تفسير آيات الأحكام [45]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فنتكلم في هذا المجلس بإذن الله تعالى عن آيات الربا، وقد توقفنا عندها، وذلك في قول الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] .

بيان الله سبحانه وتعالى حقوقه وحقوق عباده

الله سبحانه وتعالى بين وفصل حقوقه وفصل حقوق العباد، وبيَّن الله جل وعلا ذلك في مواضع عديدة من كتابه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما يتعلق بحقوق العباد فهي المظالم التي تكون بين البشر، وهذه المظالم التي يتلبس بها العباد أعظم عند الله سبحانه وتعالى مما كان من حقه جل وعلا إلا ما يتعلق بالشرك، وذلك أن الشرك هو أعظم الذنوب، والسبب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى لما جعل الذنب جعل كفارةً له، ومعلوم أن ما كان من الذنوب فهو على نوعين: نوع في حق الله سبحانه وتعالى وأعلاه الشرك، ثم تتباين في ذلك من جهة عظمها من الكبائر والموبقات، ومنها ما هي دون ذلك.

وأما النوع الثاني مما كان في حق العباد فيما بينهم، وذلك من المظالم التي تكون في الأموال، والدماء، والأعراض وغيرها، فهذه يقابلها ويمحوها التوبة، وكذلك الكفارات التي تلحق بها، وذلك من المصائب والهموم، وغير ذلك مما يمحو الله عز وجل به الذنوب، فما كان من الذنوب التي من حق الله عز وجل فصلها الله، وما كان من حق العباد فصله الله، والذنب الذي يدوم ولا يمحى على العبد أعظم من غيره.

والذنوب التي لا تمحى على نوعين: نوع من حق الله سبحانه وتعالى ومن حق عباده، وهي الشرك، وحقوق الآدميين.

النوع الثاني: نوع يمحوه الله سبحانه وتعالى لو شاء، وهذا لا يكون إلا في حق الله سبحانه وتعالى، ولهذا عظم الشرك على غيره لأنه لا يمحى إلا بتوبة، يعني: لا تجري عليه بقية المكفرات من الحسنات التي تذهب السيئات، ولا المصائب والهموم، ولا دعوة غير الإنسان له بالتوبة، ولو بعد موته، فإن هذا لا يزيل حقوق العباد، ولهذا يقول سفيان الثوري رحمه الله: إن الذنب الذي يصيبه الإنسان في حق العباد أعظم عند الله من سبعين ذنباً في حق الله؛ لأن حق الله يعفو عنه، وحق العباد لا يعفون عنه.

وهذا دليل على سعة رحمة الله عز وجل أنه يغفر لعبده ما كان من حقه أكثر من أن يقر العبد ويعذبه على ذنبه ذلك، ولهذا نقول: إن الذنوب التي لا يمحوها الله إلا بمبادرةٍ من الإنسان أعظم من غيرها، وهي الشرك، وهذا أعظم الظلم على الإطلاق، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم على لسان العبد الصالح لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فالشرك سماه الله عز وجل ظلماً، وجعله لا يُكفر: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[النساء:48]، وكذلك في قول الله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فالظلم المراد بذلك هو الشرك بإجماع المفسرين، إلا ما يروى في ذلك عن حذيفة و علي بن أبي طالب، والأسانيد إليهم لا تصح.

بهذا نعلم أن الذنب الذي لا يمحوه الله إلا بمبادرة من الإنسان للمكفر أعظم من غيره من السبب الذي يكون في غيره، لهذا عظم الربا على غيره، وعظمت حقوق الآدميين على غيرها، فما كان من الذنوب التي تتعلق في حق الله ولا علاقة للناس بها، وذلك بالتفريط بالواجبات، بتقصير الإنسان بالإتيان بواجبه من حق الله كالصلوات، والتقصير في الصيام، والتفريط في ذلك من حق الله المحض، وتقصير الإنسان في أمر من أمور المحرمات، وذلك بإطلاق بصره، أو من لهو القول، أو الكذب الذي يطلقه الإنسان ولكن لا يذهب من ذلك حق من حقوق الآدميين، فهذا من حق الله عز وجل يغفره لعبده إن شاء.

ما كان من حقوق الآدميين وذلك بأخذ الأموال، وسلبها، واغتصابها، والضرب، واللطم، وسفك الدم، وغير ذلك هذا حق لآدمي لا يمحوه الله جل وعلا، ولعظم هذا الأمر عداه الله عز وجل إلى غير البشر، حتى في البهائم، فالبهيمة التي تعتدي على بهيمة، فالله جل وعلا يجعل هذا الأمر من الأمور الباقية التي لا بد فيها من العقاب عليها في الآخرة، وهذا كما جاء في حديث أبي هريرة في صحيح الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها، وليقتصن الله من الشاة القرناء للشاة الجماء ).

