Warning: Undefined array key "sirA3lam" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73

Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73


افتتح موسى بن نصير جزيرتي ميورقة ومنورقة، وهما جزيرتان في البحر بين جزيرة صقلية وجزيرة الأندلس؛ وتسمى هذه الغزوة غزوة الأشراف لكثرة الأشراف الذين كانوا بها من أشراف العرب.


كانت بداية فتح الأندلس بأن يوليان حاكم الجزيرة الخضراء غضب من لذريق (رودريغو) ملك الأندلس فاتفق مع موسى بن نصير على أن يدله على عوراتهم ويدخله الأندلس, فكتب موسى إلى الوليد يستأذنه في غزو الأندلس, فكتب إليه الوليد: خضها بالسرايا، ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال.

فكتب إليه موسى: إنه ليس ببحر متسع، وإنما هو خليج يبين ما وراءه.

فكتب إليه الوليد: أن اختبرها بالسرايا، وإن كان الأمر على ما حكيت.

فبعث موسى رجلا من مواليه يقال له طريف بن مالك أبو زرعة في أربعمائة رجل ومعهم مائة فرس، وهو أول من دخل الأندلس من المسلمين، فسار في أربع سفائن، فخرج في جزيرة بالأندلس، سميت جزيرة طريف لنزوله فيها، ثم أغار على الجزيرة الخضراء، فأصاب غنيمة كثيرة، ورجع سالما.

فلما رأى الناس ذلك تسرعوا إلى الغزو.


أمر الرشيد بهدم الكنائس والدور بالثغور، وألزم أهل الذمة بتمييز لباسهم وهيئاتهم وركوبهم عن المسلمين في بغداد وغيرها من البلاد.


أوقع الأمير الحكم بن هشام- صاحب الأندلس- بأهل طليطلة، فقتل منهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل من أعيان أهلها، وسبب ذلك أن أهل طليطلة كانوا قد طمعوا في الأمراء، وخلعوهم مرة بعد أخرى، وقويت نفوسهم بحصانة بلدهم وكثرة أموالهم، فلم يكونوا يطيعون أمراءهم طاعة مرضية، فلما أعيا الحكم شأنهم أعمل الحيلة في الظفر بهم، فاستعان في ذلك بعمروس بن يوسف المعروف بالمولد، حيث دخل طليطلة وأنسوا به واطمأنوا له، وأشاع عمروس أن عبد الرحمن بن الحكم يريد أن يتخذ لهم وليمة عظيمة، وشرع في الاستعداد لذلك، وواعدهم يوما ذكره، وقرر معهم أن يدخلوا من باب، ويخرجوا من آخر ليقل الزحام، ففعلوا ذلك، فلما كان اليوم المذكور أتاه الناس أفواجا، فكان كلما دخل فوج، أخذوا وحملوا إلى جماعة من الجند على حفرة كبيرة في ذلك القصر، فضربت رقابهم عليها، فذلت رقابهم بعدها وحسنت طاعتهم بقية أيام الحكم وأيام ولده عبد الرحمن، ثم انجبرت مصيبتهم، وكثروا، فلما هلك عبد الرحمن وولي ابنه محمد عاجلوه بالخلع.


تجهز لذريق ملك الفرنج بالأندلس، وجمع جموعه ليسير إلى مدينة طرطوشة ليحصرها، فبلغ ذلك الحكم بن هشام صاحب الأندلس، فجمع العساكر وسيرها مع ولده عبد الرحمن، فاجتمعوا في جيش عظيم، وتبعهم كثير من المتطوعة، فساروا فلقوا الفرنج في أطراف بلادهم قبل أن ينالوا من بلاد المسلمين شيئا، فاقتتلوا وبذل كل من الطائفتين جهده، واستنفد وسعه، فأنزل الله تعالى نصره على المسلمين، فانهزم الكفار، وكثر القتل فيهم، والأسر، ونهبت أموالهم وأثقالهم، وعاد المسلمون ظافرين غانمين.


خرج رجل بسواد العراق يقال له ثروان بن سيف الحروري، وجعل يتنقل فيها من بلد إلى بلد، فوجه إليه الرشيد طوق بن مالك فهزمه، وجرح ثروان وقتل عامة أصحابه، وكتب بالفتح إلى الرشيد، لكن ثروان هرب فنجا من القتل.


أمر محمد بن سليمان- الذي ولاه المكتفي قتال القرامطة- بمناهضة صاحب الشامة القرمطي الحسين بن زكرويه - المدعي أنه أحمد بن عبد الله- فسار إليه في عساكر الخليفة، حتى لقوه وأصحابه بمكان بينهم وبين حماة اثنا عشر ميلا، فقدم القرمطي أصحابه إليهم، وبقي في جماعة من أصحابه، معه مال كان جمعه، وسواد عسكره، والتحمت الحرب بين أصحاب الخليفة والقرامطة، واشتدت وانهزمت القرامطة وقتلوا كل قتلة، وأسر من رجالهم بشر كثير، وتفرق الباقون في البوادي، وتبعهم أصحاب الخليفة،فلما رأى صاحب الشامة ما نزل بأصحابه، حمل أخا له يكنى أبا الفضل مالا، وأمره أن يلحق بالبوادي إلى أن يظهر بمكان فيسير إليه، وركب هو وابن عمه المسمى بالمدثر، والمطوق صاحبه، وغلام له رومي، وأخذ دليلا وسار يريد الكوفة عرضا في البرية، فانتهى إلى الدالية من أعمال الفرات، وقد نفد ما معهم من الزاد والعلف، فوجه بعض أصحابه إلى الدالية المعروفة بدالية ابن طوق ليشتري لهم ما يحتاجون إليه، فدخلها فأنكروا زيه، فسألوه عن حاله فكتمه، فرفعوه إلى متولي تلك الناحية الذي يعرف بأبي خبزة خليفة أحمد بن محمد بن كشمرد، فسأله عن خبره، فأعلمه أن صاحب الشامة خلف رابية هناك مع ثلاثة نفر، فمضى إليهم وأخذهم، وأحضرهم عند ابن كشمرد، فوجه بهم إلى المكتفي بالرقة، ورجعت الجيوش من الطلب، وفي يوم الاثنين لأربع بقين من المحرم أدخل صاحب الشامة الرقة ظاهرا على فالج- وهو الجمل ذو السنامين- وبين يديه المدثر والمطوق؛ وسار المكتفي إلى بغداد ومعه صاحب الشامة وأصحابه، وخلف العساكر مع محمد بن سليمان، وأدخل القرمطي بغداد على فيل، وأصحابه على الجمل، ثم أمر المكتفي بحبسهم إلى أن يقدم محمد بن سليمان، فقدم بغداد، وقد استقصى في طلب القرامطة، فظفر بجماعة من أعيانهم ورؤوسهم، فأمر المكتفي بقطع أيديهم وأرجلهم، وضرب أعناقهم بعد ذلك، وأخرجوا من الحبس، وفعل بهم ذلك، وضرب صاحب الشامة مائتي سوط، وقطعت يداه، وكوي فغشي عليه، وأخذوا خشبا وجعلوا فيه نارا ووضعوه على خواصره، فجعل يفتح عينه ويغمضها، فلما خافوا موته ضربوا عنقه، ورفعوا رأسه على خشبة، فكبر الناس لذلك، ونصب على الجسر.


خرجت الترك في خلق كثير لا يحصون إلى ما وراء النهر، وكان في عسكرهم سبعمائة قبة تركية، ولا يكون إلا للرؤساء منهم، فوجه إليهم إسماعيل بن أحمد الساماني جيشا كثيرا، وتبعهم من المتطوعة خلق كثير، فساروا نحو الترك، فوصلوا إليهم وهم غارون، فكبسهم المسلمون مع الصبح، فقتلوا منهم خلقا عظيما لا يحصون، وانهزم الباقون، واستبيح عسكرهم، وعاد المسلمون سالمين غانمين.


