفيان الثوري، فقيل له: يا أبا عبد الله رأيت سعيد بن جبير، وإبراهيم، وعطاء، ومجاهدا وتقول هذا؟ قال: هو ما أقول، ما رأيت أفضل من سفيان" قال عبد الرحمن بن مهدي: "ما رأيت رجلا أحسن عقلا من مالك بن أنس، ولا رأيت رجلا أنصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن مبارك، ولا أعلم بالحديث من سفيان، ولا أقشف من شعبة".

وقد ساق الذهبي جملة من اقوال الأئمة والعلماء في الثوري منها: قال ابن المبارك: "كتبت عن ألف ومائة شيخ، ما كتبت عن أفضل من سفيان, وما نعت لي أحد فرأيته، إلا وجدته دون نعته، إلا سفيان الثوري.

قال أبو حنيفة: لو كان سفيان الثوري في التابعين، لكان فيهم له شأن.

وقال أيضا: لو حضر علقمة والأسود، لاحتاجا إلى سفيان.

وقال المثنى بن الصباح: سفيان عالم الأمة، وعابدها.

وقال ابن أبي ذئب،: ما رأيت أشبه بالتابعين من سفيان الثوري.

وقال شعبة: ساد سفيان الناس بالورع والعلم, وهو أمير المؤمنين في الحديث.

وقال ابن عيينة،: ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري.

وقال أحمد بن حنبل: قال لي ابن عيينة: لن ترى بعينيك مثل سفيان الثوري حتى تموت.

وعن حفص بن غياث، قال: ما أدركنا مثل سفيان، ولا أنفع من مجالسته.

وقال أبو معاوية: ما رأيت قط أحفظ لحديث الأعمش من الثوري، كان يأتي، فيذاكرني بحديث الأعمش، فما رأيت أحدا أعلم منه بها.

وقال يحيى بن سعيد: سفيان أعلم بحديث الأعمش من الأعمش.

وقال ابن عرعرة: سمعت يحيى بن سعيد يقول: سفيان أثبت من شعبة، وأعلم بالرجال.

وقال محمد بن زنبور: سمعت الفضيل يقول: كان سفيان والله أعلم من أبي حنيفة.

وقال بشر الحافي: سفيان في زمانه، كأبي بكر وعمر في زمانهما.
".

يقال: إن عدد شيوخه ستمائة شيخ، وكبارهم الذين حدثوه عن: أبي هريرة، وجرير بن عبد الله، وابن عباس، وأمثالهم.

وقد قرأ الختمة عرضا على: حمزة الزيات أربع مرات.

وأما الرواة عنه فقد حدث عنه من القدماء من مشيخته وغيرهم خلق، منهم: الأعمش، وأبان بن تغلب، وابن عجلان، وخصيف، وابن جريج، وجعفر الصادق، وجعفر بن برقان، وأبو حنيفة، والأوزاعي، ومعاوية بن صالح، وابن أبي ذئب، ومسعر، وشعبة، ومعمر وكلهم ماتوا قبله, وغيرهم كثير.

قال يحيى بن أيوب العابد: حدثنا أبو المثنى، قال: "سمعتهم بمرو يقولون: قد جاء الثوري، قد جاء الثوري.

فخرجت أنظر إليه، فإذا هو غلام قد بقل وجهه - خرج شعر وجهه-.

قلت (الذهبي): "كان ينوه بذكره في صغره، من أجل فرط ذكائه، وحفظه، وحدث وهو شاب قال أبو بكر بن عياش: إني لأرى الرجل يصحب سفيان، فيعظم في عيني.

وقال ورقاء، وجماعة: لم ير سفيان الثوري مثل نفسه.
" كان سفيان رأسا في الزهد، والتأله، والخوف، رأسا في الحفظ، رأسا في معرفة الآثار، رأسا في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم, وهو من أئمة الدين، وكان يكثر من ذكر الآخرة, واغتفر له غير مسألة اجتهد فيها، وفيه تشيع يسير، كان يثلث بعلي، وهو على مذهب بلده أيضا في النبيذ.

ويقال: رجع عن كل ذلك، وكان ينكر على الملوك، ولا يرى الخروج أصلا ومن أقوله رحمه الله: ما أودعت قلبي شيئا فخانني.

قال وكيع، سمعت سفيان يقول: ليس الزهد بأكل الغليظ، ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل، وارتقاب الموت.

وقال يحيى بن يمان: سمعت سفيان يقول: المال داء هذه الأمة، والعالم طبيب هذه الأمة، فإذا جر العالم الداء إلى نفسه، فمتى يبرئ الناس وقال عبد الرزاق: دعا الثوري بطعام ولحم، فأكله، ثم دعا بتمر وزبد، فأكله، ثم قام، وقال: أحسن إلى الزنجي، وكده.

أبو هشام الرفاعي: سمعت يحيى بن يمان، عن سفيان، قال: إني لأرى الشيء يجب علي أن أتكلم فيه، فلا أفعل، فأبول دما.

وقال سفيان: ما وضع رجل يده في قصعة رجل، إلا ذل له.

قيل: إن عبد الصمد عم المنصور دخل على سفيان يعوده، فحول وجهه إلى الحائط، ولم يرد السلام.

فقال عبد الصمد: يا سيف! أظن أبا عبد الله نائما.

قال: أحسب ذاك أصلحك الله.

فقال سفيان: لا تكذب، لست بنائم.

فقال عبد الصمد: يا أبا عبد الله! لك حاجة؟ قال: نعم، ثلاث حوائج: لا تعود إلي ثانية، ولا تشهد جنازتي، ولا تترحم علي.

فخجل عبد الصمد، وقام، فلما خرج، قال: والله لقد هممت أن لا أخرج، إلا ورأسه معي.

دعاه المنصور لتولي القضاء فأبى، ثم طلبه المهدي لذلك, فأبى ثم أتي به للمهدي، فلما دخل عليه سلم تسليم العامة ولم يسلم بالخلافة، والربيع قائم على رأس المهدي متكئا على سيفه يرقب أمر الثوري، فأقبل عليه المهدي بوجه طلق، وقال له: يا سفيان، تفر منا ها هنا وها هنا وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك، فقد قدرنا عليك الآن، أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا قال سفيان: إن تحكم في يحكم فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل، فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين، ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا إيذن لي أن أضرب عنقه، فقال له المهدي: اسكت ويلك، وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن نقتلهم فنشقى بسعادتهم اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على أن لا يعترض عليه في حكم، فكتب عهده ودفع إليه، فأخذه وخرج فرمى به في دجلة وهرب، فطلب في كل بلد فلم يوجد.

هرب إلى مكة أولا، ثم خرج إلى البصرة وبقي فيها متواريا حتى مات فيها", وأخرجت جنازته على أهل البصرة فجأة، فشهده الخلق، وصلى عليه عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر، ونزل في حفرته هو وخالد بن الحارث.

مات وله ثلاث وستون سنة.