إذاً: هذا حتى في البهائم ليست مكلفة، وكيف عاقبها الله سبحانه وتعالى وجازاها وليست من أهل التكليف؟

نقول: إن التكليف على مراتب: دقيقه ما يستوعب أوامر الله سبحانه وتعالى القليل من جهة حقوق الناس، ولهذا تجد أن الإنسان ولو كان مجنوناً يتهيب الاعتداء على الناس، ولا يحب أن يعتدي عليه الناس، لكن من جهة الأفعال والمبادرة بالتكاليف، بأداء الصلاة وغير ذلك تجد أنه لا يجد من ذلك نفرة، حتى تجد أن المجنون من جهة إطلاق بصره، أو في كلامه، أو في تعريه في إظهار عورته يختلف عن تعديه على الناس، فيتهيب العدوان ولا يحب أن يعتدي عليه أحد، فهذا النوع حدٌ من التكليف يشترك فيه البهائم، ولهذا يعاقب الله سبحانه وتعالى الناس بمقدار إدراكهم، ولهذا تجد من الناس من هو في كمال العقل، ومنهم ما فيه سفه يسير، ومنهم ما هو مجنون، ولهذا نقول: هل الله جل وعلا يعاقب العالم المتبصر المدرك كامل النضج والمعرفة كما يعاقب العامي؟ العالم في ذلك أعظم، ولهذا كلما كان الإنسان بالله أعلم، فإنه أولى بالاتباع والاقتداء، وإذا قصر كانت العقوبة عليه أشد، وتعبده لله أعظم، حتى لا يؤاخذ فقط، وعد الله عز وجل أن الله بصره بأنواع العبادة، فيتبصر بأنواع العبادة والذكر العظيم ما لا يتبصر به غيره، فتجد أنه يعلم ألفاظاً لو قالها آتاه الله مثاقيل الجبال، بينما العامي غافل عنها، فالله أعطاه في باب الحسنات، وفي باب السيئات، وهذا على ما تقدم أن الله عز وجل عداه حتى إلى البهائم؛ لأن هذا نوع من التكليف تدركه حتى البهائم.

ولهذا الله سبحانه وتعالى جعل في الإنسان وازعين: وازع الطبع ووازع الشرع، فإذا اجتمع الوازعان: وازع الطبع ووازع الشرع عظم التكليف على الإنسان، ما دل عليه وازع الطبع مثل الكذب، تجد أن الكذب الناس تعلم بأنه مذموم حتى الملاحدة لا يحبون أن يكذبوا ولا يحب أن يكذب عليهم، يعلمون أن الصدق محمود، ولو كان لا يؤمن بوجود خالق؛ لأن الله فطره على هذه الفطرة، وأوجدها فيه، ولا يحب أن يُضرب ولا أن يضرب، ولا أن يُقتل ولا أن يقتل، فلا يحب أن يعتدى عليه، هذا وازع طبع، دل الدليل على حرمته، فاجتمع الوازعان، فهذا أعظم من غيره مما يدل عليه وازع الطبع، إلا بدليل ينص على عظم ما دل عليه وازع الشرع على سبيل الخصوص على غيره، ولهذا نجد أن الله سبحانه وتعالى يعذب بعض عباده لوجود وازع الطبع ولو لم يبلغهم الدليل، فهل للإنسان أن يقول: إذا قتل أحداً من الناس وأراق دمه، ولم يبلغه دليل من الكتاب ولا من السنة في حرمة الدماء، هل يؤاخذ على هذا أو لا يؤاخذ؟ يؤاخذ؛ لأن وازع الطبع موجود، ولو قال قائل وكان صادقاً في ذلك: إنه لم يبلغني دليل، لا من الكتاب ولا من السنة على أن الدم حرام، فنقول: إن هذا لا يكفي؛ لأن الله أقام في قلبك وعقلك شاهداً قائماً في ذاتك، ولو لم تكن صاحب دين، ولهذا الله سبحانه وتعالى يؤاخذ الكفار الذين لم تبلغهم الشريعة لتفريطهم في وازع الطبع، ولا يؤاخذهم فيما لم يبلغهم فيه الدليل، ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وما كان مما يقوم في ذات الإنسان من الأدلة التي تغني في قيام الحجة، ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى إذا كان الذنب يقوم فيه القائمان وهو وازع الطبع ووازع الشرع كان في ذلك أعرف وأعظم ذلك التوحيد، وضده في ذلك الشرك، فينزل الله عز وجل العقوبة على الإنسان.

أعظم أنواع التوحيد الذي يقوم فيه الطبع وهو توحيد الربوبية، وأما الألوهية فأصله يقوم فيه وازع الطبع، ولكن فروعه وتفاصيله ومعرفة الأنواع لا تقوم بوازع الطبع، كالسجود، وصفة الصلاة، هل الإنسان إذا ولد ونشأ وترعرع وبلغ يعرف أن صلاة الفجر ركعتان، والظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع، لا يعلم هذا إلا بوازع شرع، ولكنه يعلم أن هذا الخالق يستحق عبادة، وما هي صفتها؟ لا يعلم ما هذه الصفة، فتأتي الرسل فتبلغه بالدليل على أن هذه العبادة هذا نوعها، ولهذا الذين يضلون في أبواب الربوبية يعلمون أنهم مخلوقون، وأن ثمة خالقاً، وحقيقة الخالق إذا لم يبلغهم وحي، منهم من علقه بكوكب، ومنهم من علقه بنجم، ومنهم من علقه بغول، ومنهم من علقه بجن وشيطان من الأمور الغائبة، ومنهم من اضطرب لكثرة هذه الاحتمالات ونفاها كلها، ودخل في دائرة الإلحاد ويبقى في صراع مع نفسه، ولهذا تأتي الشرائع في تحديد الخالق لا في إثبات إيجاده، وفي بيان صفة العبادة لا في أصلية استحقاقها، إلا عند من نفاه، ولهذا لا يكاد يوجد أمة في الأرض تنفي استحقاق المخلوق للعبادة، ولكن يتعبدون بالجهل أو بالطيش أو بالتعامي، فمنهم من يعبد الحجر، ومنهم من يعبد الوثن، ومنهم من يعبد الكوكب، ومنهم من يتخذ وسيلة إلى الخالق.