في هذه السنة سار المعروف بغلام زرافة من طرسوس نحو بلاد الروم، ففتح مدينة أنطاكية، وهي تعادل القسطنطينية، فتحها بالسيف عنوة، فقتل خمسة آلاف رجل، وأسر مثلهم، واستنقذ من الأسارى خمسة آلاف، وأخذ لهم ستين مركبا فحمل فيها ما غنم من الأموال والمتاع والرقيق، وقدر نصيب كل رجل ألف دينار، وهذه المدينة على ساحل البحر، فاستبشر المسلمون بذلك.


خرج من الروم عشرة صلبان مع كل صليب عشرة آلاف إلى الثغور، فغاروا على أطراف بلاد المسلمين، فأحرقوا, وقتلوا خلقا وسبوا نساء وذرية.


ثار الأتراك ببغداد بنائب السلطان، وهو أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة البويهي، فهرب منهم، ووقعت الفتنة بين الأتراك والعامة من أهل الكرخ وهم رافضة، وقتل بينهم قتلى كثيرون، ثم إن السنة من أهل بغداد ساعدوا الأتراك على أهل الكرخ، فضعفوا عن الجميع، فسعى الأشراف في إصلاح الحال فسكنت الفتنة.


أمر الخليفة القادر بالله بالبيعة لولده أبي الفضل بولاية العهد، وأحضر حجاج خراسان وأعلمهم ذلك، وكان سبب هذه البيعة أن رجلا يقال له عبد الله بن عثمان الواثقي من ولد الواثق بالله أحد الخلفاء السابقين، كان من أهل نصيبين، ذهب إلى بعض الأطراف من بلاد الترك، وادعى أن القادر بالله جعله ولي العهد من بعده، فخطبوا له هنالك، فلما بلغ القادر أمره عظم عليه، فبعث يتطلبه فهرب في البلاد وتمزق، ثم أخذه محمود بن سبكتكين فسجنه في قلعة إلى أن مات؛ لهذا بادر القادر إلى هذه البيعة, فبايع لولده أبي الفضل بولاية العهد, ولقبه الغالب بالله، وكان عمره حينئذ ثماني سنين وشهورا.


سار الفرنجة إلى أنطاكية ولم ينازلوها، وجاؤوا إلى المعرة فنصبوا عليها السلالم فنزلوا إليها فقتلوا من أهلها مائة ألف إنسان، وسبوا مثلها.

ثم دخلوا كفر طاب وفعلوا مثل ذلك، وعادوا إلى أنطاكية، وكان بها الأمير باغي سيان، وكان على الفرنج صنجيل، فحاصرها مدة، فنافق رجل من أنطاكية يقال له فيروز,, وفتح لهم في الليل شباكا فدخلوا منه, قال أبو يعلى بن القلانسي: "في جمادى الأولى ورد الخبر بأن قوما من أهل أنطاكية عملوا عليها وواطؤوا الفرنج على تسليمها إليهم لإساءة تقدمت من حاكم البلد في حقهم ومصادرته لهم، ووجدوا الفرصة في برج من الأبراج التي للبلد مما يلى الجبل، فباعوهم إياه، وأصعدوا منه في السحر وصاحوا، فانهزم ياغي سيان وخرج في خلق عظيم، فلم يسلم منهم شخص! فسقط الأمير عن فرسه عند معرة مصرين، فحمله بعض أصحابه وأركبه فلم يثبت على ظهر الفرس وسقط ثانيا فمات.

وأما أنطاكية فقتل منها وسبي من الرجال والنساء والأطفال ما لا يدركه حصر، وهرب إلى القلعة قدر ثلاثة آلاف تحصنوا بها".


خرج أمير الجيوش الأفضل بن بدر الجمالي في عساكر جمة، ورحل من القاهرة في شعبان، وسار يريد أخذ بيت المقدس من الأمير سكمان وإيلغازي بني أرتق، وكانا به في كثير من أصحابهما، فبعث إليهما يلتمس منهما أن يسلما البلد ولا يحوجاه إلى الحرب، فأبيا عليه، فنزل على البلد ونصب عليها من المجانيق نيفا وأربعين منجنيقا، وأقام عليها يحاصرها نيفا وأربعين يوما، حتى هدم جانبا من السور، ولم يبق إلا أخذها، فسير إليه من بها ومكناه من البلد.

فخلع على ولدي أرتق وأكرمهما، وأخلى عنهما، فمضيا بمن معهما.

وملك البلد في شهر رمضان لخمس بقين منه، وولى فيه من قبله.


كان أخذ المعرة بعد أخذ أنطاكية.

ولما وقع ذلك اجتمع ملوك الإسلام بالشام، وهم رضوان صاحب حلب، وأخوه دقماق، وطغتكين صاحب دمشق، وصاحب الموصل، وسكمان بن أرتق صاحب ماردين، وأرسلان شاه صاحب سنجار, ولم ينهض أمير الجيوش الأفضل بن بدر بإخراج عساكر مصر مع قدرته على المال والرجال, فاجتمع الجميع ونازلوا أنطاكية وضيقوا على الفرنج حتى أكلوا ورق الشجر.

وكان صنجيل مقدم الفرنج عنده دهاء ومكر، فرتب مع راهب حيلة وقال: اذهب فادفن هذه الحربة في مكان كذا، ثم قل للفرنج بعد ذلك: رأيت المسيح في منامي وهو يقول: في المكان الفلاني حربة مدفونة فاطلبوها، فإن وجدتموها فالظفر لكم، وهي حربتي، فصوموا ثلاثة أيام وصلوا وتصدقوا، ثم قام وهم معه إلى المكان ففتشوه فظهرت الحربة؛ فصاحوا وصاموا وتصدقوا وخرجوا إلى المسلمين من الباب متفرقين من خمسة، وستة، ونحو ذلك، فقال المسلمون لكربوقا: ينبغي أن تقف على الباب، فتقتل كل من يخرج، فإن أمرهم الآن وهم متفرقون سهل.

فقال: لا تفعلوا، أمهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم! ولم يمكن من معاجلتهم، فقتل قوم من المسلمين جماعة من الخارجين، فجاء إليهم هو بنفسه ومنعهم ونهاهم، فلما تكامل خروج الفرنج ولم يبق بأنطاكية أحد منهم، ضربوا مصافا عظيما، فولى المسلمون منهزمين؛ لما عاملهم به كربوقا أولا من الاستهانة بهم والإعراض عنهم، وثانيا: من منعهم عن قتل الفرنج، وتمت الهزيمة عليهم، ولم يضرب أحد منهم بسيف، ولا طعن برمح، ولا رمى بسهم! وآخر من انهزم سقمان بن أرتق، وجناح الدولة؛ لأنهما كانا في الكمين، وانهزم كربوقا معهم.

فلما رأى الفرنج ذلك ظنوه مكيدة؛ إذ لم يجر قتال ينهزم من مثله! وخافوا أن يتبعوهم، وثبت جماعة من المجاهدين، وقاتلوا حسبة، وطلبا للشهادة، فقتل الفرنج منهم ألوفا، وغنموا ما في العسكر من الأقوات والأموال والأثاث والدواب والأسلحة، فصلحت حالهم، وعادت إليهم قوتهم، فلما فعل الفرنج بالمسلمين ما فعلوا ساروا إلى معرة النعمان، فنازلوها وحصروها، وقاتلهم أهلها قتالا شديدا، ورأى الفرنج منهم شدة ونكاية، ولقوا منهم الجد في حربهم، والاجتهاد في قتالهم، فعملوا عند ذلك برجا من خشب يوازي سور المدينة، ووقع القتال عليه، فلم يضر المسلمين ذلك، فلما كان الليل خاف قوم من المسلمين، وانتابهم الفشل والهلع، وظنوا أنهم إذا تحصنوا ببعض الدور الكبار امتنعوا بها، فنزلوا من السور وأخلوا الموضع الذي كانوا يحفظونه، فرآهم طائفة أخرى، ففعلوا كفعلهم، فخلا مكانهم أيضا من السور، ولم تزل تتبع طائفة منهم التي تليها في النزول حتى خلا السور! فصعد الفرنج إليه على السلاليم، فلما علوه تحير المسلمون، ودخلوا دورهم، فوضع الفرنج فيهم السيف ثلاثة أيام، فقتلوا ما يزيد على مائة ألف، وسبوا السبي الكثير، وملكوه، وأقاموا أربعين يوما! وساروا إلى عرقة فحصروها أربعة أشهر، ونقبوا سورها عدة نقوب، فلم يقدروا عليها، وراسلهم منقذ صاحب شيزر، فصالحهم عليها، وساروا إلى حمص وحصروها فصالحهم صاحبها جناح الدولة، وخرجوا على طريق النواقير إلى عكا فلم يقدروا عليها.