خطر أخذ حقوق العباد

المراد من هذا التأصيل كله: أن الله سبحانه وتعالى جعل ما يتعلق بمظالم العباد حقاً لهم، قضى الله فيه ألا يتدخل الله عز وجل وهو قادر سبحانه وتعالى لو أراد؛ لأن عباده جل وعلا خلق له ويتصرف فيهم كما شاء، قضى وحرم على نفسه جل وعلا ألا يعفو لأحد في حق أحدٍ إلا بإذنه، وهذا كمال العدل، ولهذا يقول الله جل وعلا كما في الحديث القدسي كما في الصحيح: ( يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا )، يعني: أن الله عز وجل إذا كان ثمة مظلمة بين العباد لا يعفو عن الظالم، وإنما يطلب من المظلوم إن سامح وإلا الأصل في ذلك العقوبة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها، وليقتصن الله )، يعني: لا بد فيها من القصاص، الإنسان يتوب من الزنا، يتوب من شرب الخمر، يتوب من تقصيره وتفريطه في الصلوات، في ترك الصيام، في ترك الزكاة، حقوق بينه وبين الله، ويعفو الله عز وجل عنها، لا يسأل مخلوق عنها، أما ما كان من أمور الآدميين فالله يحيله إلى المخلوق، والمخلوقون في ذلك يريدون حقوقهم ولو كان مثقال ذرة، يريد أن ينجو؛ لأنه لا يعلم ما في الكفتين، يريد أن يستكثر، فيأخذ من كل أحدٍ ما استطاع أن يأخذ ولو كان من أمه وأبيه، وهذا ما يغفل عنه كثير من الناس، يظنون أنه إذا استغفر لمظلمة أو مالٍ أخذها من أحد من الناس ظن أن الله غفر له بتلك التوبة، لو استغفر الإنسان مدى الدهر كله على أن يغفر الله عز وجل له سرقة أخذها من إنسان ما غفر الله له؛ لأن الله قضى هذا الأمر، وذلك الاستغفار يحسب له في ذنوب أخرى، وهذا ما بينه النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة، وظن أنهم يغفلون عن ذلك كما جاء في الصحيح لما قال عليه الصلاة والسلام للصحابة قال: ( ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا: من لا دينار له ولا متاع، قال عليه الصلاة والسلام: المفلس من يأتي يوم القيامة وقد ضرب هذا )، كلها لحق الآدمي: ( ولطم هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن لم يكن لديه حسنات أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه )، من باب المكافئة، ( فيلقى في النار )، فيه إشارة أن هذه الأمور تكون بين الآدميين، ولها مراتب وكلام ليس هذا محل بسطها، منها ما يكون قبل الصراط، ومنها ما يكون بعد الصراط، ما يكون بعد الصراط الذين كتب الله عز وجل عليهم العذاب من أهل الإيمان ثم يخرجون، ثم يكون فيه استيفاء القصاص من الحقوق الدنيوية، ليرفعهم الله عز وجل بها بعد ذلك.

أهل النار الذين استوجب الله عليهم النار يأخذ الله حقوقهم قبل الصراط؛ لأن هذا يخفف عن هذا، أما ما كان من أهل الجنة فالله يجعلها رفعة، ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( يخرج المؤمنون من النار فيوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتصون حقوقاً كانت بينهم )؛ لأن هذه الحقوق لا تستوجب العقاب لأهل الجنة وإنما الرفعة، أما من استوجب النار والخلود فيها، فإن الله عز وجل يعاقبه، والميزان يكون قبل ذلك، وهذا يحتاج فيه مزيد تفصيل، وليس هذا محله.

وهذه الحقوق التي تكون بين الآدميين وفرع لها الكلام على هذه الآية وهي آية الربا، عظم جانب الأموال، وعظم جانب الدماء؛ لأنها لا تدخل تحت المكفرات على الإطلاق إلا بالتحلل، أو بإعادة الحق إلى أهله، أو القصاص في أمور الدماء وغير ذلك؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح: ( من كان عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها من قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه ولا درهم )، يعني: بادر بالتحلل أو بإعادة الحقوق إلى أهلها.

بعض الناس يظن أن حقوق الآدميين تشترك في أمور الكفارة مع حق الله، وهذا خطأ، ربما يغيب حتى عن بعض الصالحين، فيضرب ويستغفر، يأخذ مالاً ويطلب من الله التوبة، هذا خطأ، الله عز وجل فضله واسع، لكن قضى سبحانه ألا يعفو حتى يعفو صاحب الحق.

جابر بن عبد الله عليه رضوان الله كما جاء في المسند وأصل الحديث في البخاري معلقاً في أبواب العلم في مسيرة جابر بن عبد الله شهر كامل، يقول: بلغني أن أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يحدث بحديث عن رسول الله في القصاص، يعني: في هذه القضية التي نتكلم عنها؛ فزع جابر، يظن أن الذنوب التي تكون للآدميين وغيرهم أنها تدخل في هذه الدائرة، يقول: فاشتريت بعيراً فركبته مسيرة شهر، حتى طرقت على عبد الله بن أنيس الباب، فخرج إلي مولاه، فقال: من عند الباب؟ قال: فقلت: جابر قال: ابن عبد الله؟ قال: قلت: نعم، قال: ففتح لي ثم أجلسني، فإذا عبد الله بن أنيس فقال: ما الذي أتى بك؟ قال: بلغني أنك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث في القصاص، فقال: آلله ما جاء بك إلا هذا؟ قال: والله ما جاء بي إلا هذا، فقال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يحشر العباد يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً، فيناديهم الله بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فيقول: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحدٍ من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه )، لأنه ربما يتخفف، وربما يخرج منها، ( ولا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة أن يدخل الجنة وعليه لأحد من أهل النار حق حتى أقص منه حتى اللطمة، قالوا: يا رسول الله! كيف وإنا نأتي الله عز وجل حفاةً عراة؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: بالحسنات والسيئات )، يعني: حينما سألوا النبي عليه الصلاة والسلام، فقالوا: كيف نأتي الله عز وجل حفاةً عراةً؟ يعني: ضرب العصا، وضرب السيف، وضرب الحجارة، ونحن حفاة وليس معنا شيء، يظنون أنه يكون بالقصاص، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( بالحسنات والسيئات )، انتهى الاستيفاء، إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة فلا دينار ولا درهم، وإنما بالحسنات، قيمة هذه الضربة كذا من الحسنات، لم يكن لديه حسنات أخذ من سيئاتهم وطرحت عليه بمقدارها، ثم يكون في ذلك العقاب، وهذا لكمال عدل الله سبحانه وتعالى، ولهذا عظمت حقوق الآدميين ومنها الأموال، ولو كانت ديناراً؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام في الرجل في ابتداء الأمر الذي يموت من أصحابه لا يسأله هل هو زانٍ أو شارب الخمر، وإنما يسأل: هل عليه دين؟ لأن الدين يبقى الإنسان مرهوناً به ولو كان ديناراً، وقد جاء في حديث أبي قتادة لما قال: ( توفي رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلناه وكفناه، ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أعليه دين؟ قلنا: نعم، عليه ديناران، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صلوا على صاحبكم، يقول أبو قتادة : فقلت: يا رسول الله! هما علي، أشفقت على الميت، أن النبي صلى الله عليه وسلم يترك يعني الصلاة عليه، قال: فقلت: يا رسول الله! هما علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هما عليك وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن هذه القبور مليئة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بالصلاة علي )، يعني: حتى النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن صلاته تنور القبور، لكنه لا يستطيع أن يجمع بين متناقضين، والمتناقضان هنا هما حق الآدمي ونور النبي عليه الصلاة والسلام الذي يكون في قبره في صلاته، فامتنع النبي عليه الصلاة والسلام، يقول أبو قتادة: ( فلقيني النبي عليه الصلاة والسلام من الغد في بعض سكك المدينة، فقال: ما فعل الديناران؟ قال: فقلت: يا رسول الله! إنما مات الميت بالأمس، قال: فلقيني من بعده، فقال: ما فعل الديناران يا أبا قتادة ؟ قال: قضيتهما يا رسول الله! قال النبي عليه الصلاة والسلام: الآن بردت جلدته )، يعني: اطمأن، يعني: حتى صلاة النبي عليه الصلاة والسلام فيه لا ترد من أمر الله سبحانه وتعالى في هذا الباب، ولماذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: الآن بردت جلدته، مع أنه قال في ابتداء الأمر: ( هما عليك وبرئ منهما الميت )، لماذا؟

لأن الحوالة لا تقبل إلا برضا صاحب الدين، إذا كان لك دين عند شخص، وذهب الشخص وقال: خذه من ابن عمي، أو من جاري، أو من فلان، هل هذه حوالة صحيحة؟

ليست صحيحة حتى ترضى أنت بهذا، فيتم القبول حينئذٍ، وبهذا عظمت أمور الأموال ولو كانت يسيرة، وقد جاء في حديث من طرق متعددة وواهية، منهم من يحسنه بمجموعها: ( درهم ربا أشد عند الله من ستٍ وثلاثين )، وجاء في رواية: ( سبعين زنية )، وجاء في رواية: ( درهم ربا أعظم عند الله من ست وثلاثين باباً، أيسرها كأن ينكح الرجل أمه )، لأن هذا حق آدمي مهما عظم عند الله فإنه مبني على المسامحة، وأما ما كان من حق الآدميين فلا بد فيه من القضاء.