ثم كتب دقماق ورضوان والأمراء إلى الخليفة المستظهر العباسي يستنصرونه، فأخرج الخليفة أبا نصر ابن الموصلايا إلى السلطان بركيارق بن السلطان ملكشاه السلجوقي يستنجده.

كل ذلك وعساكر مصر لم تهيأ للخروج!!


لما عبر أبو يوسف يعقوب، صاحب المغرب، إلى الأندلس، وأقام مجاهدا ثلاث سنين، انقطعت أخباره عن إفريقية، فقوي طمع علي بن إسحق الملثم الميورقي، وكان بالبرية مع العرب، فعاود قصد إفريقية، فبث جنوده في البلاد فخربوها، وأكثروا الفساد فيها، فمحيت آثار تلك البلاد وتغيرت، وصارت خالية من الأنيس، خاوية على عروشها، وأراد المسير إلى بجاية ومحاصرتها لاشتغال يعقوب بالجهاد، وأظهر أنه إذا استولى على بجاية سار إلى المغرب، فوصل الخبر إلى يعقوب بذلك فصالح الفرنج، وعاد إلى مراكش عازما على قصده، وإخراجه من البلاد.


خرج الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين من مصر في عساكره إلى دمشق يريد حصرها مرة أخرى، فعاد عنها منهزما، وسبب ذلك أن من عنده من مماليك أبيه، وهم المعروفون بالصلاحية، كانوا لا يزالون يخوفون العزيز من أخيه، وبينوا له أن المصلحة أخذ دمشق، فخرج من العام الماضي وعاد، فتجهز هذه السنة ليخرج، فبلغ الخبر إلى الأفضل، فسار من دمشق إلى عمه الملك العادل، فاجتمع به بقلعة جعبر، ودعاه إلى نصرته، وسار من عنده إلى حلب، إلى أخيه الملك الظاهر غازي، فاستنجد به، وسار الملك العادل من قلعة جعبر إلى دمشق، فسبق الأفضل إليها ودخلها، وكان الأفضل لثقته به قد أمر نوابه بإدخاله إلى القلعة، ثم عاد الأفضل من حلب إلى دمشق، ووصل الملك العزيز إلى قرب دمشق، ثم استقرت القاعدة أن الأفضل يملك الديار المصرية، ويسلم دمشق إلى عمه الملك العادل، فلم يمكن العزيز المقام، بل عاد منهزما يطوي المراحل خوف الطلب، ولا يصدق بالنجاة، وتساقط أصحابه عنه إلى أن وصل إلى مصر، وركب وراءه العادل والأفضل ليأخذا منه مصر، وقد اتفقا على أن يكون ثلث مصر للعادل وثلثاها للأفضل، ثم بدا للعادل في ذلك فأرسل للعزيز يثبته، وأقبل على الأفضل يثبطه، وأقاما على بلبيس أياما حتى خرج إليهما القاضي الفاضل من جهة العزيز، فوقع الصلح على أن يرجع القدس ومعاملتها للأفضل، ويستقر العادل مقيما بمصر على إقطاعه القديم، فأقام العادل بها طمعا فيها ورجع العادل إلى دمشق بعد ما خرج العزيز لتوديعه، وهي هدنة على قذا، وصلح على دخن، فلما استقر الأمر على ذلك وتعاهدوا عاد الأفضل إلى دمشق وبقي العادل بمصر عند العزيز.


جهز الخليفة الناصر لدين الله جيشا وسيره إلى أصفهان، ومقدمهم سيف الدين طغرل، مقطع بلد اللحف من العراق، وكان بأصفهان عسكر لخوارزم شاه مع ولده، وكان أهل أصفهان يكرهونهم، فكاتب صدر الدين الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان الديوان ببغداد يبذل من نفسه تسليم البلد إلى من يصل الديوان من العساكر، وكان هو الحاكم بأصفهان على جميع أهلها، فسيرت العساكر، فوصلوا إلى أصفهان، ونزلوا بظاهر البلد، وفارقه عسكر خوارزم شاه، وعادوا إلى خراسان، وتبعهم بعض عسكر الخليفة، فتخطفوا منهم، وأخذوا من ساقة العسكر من قدروا عليه، ودخل عسكر الخليفة إلى أصفهان وملكوها.


غزا أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن، صاحب بلاد المغرب والأندلس، بلاد الفرنج بالأندلس، وسبب ذلك أن ألفونسو ملك الفرنج بها، ومقر ملكه مدينة طليطلة، كتب إلى يعقوب كتابا فحواه أنه يريد الإغارة على البلاد والقتل، وأنه لا مانع له من ذلك ويستهزئ بقوة المسلمين ويتهمهم بالضعف مع أنهم- أي المسلمين- مأمورون بالجهاد، حتى لو كان العدو ضعف العدد، واستهزأ بالملك أبي يوسف يعقوب، فلما وصل كتابه وقرأه يعقوب، كتب في أعلاه هذه الآية: {ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون} [النمل: 37]، وأعاده إليه، وجمع العساكر العظيمة من المسلمين وعبر المجاز إلى الأندلس، وقيل: كان سبب عبوره إلى الأندلس أن يعقوب لما قاتل الفرنج سنة ست وثمانين وصالحهم، بقي طائفة من الفرنج لم ترض الصلح، فلما كان الآن جمعت تلك الطائفة جمعا من الفرنج، وخرجوا إلى بلاد الإسلام، فقتلوا وسبوا وغنموا وأسروا، وعاثوا فيها عيثا شديدا، فانتهى ذلك إلى يعقوب، فجمع العساكر، وعبر المجاز إلى الأندلس في جيش يضيق عنهم الفضاء، فسمعت الفرنج بذلك، فجمعت قاصيهم ودانيهم، فالتقوا تاسع شعبان شمالي قرطبة عند قلعة رياح، بمكان يعرف بمرج الحديد، فاقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الدائرة أولا على المسلمين، ثم عادت على الفرنج، فانهزموا أقبح هزيمة، وانتصر المسلمون، وغنم المسلمون منهم شيئا عظيما، ولما انهزم الفرنج اتبعهم أبو يوسف، فرآهم قد أخذوا قلعة رياح، وساروا عنها من الرعب والخوف، فملكها وجعل فيها واليا وجندا يحفظونها، وعاد إلى مدينة إشبيلية، وأما ألفونسو فإنه لما انهزم حلق رأسه، ونكس صليبه، وركب حمارا، وأقسم أن لا يركب فرسا ولا بغلا حتى تنصر النصرانية.


هو الملك المظفر قرا أرسلان بن السعيد غازي بن المنصور أرتق بن إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق، صاحب ماردين بعدما ملك ثلاثا وثلاثين سنة، وقام بعده ولده شمس الدين داود ولقب بالملك السعيد.


خرج الملك الأشرف من دمشق من يوم الاثنين سادس عشر جمادى الأولى، فدخل حلب في الثامن عشر، وخرج منها في رابع جمادى الآخرة يريد قلعة الروم فنزل عليها يوم الثلاثاء ثامنه، ونصب عشرين منجنيقا ورمى عليها، وعملت النقوب وعمل الأمير سنجر الشجاعي نائب دمشق سلسلة وشبكها في شراريف القلعة وأوثق طرفها بالأرض، فصعد الأجناد فيها وقاتلوا قتالا شديدا، ففتح الله القلعة يوم السبت حادي عشر رجب عنوة، وقتل من بها من المقاتلة، وسبى الحريم والصبيان، وأخذ منها بترك الأرمن وكان بها فأسر، وكانت مدة حصارها ثلاثة وثلاثين يوما، وقد سماها السلطان قلعة المسلمين فعرفت بذلك، وحمل إليها زردخاناه- خزانة الأسلحة- وألفين ومائتي أسير، واستشهد عليها الأمير شرف الدين بن الخطير، فلما وردت البشائر إلى دمشق بفتح قلعة الروم زينت البلد ودقت البشائر، ورتب السلطان الأمير سنجر الشجاعي نائب الشام لعمارة قلعة المسلمين، فعمر ما هدمته المجانيق والنقوب، وخرب ربضها، وعاد السلطان راجعا يوم السبت الثامن عشر، فأقام بحلب إلى نصف شعبان، وعزل قرا سنقر عن نيابة حلب، وولى عوضه الأمير سيف الدين بلبان الطباخي المنصوري، ورتب بها الأمير عز الدين أيبك الموصلي شاد الدواوين، ورحل السلطان إلى دمشق، فدخلها في الثانية من يوم الثلاثاء العاشر من شعبان، وبين يديه بترك الأرمن صاحب قلعة الروم وعدة من الأسرى.


هو الشيخ بهاء الدين محمد بن محمد البخاري النقشبندي، مؤسس الطريقة النقشبندية الصوفية المعروفة، يزعم أن مدارها تصحيح العبودية ودوام العبادة لله ودوام الحضور مع الحق سبحانه، وأن الطريق إلى هذا هو الذكر والمراقبة والرابطة بالشيخ والتخلي عن كل شيء إلا عن محبته، وتتبع هذه الطريقة التخلي أو الخلوة، وتوجيه الباطن إلى الله عن طريق الرابطة بالشيخ، وهي ما يسمونه الرابطة الشريفة، ولهم أوراد يتداولونها حسب طريقتهم هذه، وحضرات كما لغيرهم من الصوفية، وقد تفرع عن هذه الطريقة عدة طرق مثل المحمدية والأحمدية، والزبيرية والمظهرية، وغيرها.


قام السلطان الظاهر برقوق بإعادة الخليفة المتوكل للخلافة بعدما كان قد خلعه عام 785, وسجنه بقلعة الجبل وقتها، ولما أحس بالخطر الذي حوله من عصيان الناصري عليه والأمراء الذين معه؛ لعله أراد بذلك كسب الرضا أكثر، ففي يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى من هذه السنة خطب للخليفة المتوكل على الله أبي عبد الله محمد، فإنه أعيد إلى الخلافة ثم قرئ تقليده في الثاني عشر بالمشهد النفيسي، وحضره القضاة ونائب السلطنة.