وهذا سر التشديد في الربا ولو كان درهماً، وأمور حقوق الآدميين ولو كانت شيئاً يسيراً؛ لأنه لا بد فيها من القضاء والوفاء الحتمي في الآخرة، ولهذا صوَّر الله سبحانه وتعالى حال أهل الربا بهذه الصورة في قول الله جل وعلا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ[البقرة:275]، هنا وصف الله سبحانه وتعالى حال المرابي في الآخرة، في قيامه أنه لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان، المراد من هذا بيان تحريم الربا بحكاية عاقبة المرابي يوم القيامة، والمراد بتخبطه يقول عبد الله بن عباس كما جاء عند ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه قال: يقوم كالمجنون مخنوقاً، يعني: بين الناس لا يعي.

واختلف كلام المفسرين في ذلك في قيامه، هل يكون ذلك عند النشر أو عند العرض؟

من العلماء من قال: إن قيامه ذلك عند النشر، حينما ينشر من قبره يقوم كحال المجنون مخنوقاً، ومنهم من يقول: إن المراد به: قيامه يوم القيامة في العرض، بين يدي الله سبحانه وتعالى، وربما يكون الأمر في الحالين، فالخلاف الوارد في ذلك ليس اختلاف تضاد، أي: أن من يقول: إنه يقوم هنا لا ينفي أنه يقوم في الحالة الأخرى، وربما أنه يقوم في الحالين، فعند النشر وعند الحشر والعرض عند الله سبحانه وتعالى.

وقوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا[البقرة:275]، لماذا ذكر الله عز وجل الأكل وما ذكر غيره أو أخذه، وما قال: الذين يأخذون الربا؛ لأنه من الربا ما لا يؤكل، وذلك كالملبوس والمسكن والمركوب وغير ذلك، لأن أعظم وجوه المنافع هي الأكل والاستمتاع بها، فذكر الله سبحانه وتعالى ذلك.

ومن الوجوه في هذا: أن الله سبحانه وتعالى ذكر الأكل؛ لأن أصل ذلك هو الإزالة والإتلاف والإهلاك، فما أخذه الإنسان وأتلفه يقال: أكله فلان يعني أفسده، وأهلكه على غيره، فكان هذا عاماً بهذا المعنى على الحالين.

قال: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا[البقرة:275]، الربا في لغة العرب هو: الزيادة، فلهذا يقال في الربوة وهي المكان المرتفع من الهضاب والجبال، باعتبار أنها مرتفعة عن غيرها، وسمي الربا رباً لأنه لم يكن على حال المال الذي يأخذه الإنسان وإنما يزاد في ذلك.

وقوله هنا: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ[البقرة:275]، هذه فيه حكاية حال أهل الربا يوم القيامة، وإذا كانت هذه حالهم يوم القيامة فما أخذوا بذلك إلا بذنب، وإلا الأصل في هذا استقامة أحوالهم.

وجه الشبه بين آكل الربا والذي يتخبطه الشيطان من المس

وهنا في قوله: يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ[البقرة:275]، الأصل في عقوبات الله سبحانه وتعالى في الآخرة أن الجزاء من جنس العمل، فما هو العمل الذي عمله الإنسان حتى يكون حاله كحال الإنسان في الدنيا؟

فيوم القيامة يكون كحال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس، وحال الإنسان في الدنيا في أكل الربا، فما هي المشابهة في هذا؟

ثمة وجوه متعددة في مسألة المشابهة في هذا، منها: الازدراء والاحتقار، وذلك أن الناس يزدرون المجنون والسفيه الذي يسير في الناس، وكذلك لا يدري ما يقول ولا ما يفعل، وأيضاً فإنه لا يلتفت إليه، فيكون من الذي لا ينظر الله إليهم، فالإنسان إذا كان في طريقه ورأى مجنوناً لا يلتفت إليه بخلاف لو رأى رجلاً عاقلاً سوياً التفت إليه بسلام أو ترحيب أو ربما تهيأ له بمقام، أو كلام حسن، بخلاف المجنون فإنه لا ينظر إليه، وأعظم العقوبة عند الله أن الله لا ينظر إلى عبده، فينصرف الله بوجهه إلى عباده المحسنين، ويخص بعض عباده بعدم النظر إليهم، فيكون ذلك كحالهم، والناس الذين لا ينظر إليهم على أنواع ويتباينون في ذلك في عدم نظر الله عز وجل إليهم، والعقوبة المعنوية أعظم في الآخرة من العقوبة الحسية، والنعيم المعنوي أعظم من النعيم الحسي.

تأثير الجني على الإنس

وقوله كذلك أيضاً كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ[البقرة:275]، في هذا دليل على تحقق المس، وهو تأثير الجن على الإنس، وهذا في قول عامة العلماء، وهو باتفاق السلف، على خلاف عند بعض المتأخرين، وبعض العلماء يحكي الاتفاق، وقد حكى الاتفاق وإجماع العلماء على ذلك ابن تيمية رحمه الله وابن القيم، من العلماء من يقول بعدم دخول الجن في الإنس، ولكن يثبت تأثيره بالوسواس والخواطر وغير ذلك، وذلك كـابن حزم الأندلسي رحمه الله، فإنه يقول بعدم دخول الجن للإنس، ويذهب إلى هذا المعتزلة وكذلك طوائف من المتكلمين، كـالجبائي و الرازي وغيرهم، وطوائف من متقدمي أهل الكلام سواء من أهل الحديث أو من غيرهم يقولون بإثبات هذا لظواهر الأدلة، كـأبي الحسن الأشعري وغيرهم، يثبتون هذا لظهور الأدلة في ذلك، لهذه الآية، وكذلك لما جاء في حديث صفية وهو في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فخشيت أن يقذف في قلوبكم شيئاً أو قال شراً )، وكذلك ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري وهو في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا تثاءب أحدكم فليغط فمه، فإن الشيطان يدخل فيه ).

وفي هذا إشارة إلى إثبات دخول الشيطان، وكذلك ما جاء في مسند الإمام أحمد لما أتي النبي عليه الصلاة والسلام بامرأة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( اخرج عدو الله، اخرج عدو الله فخرج )، وفي هذا أمره بالخروج، ويخرج لأنه في بدن الإنسان، ولو كان خارجاً أنه ما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( اخرج )، دليل على أنه تلبس به على وجه الحقيقة، والذين ينفون من أهل الكلام والعقل ويقولون: إن هذا لا يتصور؛ خاصة بلوازمه أنه يقال: إن الجني يتكلم على لسان الإنسي، وهذا ردٌ بالعقل للمحكم من النقل البين الصريح.

ومعلوم أن العقل له مسلكان: مسلك إثبات ونفي، العقل أصدق في الإثبات من النفي؛ لأنه يثبت المشاهد، أما النفي فينفي الغيب، وإدراكه للغيب قليل، والله عز وجل يقول: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فليس للإنسان أن ينفي، وإنما له أن يثبت ما لم يخالف في ذلك دليلاً، حينئذٍ نقول: إنه توهم، كحال العقل الذي يثبت وجود الماء، والحقيقة أنه سراب، صدق في إثباته أو كذب؟ كذب، لأنه سراب، إلا بدليل بيَّن في هذا، أما نفي الغيب فإنه يخطئ في النفي أكثر من خطئه في الإثبات، وهنا ينفون غيباً، والأدلة في ذلك ظاهرة، ومعلوم أنه حتى من جهة النظر والعقل أن في بدن الإنسان من الماديات التي تجري في دمه والتي يكتشفها أهل الطب عاماً بعد عام، من المواد ما لا يدركونها في الأعوام السابقة، فكيف ينفون شيئاً لم يعلموه وقد استجد لديهم ولم يكن في الماضين، ولو قيل عند الماضين: إن في بدن الإنسان مقدار كذا من حديد، ومقدار كذا من معدن كذا ومعدن كذا، ربما نفوا هذا الأمر، ولكنه من جهة الحقيقة موجود، وهذا نفيه من جهة العقل كعدم إدراك الإنسان له، هو تجاوز على النقل بعقل قاصر.

وكذلك من الأدلة في هذا: التجربة والواقع، لأن المس مدرك لدى الناس، فكثير يرى الإنسان ممسوساً ومجنوناً، ويتكلم الجني على هذا.

ومن الأدلة العقلية في هذا أنك تجد الجني الإنكليزي يتكلم على لسان العربي الذي لا يعرف الإنجليزية أبداً، أو ربما يتكلم الفرنسية، أو الفارسية وهو أعرابي في البادية ما طن في أذنه العجمة إطلاقا،ً ويتكلم بطلاقة الفارسية، أو الإنجليزية، أو غيرها، هذا دليل على مس، والمس في داخله، وقد استدل بهذا الإمام أحمد رحمه الله كما جاء في رواية ابنه عبد الله أنه قال: إن أقواماً ينفون دخول الجن في الإنس، قال: كذبوا، ها هو يتكلم، يعني يتكلم بلسانه بغير حجته وبيانه، ولهذا نقول: حتى من جهة العقل لا يسوغ للإنسان أن ينفي دخول الجني فضلاً عن ثبوت الأدلة التي ليس للإنسان أن يتنكب بها.

والمس على نوعين: نوع يلزم منه الدخول، ونوع لا يلزم منه الدخول، ما يلزم منه الدخول هو الذي يكون فيه الجنون وغيره، وما لا يلزم منه الدخول مثل خواطر السوء، والأوهام، والخواطر العابرة النفسية التي تطرأ على الإنسان، وكذلك الشر الذي يلحق الإنسان، كما في قول الله عز وجل في أيوب: مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ[ص:41]، مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ[الأعراف:201]، هذا يسمى مساً لكنه ليس مساً يلزم منه دخول الشيطان في بدن الإنسان.