عصى الأمير يلبغا الناصري نائب حلب على السلطان برقوق، وأمر السلطان بخروج العسكر إليه، ولكن الأمير قرابغا فرج الله والأمير بزلار العمري الناصري والأمير دمرداش اليوسفي والأمير كمشبغا الخاصكي الأشرفي وآقبغا قبجق، اجتمع معهم عدة كثيرة من المماليك المنفيين بطرابلس، وثبوا على نائبها الأمير أسندمر المحمدي وقبضوا عليه، وقتلوا من أمراء طرابلس الأمير صلاح الدين خليل بن سنجر وابنه، وقبضوا على جماعة كبيرة من أمراء طرابلس، ثم دخل الجميع في طاعة الناصري، وكاتبوه بذلك وملكوا مدينة طرابلس، ثم إن مماليك الأمير سودون العثماني نائب حماة اتفقوا على قتله، ففر منهم إلى دمشق، وأن الأمير بيرم العزي حاجب حجاب حماة سلم حماة إلى الأمير يلبغا الناصري ودخل تحت طاعته، ثم تواترت الأخبار على السلطان بدخول سائر الأمراء بالبلاد الشامية والمماليك الأشرفية واليلبغاوية في طاعة الناصري، وكذلك الأمير سولي بن دلغادر أمير التركمان، ونعير أمير العربان، وغيرهما من التركمان والأعراب، دخل الجميع في طاعة الناصري على محاربة السلطان الملك الظاهر برقوق، وأن الناصري أقام أعلاما خليفتية، وأخذ جميع القلاع بالبلاد الشامية، واستولى عليها ما خلا قلعة الشام وبعلبك والكرك، ثم في يوم الثلاثاء أول ربيع الآخر قدم البريد بأن الأمير كمشبغا المنجكي نائب بعلبك دخل تحت طاعة يلبغا الناصري، وكذلك في خامسه قدم البريد بأن ثلاثة عشر أميرا من أمراء دمشق ساروا إلى حلب ودخلوا في طاعة الناصري، وأما العسكر المصري الظاهري فإنه سار من غزة حتى دخل دمشق في يوم الاثنين سابع شهر ربيع الآخر، ودخلوا دمشق بعد أن تلقاهم نائبها الأمير حسام الدين طرنطاي، ودخلوا دمشق قبل وصول الناصري بعساكره إليها بمدة، وأقبل المماليك السلطانية على الفساد بدمشق، واشتغلوا باللهو، وأبادوا أهل دمشق، حتى سئمتهم أهل الشام وانطلقت الألسنة بالوقيعة فيهم وفي مرسلهم، وبينما هم في ذلك جاءهم الخبر بنزول يلبغا الناصري بعساكره على خان لاجين خارج دمشق في يوم السبت تاسع عشر شهر ربيع الآخر، فعند ذلك تهيأ الأمراء المصريون والشاميون إلى قتالهم، وخرجوا من دمشق في يوم الاثنين في الحادي والعشرين إلى برزة، والتقوا بالناصري على خان لاجين، وتصافوا ثم اقتتلوا قتالا شديدا ثبت فيه كل من الفريقين ثباتا لم يسمع بمثله، ثم تكاثر العسكر المصري وصدقوا الحملة على الناصري ومن معه، فهزموهم وغيروه عن موقفه، ثم تراجع عسكر الناصري وحمل بهم، والتقى العسكر السلطاني ثانيا واصطدما صدمة هائلة ثبت فيها أيضا الطائفتان وتقاتلا قتالا شديدا، قتل فيها جماعة من الطائفتين، حتى انكسر الناصري ثانيا، ثم تراجع عسكره وعاد إليهم والتقاهم ثالث مرة، فعندما تنازلوا في المرة الثالثة والتحم القتال لحق الأمير أحمد بن يلبغا بعساكر الناصري بمن معه من مماليكه وحواشيه، ثم تبعه الأمير أيدكار العمري حاجب الحجاب أيضا بطلبه ومماليكه، ثم الأمير فارس الصرغتمشي ثم الأمير شاهين أمير آخور بمن معهم، وعادوا قاتلوا العسكر المصري، فعند ذلك ضعف أمر العساكر المصرية وتقهقروا وانهزموا أقبح هزيمة، فلما ولوا الأدبار في أوائل الهزيمة، هجم مملوك من عسكر الناصري يقال له يلبغا الزيني الأعور وضرب الأمير جاركس الخليلي بالسيف فقتله وأخذ سلبه، وترك رمته عارية، إلى أن كفنته امرأة بعد أيام ودفنته، ثم مدت التركمان والعرب أيديهم ينهبون من انهزم من العسكر المصري ويقتلون ويأسرون من ظفروا به، وساق الأمير الكبير أيتمش البجاسي حتى لحق بدمشق وتحصن بقلعتها، وتمزق العسكر المصري وذهب كأنه لم يكن، ودخل الناصري من يومه إلى دمشق بعساكره، ونزل بالقصر من الميدان، وتسلم القلعة بغير قتال، وأوقع الحوطة على سائر العسكر، وأنزل بالأمير الكبير أيتمش وقيده هو والأمير طرنطاي نائب الشام وسجنهما بقلعة دمشق، وتتبع بقية الأمراء والمماليك حتى قبض من يومه أيضا على الأمير بكلمش العلائي في عدة من أعيان المماليك الظاهرية، فاعتقلهم أيضا بقلعة دمشق، ثم مدت التركمان والأجناد أيديهم في النهب، فما عفوا ولا كفوا وتمادوا على هذا عدة أيام، وقدم هذا الخبر على الملك الظاهر برقوق من غزة في يوم السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر، فاضطرب الناس اضطرابا عظيما، لا سيما لما بلغهم قتل الأمير جاركس الخليلي والقبض على الأمير الكبير أيتمش البجاسي، وغلقت الأسواق، وانتهبت الأخباز، وتشغبت الزعر، وطغى أهل الفساد، هذا مع ما للناس فيه من الشغل بدفن موتاهم، وعظم الطاعون بمصر، وأما السلطان الملك الظاهر برقوق فإنه لما بلغه ما وقع لعسكره وجم وتحير في أمره، وعظم عليه قتل جاركس الخليلي والقبض على أيتمش أكثر من انهزام عسكره، فإنهما ويونس الدوادار كانوا هم القائمين بتدبير ملكه، وأخذ يفحص عن أخبار يونس الدوادار فلم يقف له على خبر؛ لسرعة مجيء خبر الوقعة له من مدينة غزة، ولم يأته أحد ممن باشر الواقعة، غير أنه صح عنده ما بلغه، وبقتل يونس الدوادار استشعر كل أحد بذهاب ملك الملك الظاهر، ثم قدم الخبر بدخول الأمير مأمور القلمطاوي نائب الكرك في طاعة الناصري، وأنه سلم له الكرك بما فيها من الأموال والسلاح، ثم أخذ السلطان ينقل إلى قلعة الجبل المناجيق والمكاحل والعدد، وأمر السلطان سكان قلعة الجبل من الناس بادخار القوت بها لشهرين، وسار الناصري بمن معه من العساكر يريد الديار المصرية، وهو يظن أنه يلقى العساكر المصرية بالقرب من الشام، واستمر في سيره على هينة إلى أن وصل إلى غزة، فتلقاه نائبها حسام الدين بن باكيش بالتقادم والإقامات، فسأله الناصري عن أخبار عسكر مصر، فقال: لم يرد خبر بخروج عسكر من مصر، ثم سار الناصري من الغد يريد ديار مصر، وأرسل أمامه جماعة كبيرة من أمرائه ومماليكه كشافة، واستمر في السير إلى أن نزل مدينة قطيا، وجاء الخبر بنزول الناصري بعساكره على قطيا، فلم يتحرك السلطان بحركة، وفي ليلة وصول الخبر فر من أمراء مصر جماعة كبيرة إلى الناصري، وهي ليلة الثلاثاء ثامن عشرين جمادى الأولى، ثم في يوم الجمعة نزلت عساكر الناصري بالبئر البيضاء، فأخذ عند ذلك عسكر السلطان يتسلل إلى الناصري شيئا بعد شيء، ثم نصب السلطان السناجق السلطانية على أبراج القلعة، ودقت الكوسات الحربية، فاجتمعت العساكر جميعها، وعليهم آلة الحرب والسلاح، ثم ركب السلطان والخليفة المتوكل على الله معه من قلعة الجبل بعد العصر، وسار السلطان بمن معه حتى وقفا خلف دار الضيافة، وقد اجتمع حول السلطان من العامة خلائق لا تحصى كثرة، فوقف هناك ساعة، ثم عاد وطلع إلى الإسطبل السلطاني، وجلس فيه من غير أن يلقى حربا، ثم ركب السلطان ثانيا من القلعة، ومعه الخليفة المتوكل على الله، ونزل إلى دار الضيافة، فقدم عليه الخبر بأن طليعة الناصري وصلت إلى الخراب طرف الحسينية، فلقيتهم كشافة السلطان فكسرتهم، ثم ندب السلطان الأمراء فتوجهوا بالعساكر إلى جهة قبة النصر، ونزل السلطان ببعض الزوايا عند دار الضيافة إلى آخر النهار، ثم عاد إلى الإسطبل السلطاني وصحبته الأمراء الذين توجهوا لقبة النصر، والكوسات تدق، وهم على أهبة اللقاء وملاقاة العدو، وخاصكية السلطان حوله، والنفوط لا تفتر، والرميلة قد امتلأت بالزعر، والعامة ومماليك الأمراء، ولم يزالوا على ذلك حتى أصبحوا يوم الاثنين، وإذا بالأمير آقبغا المارديني حاجب الحجاب والأمير جمق بن أيتمشر البجاسي والأمير إبراهيم بن طشتمر العلائي الدوادار قد خرجوا في الليل ومعهم نحو خمسمائة مملوك من المماليك السلطانية ولحقوا بالناصري، ثم أصبح السلطان من الغد، وهو يوم خامس جمادى الآخرة، فر الأمير قرقماس الطشتمري الدوادار الكبير، وقرا دمرداش الأحمدي أتابك العساكر بالديار المصرية، والأمير سودون باق، أمير مجلس ولحقوا بالناصري، ولما بلغ السلطان نفاق هؤلاء الأمراء عليه بعد أن أنعم عليهم بهذه الأشياء، علم أن دولته قد زالت، فأغلق في الحال باب زويلة وجميع الدروب، وتعطلت الأسواق، وامتلأت القاهرة بالزعر، واشتد فسادهم، وتلاشت الدولة الظاهرية وانحل أمرها، وخاف والي القاهرة حسام الدين بن الكوراني على نفسه، فقام من خلف باب زويلة وتوجه إلى بيته واختفى، وبقي الناس غوغاء، وقطع المسجونون قيودهم بخزانة شمائل، وكسروا باب الحبس وخرجوا على حمية جملة واحدة، فلم يردهم أحد؛ لشغل كل واحد بنفسه، وكذلك فعل أهل حبس الديلم، وأهل سجن الرحبة، هذا والسلطان إلى الآن بقلعة الجبل، والنفوط عمالة، والكوسات تدق حربيا، ثم أمر السلطان مماليكه فنزلوا ومنعوا العامة من التوجه إلى يلبغا الناصري، فرجمهم العامة بالحجارة، فرماهم المماليك بالنشاب، وقتلوا منهم جماعة تزيد عدتهم على عشر أنفس، ثم أقبلت طليعة الناصري مع عدة من أعيان الأمراء من أصحابه، فبرز لهم الأمير قجماس ابن عم السلطان في جماعة كبيرة وقاتلهم، وأكثر الرمي عليهم من فوق القلعة بالسهام والنفوط والحجارة بالمقاليع، وهم يوالون الكر والفر غير مرة، وثبتت المماليك السلطانية ثباتا جيدا، غير أنهم في علم بزوال دولتهم، هذا وأصحاب السلطان تتفرق عنه شيئا بعد شيء، فمنهم من يتوجه إلى الناصري، ومنهم من يختفي خوفا على نفسه، حتى لم يبق عند السلطان إلا جماعة يسيرة ممن ذكرنا من الأمراء، فلما كان آخر النهار أراد السلطان أن يسلم نفسه، فمنعه من بقي عنده من الأمراء وخاصكيته، ثم بعد العصر من اليوم قدم جماعة من عسكر الناصري عليهم الطواشي طقطاي الرومي الطشتمري، والأمير بزلار العمري الناصري، وكان من الشجعان، والأمير ألطنبغا الأشربي، في نحو الألف وخمسمائة مقاتل يريدون القلعة، فبرز لهم الأمير بطا الطولوتمري الظاهري الخاصكي، والأمير شكر باي العثماني الظاهري، وسودون شقراق في نحو عشرين مملوكا من الخاصكية الظاهرية، وتلاقوا مع عسكر الناصري فصدموهم صدمة واحدة كسروهم فيها وهزموهم إلى قبة النصر، ولم يقتل منهم غير سودون شقراق؛ فإنه أمسك وأتي به إلى الناصري فوسطه، ولم يقتل الناصري في هذه الوقعة أحدا غيره، لا قبله ولا بعده- يعني صبرا- غير أن جماعة كبيرة قتلوا في المعركة، وورد الخبر بنصرتهم على الملك الظاهر، فلم يغتر بذلك، وعلم أن أمره قد زال، فأخذ في تدبير أمره مع خواصه، فأشار عليه من عنده أن يستأمن من الناصري، فعند ذلك أرسل الملك الظاهر الأمير أبا بكر بن سنقر الحاجب والأمير بيدمر المنجكي شاد القصر بالنمجاة إلى الأمير يلبغا الناصري أن يأخذا له أمانا على نفسه، ويترققا له، فسارا من وقتهما إلى قبة النصر، ودخلا على الناصري وهو بمخيمه، واجتمعا به في خلوة، فأمنه على نفسه، وأخذ منهما منجاة الملك- سيف خاص بالملك أو السلطان- وقال: الملك الظاهر أخونا وخشداشنا- زميلنا في المهنة- ولكنه يختفي بمكان إلى أن تخمد الفتنة، فإن الآن كل واحد له رأي وكلام، حتى ندبر له أمرا يكون فيه نجاته، فعادا بهذا الجواب إلى الملك الظاهر برقوق، وأقام السلطان بعد ذلك في مكانه مع خواصه إلى أن صلى عشاء الآخرة، وقام الخليفة المتوكل على الله إلى منزله بالقلعة على العادة في كل ليلة، وبقي الملك الظاهر في قليل من أصحابه، وأذن لسودون النائب في التوجه إلى حال سبيله والنظر في مصلحة نفسه، فودعه وقام ونزل من وقته، ثم فرق الملك الظاهر بقية أصحابه، فمضى كل واحد إلى حال سبيله، ثم استتر الملك الظاهر وغير صفته، حتى نزل من الإسطبل إلى حيث شاء ماشيا على قدميه، فلم يعرف له أحد خبرا، وانفض ذلك الجمع كله في أسرع ما يكون، وسكن في الحال دق الكوسات ورمي مدافع النفط، ووقع النهب في حواصل الإسطبل، حتى أخذوا سائر ما كان فيه من السروج واللجم وغيرها والعبي، ونهبوا أيضا ما كان بالميدان من الغنم الضأن، وكان عدتها نحو الألفي رأس، ونهبت طباق المماليك بالقلعة، وطار الخبر في الوقت إلى الناصري، فلم يتحرك من مكانه، ودام بمخيمه، وأرسل جماعة من الأمراء من أصحابه، فسار من عسكره عدة كبيرة واحتاطوا بالقلعة، وأصبح الأمير يلبغا الناصري بمكانه، وهو يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة، وندب الأمير منطاش في جماعة كبيرة إلى القلعة، فسار منطاش إلى قلعة الجبل في جموعه، وطلع إلى الإسطبل السلطاني، فنزل إليه الخليفة المتوكل على الله أبو عبد الله محمد، وسار مع منطاش إلى الناصري بقبة النصر، حتى نزل بمخيمه، فقام الناصري إليه وتلقاه وأجلسه بجانبه ووانسه بالحديث، وأما الناصري فإنه لما نزل إليه الخليفة وأكرمه، وحضر قضاة القضاة والأعيان للهناء، أمرهم الناصري بالإقامة عنده، وأنزل الخليفة بمخيم، وأنزل القضاة بخيمة أخرى ثم طلب الناصري من عنده من الأمراء والأعيان وتكلم معهم فيما يكون، وسألهم فيمن ينصب في السلطنة بعد الملك الظاهر برقوق، فأشار أكابرهم بسلطنة الناصري، فامتنع الناصري من ذلك أشد امتناع، وهم يلحون عليه ويقولون له: ما المصلحة إلا ما ذكرنا، وهو يأبى، وانفض المجلس من غير طائل، ثم استدعى الأمير الكبير يلبغا الناصري الأمراء واستشارهم فيمن ينصبه في سلطنة مصر، فكثر الكلام بينهم، وكان غرض غالب الأمراء سلطنة الناصري ما خلا منطاش وجماعة من الأشرفية، حتى استقر الرأي على إقامة الملك الصالح أمير حاج ابن الملك الأشرف شعبان في السلطنة ثانيا، بعد أن أعيا الأمراء أمر الناصري في عدم قبوله السلطنة، وهو يقول: المصلحة سلطنة الملك الصالح أمير حاج؛ فإن الملك الظاهر برقوقا خلعه من غير موجب، فطلعوا في الحال من الإسطبل إلى القلعة، واستدعوا الملك الصالح وسلطنوه، وغيروا لقبه بالملك المنصور، وأما الملك الظاهر برقوق فإنه دام في اختفائه إلى أن قبض عليه بعد أيام متخفيا في بيت مملوك له، ثم رسم بسجنه إلى الكرك، فأخرج إليها وسجن هناك بعد أن حكم مصر أميرا كبيرا وسلطانا إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوما، وزالت دولة الملك الظاهر كأن لم تكن، فكانت مدة تحكمه منذ قبض على الأمير طشتمر الدوادار في تاسع ذي الحجة سنة 779، إلى أن جلس على تخت الملك وتلقب بالملك الظاهر في تاسع عشر شهر رمضان سنة 784، أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، ويقال له في هذه المدة الأمير الكبير أتابك العساكر، ومن حين تسلطن إلى أن اختفي ست سنين، وثمانية أشهر، وسبعة عشر يوما، فيكون مدة حكمه أميرا وسلطانا إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوما، وترك ملك مصر وله نحو الألفي مملوك اشتراهم، سوى المستخدمين.


بعد محاربة الصرب للعثمانيين سنة 788, وحصولهم على بعض النجاح نتيجة انشغال العثمانيين بالحرب مع علاء الدين أمير القرمان، ثم إن أمير البلغار سيسمان تأهب للقيام بدوره في محاربة القوات العثمانية، غير أنه تفاجأ بها وقد داهمته واحتلت بعض أجزاء بلاده، ففر إلى الشمال واعتصم في مدينة نيكوبلي القريبة من الحدود الرومانية، وجمع فلوله مرة أخرى وحارب العثمانيين إلا أنه باء بالهزيمة مرة أخرى، ووقع أسيرا، لكن السلطان مراد الأول أحسن إليه فأبقاه أميرا على نصف بلاده، وضم الباقي إلى الدولة العثمانية، فلما علم ملك الصرب لازار بهذا، انسحب بجيوشه نحو الغرب منضما إلى الألبانيين لمحاربة العثمانيين معهم، غير أن الجيوش العثمانية أدركته قبل وصوله إلى مبتغاه، والتقت معه في هذه السنة في معركة وسط سهل قوص أوه- إقليم كوسوفو- جنوبي يوغسلافيا، وكان القتال سجالا بين الطرفين، ثم إن صهر لازار انضم إلى جانب العثمانيين بفرقته المؤلفة من عشرة آلاف مقاتل، فانهزم الصرب ووقع ملكهم لازار أسيرا جريحا فقتلوه جزاء بما فعله بأسرى المسلمين، وبينما السلطان مراد الأول يتفقد الجرحى في أرض المعركة طعنه جريح صربي فقتله!


هو السلطان الغازي أبو الفتح غياث الدنيا والدين: مراد الأول بن أورخان بن عثمان القايوي المعروف بغازي خداوندكار، التركماني، ولد سنة 726 (1326م).