خطر القياس الفاسد وأنه سبب أول ذنب عصي الله به

وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا[البقرة:275]، هذا قياس، ومعلوم أن أول ذنب عصي الله عز وجل به كان بسبب القياس الفاسد، وهو قياس إبليس في فضله على آدم، وذلك أنه خلق من نار، وإبليس خلق من طين، فلما كان من ذلك لزم أنه لا يسجد الفاضل للمفضول، ولهذا قد روى الدارمي في كتابه السنن من حديث مطر عن الحسن قال: قاس إبليس فضل، ولهذا نقول: إن الأهواء تمتطي القياس لتصل إلى مآرب فاسدة، والواجب في هذا أن الإنسان إذا وجد دليلاً أن يتوقف عن الأقيسة والأهواء والرأي، حتى لا يقع فيما يخالف أمر الله سبحانه وتعالى، وأكثر ضلال البشرية بالأقيسة الفاسدة، وضرب الأمثلة القاصرة، كما كان كفار قريش في هذه المسألة أو في غيرها من المسائل، وكذلك حينما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضربوا له مثلاً، وذلك بالعظم حينما فتوه، قالوا: كيف يحيي الله العظام وهي رميم؟ ولكن سبب فسادهم في هذا: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78]، أنا ضربت لك مثالاً قاصراً، في مثال أعلى منه، وهو أنك وجدت من عدم، فالذي أوجدك من عدم أليس يوجدك وموادك موجودة، فلم تكن شيئاً، يعني: عدماً، فأوجدك من عدم، ثم كنت موجوداً، فمادتك الموجودة المنثورة في التراب، إعادتك من هذه المادة أقرب وأسهل من العدم الذي لم تكن موجوداً قبله.

إذاً: ما من قياس يرد به الدليل إلا ثمة قياس أولى منه ضل عنه الإنسان، ولهذا نقول: إن القياس على مراتب متعددة وخيوط يأخذ الإنسان منها ما ينتقي ليبطل ما دونها من الحق، فيضل الإنسان في هذا الباب.

الأصل في البيوع والعهود والشروط

وقوله هنا قوله جل وعلا: قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[البقرة:275]، في هذا دليل على أن الأصل في البيوع والعهود والعقود والشروط الإباحة، لا الأصل فيها التحريم، وهذا قول عامة العلماء، بل حكى بعضهم الإجماع على هذا كما نص على ذلك ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم.

من العلماء من يقول: إن الأصل في العهود والعقود والشروط التحريم، حتى يدل الدليل على الحلية، وقد نص على هذا ابن حزم رحمه الله كما في كتابه الإحكام، خلافاً لـداود الظاهري الذي يقول بخلاف هذا القول، والظاهرية في هذا قد انقسموا في هذا الباب، منهم من يقول: بأن الأصل في العهود والعقود الحل، ومنهم من يقول فيها التحريم، وهذا ظاهر في قول الله جل وعلا: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[البقرة:275]، أي: أن الأصل في ذلك الحل، وأما التحريم فهو استثناء، وهذا يظهر في أشياء كثيرة، في قول الله جل وعلا: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29]، فما في الأرض من مأكولات وملبوسات، وما يكون من التعاقد عليها، كذلك من ملفوظات، الأصل فيه الحل حتى من المعاد، وكذلك في قول الله عز وجل: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ[الأنعام:151]، يتلو ما حرم لا يتلو ما أحل، وكذلك في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ[المائدة:1]، فالأصل في ذلك الوفاء أي عقد كان إلا دليل يدل على خلاف ذلك، وغير ذلك من الأدلة في كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم التعامل بالربا وسبب التشديد في بعض الذنوب

وقوله جل وعلا: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[البقرة:275]، الربا من الموبقات المهلكات، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح، أنه قال: ( اجتنبوا السبع الموبقات )، وذكر منها الربا، وذلك على ما تقدم لكونه من حقوق الآدميين، وحق الآدميين لا يمحوه الله سبحانه وتعالى، فلزم من ذلك أن يكون مغلظاً في الدنيا حتى يحترز الإنسان فيه.

لماذا يشدد الله عز وجل بالتحريم في أمر الدنيا في بعض المحرمات ولا يشدد في بعضها؟ نقول: يشدد في بعض المحرمات لأمرين:

الأمر الأول: أنه لا يصلح أمر البشرية إلا بهذا، فيشدد الله فيه ويعظم العقاب في الآخرة حتى ينتظم الناس، ولو تراخى الناس في ذلك بسبب عدم التشديد في النص لفسد الناس، ولهذا من أعظم ما يستقيم به حياة الناس في أمورهم أمور الأقوال، لهذا جاءت الشريعة ببيان الأمور المحرمة، والمحرم في الأموال نوعان:

النوع الأول: ربا، وهو أعظمها.

النوع الثاني: القمار والميسر، وهو الغرر والجهالة.

وهذان النوعان يدخل تحتهما ما جاء في النصوص من المحرمات في أمور المعاملات من أمور البيوع، فيدخل فيها الربا بسائر أنواعه، سواءً كان ربا الجاهلية وهو الذي جاء النص عليه، وربا الجاهلية كانوا يأخذون القرض برأس ماله، أو بزيادة عليه، ثم يقول: أخرني وزد علي كذا، كما جاء تفسير ذلك عن سعيد بن جبير، و مجاهد بن جبر أنهم كانوا يقولون: زد في الأجل، وأزيد في المال، ثم يتنامى المال بالزيادة في جانب الأجل، فحرم الله سبحانه وتعالى ذلك.