لما توفي والده الغازي أورخان سنة 761 جلس على سرير السلطنة, وولد ابنه السلطان يلدرم بايزيد خان عقيب جلوسه على سرير السلطنة, ولما استقر على سرير الملك كان الغزاة في روم إيلي منتظرين قدومه إليهم، فسار وجاوز البحر فاحتل مدينة أنقرة مقر سلطنة القرمان، ثم افتتح مدينة أدرنه في أوروبا في هذه السنة، ونقل إليها عاصمته واستمرت عاصمة للدولة العثمانية إلى أن فتح محمد الفاتح مدينة القسطنطينية سنة 853 (1453م) وفتح أيضا مراد الأول مدينة فيلبه عاصمة الرومللي الشرقية، وفتح القائد أفرينوس بك مدينتي وردار وكلجمينا باسم سلطان العثمانيين، وبذلك صارت مدينة القسطنطينية محاطة من جهة أوروبا بأملاك آل عثمان منذ عهد مراد الأول, وصارت الدولة العلية متاخمة لإمارات الصرب والبلغار وألبانيا المستقلة, ولما دخل الربيع في شعبان سنة 791 خرج السلطان مراد الأول بجيش عرمرم فالتقى في أول شهر رمضان بالصرب، وانتصر عليهم, فبينما كان السلطان يتفرج بين القتلى مع أصحابه إذ نهض من بين الصرعى رجل من الصرب، وكان من أمرائهم، فقصد السلطان، فهم الحواشي أن يمنعوه فنهاهم السلطان فجاء كأنه يظهر الطاعة، فضربه بخنجر كان قد خبأه في كمه فجرحه جرحا منكرا فلحق القوم ذلك الصربي فقتلوه، ثم خيموا على السلطان طاقة، فأنزلوه فيها، فلم يمض عليه يوم حتى توفي, فتكون مدة سلطنته إحدى وثلاثون سنة، وعمره خمس وستون.

وكان قد بنى لنفسه تربة في قرب جامعه بقبلوجه، فحملوه إلى بروسا –بورصة- مع تابوت ابنه يعقوب جلبي، فدفنوهما في تلك القبة، وبنيت قبة في موضع شهادته.

قال حاجي خليفة: "كان مراد الأول من أجل الملوك قدرا ودينا، وكان دائم الغزو بحيث أفنى عمره في الجهاد، وكان منصورا في حروبه كثير الخير، مواظبا على الجماعات في الصلوات" ثم جلس على سرير السلطنة بعده ابنه السلطان بايزيد الأول.


استطاع الأمير يلبغا الناصري إزالة ملك السلطان برقوق، وكان من أعوانه منطاش الأفضلي ولكن لم يكن ما بينهما صافيا، فلما كان سادس عشر شعبان أشيع في القاهرة بتنكر منطاش على الناصري، وانقطع منطاش عن الخدمة، وأظهر أنه مريض، ففطن الناصري بأنه يريد أن يعمل مكيدة، فلم ينزل لعيادته، وبعث إليه الأمير ألطنبغا الجوباني رأس نوبة كبيرا في يوم الاثنين سادس عشر شعبان ليعوده في مرضه، فدخل عليه وسلم عليه، وقضى حق العيادة وهم بالقيام، فقبض عليه منطاش وعلى عشرين من مماليكه، وضرب قرقماس دوادار الأمير الجوباني ضربا مبرحا، مات منه بعد أيام، ثم ركب منطاش حال مسكه للجوباني في أصحابه إلى باب السلسلة، وأخذ جميع الخيول التي كانت واقفة على باب السلسلة، وأراد اقتحام الباب ليأخذ الناصري على حين غفلة، فلم يتمكن من ذلك وأغلق الباب، ورمى عليه مماليك الناصري من أعلى السور بالنشاب والحجارة، فعاد إلى بيته ومعه الخيول، وتلاحقت المماليك الأشرفية خشداشيته- زملاء مهنته- والمماليك الظاهرية بمنطاش، فعظم بهم أمره، وقوي جأشه، وانضمت اليلبغاوية على الناصري، وهم يوم ذاك أكابر الأمراء وغالب العسكر المصري، وتجمعت المماليك على منطاش حتى صار في نحو خمسمائة فارس معه، بعدما كان في سبعين فارسا في أول ركوبه، ثم أتاه من العامة عالم كبير، فترامى الفريقان واقتتلا، ونزل الأمير حسام الدين حسين بن الكوراني والي القاهرة، والأمير مأمور حاجب الحجاب من عند الناصري، ونودي في الناس بنهب مماليك منطاش، والقبض على من قدروا عليه منهم، وإحضاره إلى الناصري، فخرج عليهما طائفة من المنطاشية فضربوهما وهزموهما، فعادوا إلى الناصري وسار الوالي إلى القاهرة، وأغلق أبوابها، واشتدت الحرب، ثم أتى منطاش طوائف من مماليك الأمراء والبطالة وغيرهم شيئا بعد شيء، فحسن حاله بهم، واشتد بأسه، وعظمت شوكته بالنسبة لما كان فيه أولا، لا بالنسبة لحواشي الناصري ومماليكه، هذا وقد انزعج الناصري وقام بنفسه وهيأ أصحابه لقتال منطاش، وندب من أصحابه من أكابر الأمراء جماعة لقتاله، واستمر القتال بينهما، وكل ذلك يزداد أمر منطاش بهروب الأمراء الناصرية إليه، حتى إن منطاش أمر فنادى بالقاهرة بالأمان والاطمئنان، وإبطال المكس والدعاء للأمير الكبير منطاش بقبة النصر، هذا وقد أخذ أمر الناصري في إدبار، وتوجه جماعة كبيرة من أصحابه إلى منطاش، فلما رأى الناصري عسكره في قلة، وقد نفر عنه غالب أصحابه، بعث بالخليفة المتوكل على الله إلى منطاش يسأله في الصلح وإخماد الفتنة، فنزل الخليفة إليه وكلمه في ذلك، فقال له منطاش: أنا في طاعة السلطان، وهو أستاذي وابن أستاذي، والأمراء إخوتي، وما غريمي إلا الناصري؛ لأنه حلف لي وأنا بسيواس ثم بحلب ودمشق أيضا بأننا نكون شيئا واحدا، وأن السلطان يحكم في مملكته بما شاء، فلما حصل لنا النصر وصار هو أتابك العساكر، استبد بالأمر، ومنع السلطان من التحكم، وحجر عليه، وقرب خشداشيته اليلبغاوية، وأبعدني أنا وخشداشيتي الأشرفية، ثم ما كفاه ذلك حتى بعثني لقتال الفلاحين، وكان الناصري أرسله من جملة الأمراء إلى جهة الشرقية لقتال العربان، لما عظم فساد فلاحيها، ثم قال منطاش: ولم يعطني الناصري شيئا من المال سوى مائة ألف درهم، وأخذ لنفسه أحسن الإقطاعات، وأعطاني أضعفها، والإقطاع الذي قرره لي يعمل في السنة ستمائة ألف درهم، والله ما أرجع عنه حتى أقتله أو يقتلني، ويتسلطن ويستبد بالأمر من غير شريك، فأخذ الخليفة يلاطفه، فلم يرجع له وقام الخليفة من عنده وهو مصمم على مقالته، وطلع إلى الناصري وأعاد عليه الجواب، فعند ذلك ركب الناصري بسائر مماليكه وأصحابه، ونزل بجمع كبير لقتال منطاش، وصف عساكره تجاه باب السلسلة، وبرز إليه منطاش أيضا بأصحابه، وتصادما واقتتلا قتالا شديدا، وثبت كل من الطائفتين ثباتا عظيما، حتى انكسر الناصري وأصحابه، وطلع إلى باب السلسلة، وندم الناصري على خلع الملك الظاهر برقوق وحبسه؛ لما علم أن الأمر خرج من اليلبغاوية وصار في الأشرفية حيث لا ينفعه الندم، وأما منطاش فركب بمن معه بعد أن انهزم الناصري عدة مرات وتركه أكثر أمرائه، وطلع إلى الإسطبل السلطاني وملكه، ووقع النهب فيه، فأخذوا من الخيل والقماش شيئا كثيرا، وتفرق الزعر والعامة إلى بيوت المنهزمين، فنهبوا وأخذوا ما قدروا عليه، ومنعهم الناس من عدة مواضع، وبات منطاش بالإسطبل، وأصبح من الغد، وهو يوم الخميس تاسع عشر شعبان، وطلع إلى السلطان الملك المنصور حاجي، وأعلمه بأنه في طاعته، وأنه هو أحق بخدمته؛ لكونه من جملة المماليك الذين لأبيه الأشرف شعبان، وأنه يمتثل مرسومه فيما يأمره به، وأنه يريد بما فعله عمارة بيت الملك الأشرف، فسر المنصور بذلك هو وجماعة الأشرفية؛ فإنهم كانوا في غاية ما يكون من الضيق مع اليلبغاوية من مدة سنين.


خرج الملك الظاهر برقوق من سجن الكرك، واستولى على مدينتها ووافقه نائبها الأمير حسام الدين حسن الكجكني، وقام بخدمته، وقد حضر إلى الملك الظاهر برقوق ابن خاطر أمير بني عقبة من عرب الكرك، ودخل في طاعته، وقدم هذا الخبر من ابن بأكيش نائب غزة، فلما سمعه منطاش- الذي تغلب على الناصري وأصبح هو نائب السلطنة- أرسل من يقتل الظاهر برقوق في سجنه، واضطربت الديار المصرية، وكثرت القالة بين الناس، واختلفت الأقاويل، وتشغب الزعر، وكان من خبر الملك الظاهر برقوق أن منطاش لما وثب على الأمر وقهر الأتابك يلبغا الناصري وحبسه وحبس عدة من أكابر الأمراء، عاجل في أمر الملك الظاهر برقوق بأن بعث إليه شخصا يعرف بالشهاب البريدي، ومعه كتب للأمير حسام الدين الكجكني نائب الكرك وغيره بقتل الملك الظاهر برقوق من غير مراجعة، ووعده بأشياء غير نيابة الكرك، وكان الشهاب البريدي أصله من الكرك، فجهزه منطاش لذلك سرا، فلما وصل الشهاب إلى الكرك أخرج الشهاب إلى نائبها كتاب منطاش الذي بقتل برقوق، فأخذه الكجكني منه ليكون له حجة عند قتله السلطان برقوق، ووعده بقضاء الشغل وأنزل الشهاب بمكان قلعة الكرك قريبا من الموضع الذي فيه الملك الظاهر برقوق، بعد أن استأنس به، ثم قام الكجكني من فوره ودخل إلى الملك الظاهر برقوق ومعه كتاب منطاش الذي بقتله، فأوقفه على الكتاب، فلما سمعه الملك الظاهر كاد أن يهلك من الجزع، فحلف له الكجكني بكل يمين أنه لا يسلمه لأحد ولو مات، وأنه يطلقه ويقوم معه، وما زال به حتى هدأ ما به، وطابت نفسه، واطمأن خاطره، وقد اشتهر في مدينة الكرك مجيء الشهاب بقتل الملك الظاهر برقوق، وكان في خدمة الملك الظاهر غلام من أهل الكرك يقال له عبد الرحمن، فنزل إلى جماعة في المدينة وأعلمهم أن الشهاب قد حضر لقتل أستاذه الملك الظاهر، فلما سمعوا ذلك اجتمعوا في الحال، وقصدوا القلعة وهجموها حتى دخلوا إلى الشهاب وهو بسكنه من قلعة الكرك، ووثبوا عليه وقتلوه، ثم جروه برجله إلى الباب الذي فيه الملك الظاهر برقوق، وكان نائب الكرك الكجكني عند الملك الظاهر، وقد ابتدؤوا في الإفطار بعد أذان المغرب، وهي ليلة الأربعاء عاشر شهر رمضان من سنة 791 فلم يشعر الملك الظاهر والكجكني إلا وجماعة قد هجموا عليهم، وهم يدعون للملك الظاهر بالنصر، وأخذوا الملك الظاهر بيده حتى أخرجوه من البرج الذي هو فيه، وقالوا له: دس بقدمك عند رأس عدوك، وأروه الشهاب مقتولا، ثم نزلوا به إلى المدينة فدهش النائب مما رأى، ولم يجد بدا من القيام في خدمة الملك الظاهر وتجهيزه، وانضم على الملك الظاهر أقوام الكرك وأجنادها، وتسامع به أهل البلاد، فأتوه من كل فج بالتقادم والخيول، كل واحد بحسب حاله، وأخذ أمر الملك الظاهر برقوق من يوم ذلك في استظهار، وأما أمر منطاش فإنه لما سمع هذا الخبر وتحققه، علم أنه وقع في أمر عظيم، فأخذ في تدبير أحواله، فأول ما ابتدأ به أن قبض على جماعة كبيرة من المماليك الظاهرية، وسجنهم وقتل بعضهم.


بعد القتال الذي دار بين أمراء بني نصر على الملك، بقيت هذه الفتنة بينهم إلى أن تم الاتفاق على أن تنقسم المملكة إلى قسمين؛ القسم الأول: وهو غرناطة ومالقة، يكون تحت ملك أبي عبد الله محمد بن سعد المعروف بالزغل، والقسم الثاني: وهو القسم الشرقي يكون تحت ملك ابن أخيه محمد بن علي المعروف بأبي عبد الله الصغير، ولكن هذا الأخير لم يلبث أن نقض الاتفاق وظهر فجأة في ساحة البيازين بغرناطة، وأذاع عقده للصلح مع الإسبان، وأنهم أمدوه بالرجال والعتاد، وبينما كان الأمير محمد بن سعد الزغل في طريقه إلى غرناطة بلغه خبر أن غرناطة قد قامت بدعوة ابن أخيه محمد بن علي, وأنه دخل البلد بقيام البيازين معه وملكه لها، وقتل القواد الذين كانوا بالبلد يقاتلونه، فرجع الأمير محمد بن سعد عند ذلك على عقبه يريد البشرة، فسار إلى وادي آش ممتنعا بقواته فيها، وبعد هذا الاستيلاء انقسم ما تبقى من غرناطة إلى قسمين؛ الأول: ويحوي غرناطة وأعمالها اختص به أبو عبد الله محمد الصغير، الثاني: يضم وادي آش وأعماله اختص به عمه أبو عبد الله محمد الزغل.


حدثت معارك بين العثمانيين والمماليك على الحدود الشامية، إلا أنها لم تحتدم إلى حد التهديد بحدوث حرب شاملة بينهما، حيث استطاع قائد الجيوش المملوكية الأمير أزبك أن يأسر القائد العثماني أحمد بك بن هرسك، فأسهمت هذه الحرب في الشعور بعدم الثقة بينهما، الأمر الذي أدى إلى تعثر مفاوضات الصلح سنة 896.

حتى إن السلطان المملوكي " قايتباي" قد ساورته مخاوف من احتمال قيام حرب واسعة بينه وبين العثمانيين؛ سواء لإدراكه ما كان عليه العثمانيون من قوة، أو لانشغال جزء هام من قواته في مواجهة البرتغاليين، إلا أن السلطان العثماني بايزيد الثاني قد بدد له هذه المخاوف؛ حيث قام بإرسال رسول من قبله إلى السلطان المملوكي معه مفاتيح القلاع التي استولى عليها العثمانيون على الحدود، وقد لقي هذا الأمر ترحيبا لدى السلطان المملوكي، فقام بإطلاق سراح الأسرى العثمانيين، وأسهمت سياسة بايزيد السلمية في عقد صلح بين العثمانيين والمماليك في نفس السنة، وظل هذا الصلح ساريا حتى نهاية عهد السلطان بايزيد الثاني سنة 917 وأكد هذا الحدث على حرص السلطان بايزيد في سياسة السلام مع المسلمين.