وكان الناس على اختلاف أنواعهم من أهل المال يتسامحون في هذا الباب، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في حجة الوداع: ( ألا وإن ربا الجاهلية موضوع )، ربا الجاهلية هو هذا المقصود، زد في الأجل وأزيد في المال، ( وأول رباً أضع ربا عمي العباس )، كان العباس يتعامل في التجارة في هذا الأمر كغيره، وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العباس ؛ لأن القضاء في الأقربين أولى من القضاء في الأبعدين، ولهذا الحاكم اذا أراد العدل في الناس فليطبق الحدود في الأقربين؛ لأنه يتأدب الأبعدون برؤيتهم بعقاب الأقربين؛ لأنهم لا يرون استثناءً، وإذا رؤي استثناء في الأقربين فكل يرجو اللحاق بذلك فيتساهلون، بل ربما يظنون أن التمرد على الحقوق وعلى أمور المظالم والحدود أنها تلحق بهم أوصافاً في حال وصف الكبراء وأهل السيادة وغير ذلك؛ لأنهم يوصفون بالاستثناء في هذا الب

الله سبحانه وتعالى بين وفصل حقوقه وفصل حقوق العباد، وبيَّن الله جل وعلا ذلك في مواضع عديدة من كتابه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما يتعلق بحقوق العباد فهي المظالم التي تكون بين البشر، وهذه المظالم التي يتلبس بها العباد أعظم عند الله سبحانه وتعالى مما كان من حقه جل وعلا إلا ما يتعلق بالشرك، وذلك أن الشرك هو أعظم الذنوب، والسبب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى لما جعل الذنب جعل كفارةً له، ومعلوم أن ما كان من الذنوب فهو على نوعين: نوع في حق الله سبحانه وتعالى وأعلاه الشرك، ثم تتباين في ذلك من جهة عظمها من الكبائر والموبقات، ومنها ما هي دون ذلك.

وأما النوع الثاني مما كان في حق العباد فيما بينهم، وذلك من المظالم التي تكون في الأموال، والدماء، والأعراض وغيرها، فهذه يقابلها ويمحوها التوبة، وكذلك الكفارات التي تلحق بها، وذلك من المصائب والهموم، وغير ذلك مما يمحو الله عز وجل به الذنوب، فما كان من الذنوب التي من حق الله عز وجل فصلها الله، وما كان من حق العباد فصله الله، والذنب الذي يدوم ولا يمحى على العبد أعظم من غيره.

والذنوب التي لا تمحى على نوعين: نوع من حق الله سبحانه وتعالى ومن حق عباده، وهي الشرك، وحقوق الآدميين.

النوع الثاني: نوع يمحوه الله سبحانه وتعالى لو شاء، وهذا لا يكون إلا في حق الله سبحانه وتعالى، ولهذا عظم الشرك على غيره لأنه لا يمحى إلا بتوبة، يعني: لا تجري عليه بقية المكفرات من الحسنات التي تذهب السيئات، ولا المصائب والهموم، ولا دعوة غير الإنسان له بالتوبة، ولو بعد موته، فإن هذا لا يزيل حقوق العباد، ولهذا يقول سفيان الثوري رحمه الله: إن الذنب الذي يصيبه الإنسان في حق العباد أعظم عند الله من سبعين ذنباً في حق الله؛ لأن حق الله يعفو عنه، وحق العباد لا يعفون عنه.

وهذا دليل على سعة رحمة الله عز وجل أنه يغفر لعبده ما كان من حقه أكثر من أن يقر العبد ويعذبه على ذنبه ذلك، ولهذا نقول: إن الذنوب التي لا يمحوها الله إلا بمبادرةٍ من الإنسان أعظم من غيرها، وهي الشرك، وهذا أعظم الظلم على الإطلاق، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم على لسان العبد الصالح لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فالشرك سماه الله عز وجل ظلماً، وجعله لا يُكفر: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[النساء:48]، وكذلك في قول الله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فالظلم المراد بذلك هو الشرك بإجماع المفسرين، إلا ما يروى في ذلك عن حذيفة و علي بن أبي طالب، والأسانيد إليهم لا تصح.

بهذا نعلم أن الذنب الذي لا يمحوه الله إلا بمبادرة من الإنسان للمكفر أعظم من غيره من السبب الذي يكون في غيره، لهذا عظم الربا على غيره، وعظمت حقوق الآدميين على غيرها، فما كان من الذنوب التي تتعلق في حق الله ولا علاقة للناس بها، وذلك بالتفريط بالواجبات، بتقصير الإنسان بالإتيان بواجبه من حق الله كالصلوات، والتقصير في الصيام، والتفريط في ذلك من حق الله المحض، وتقصير الإنسان في أمر من أمور المحرمات، وذلك بإطلاق بصره، أو من لهو القول، أو الكذب الذي يطلقه الإنسان ولكن لا يذهب من ذلك حق من حقوق الآدميين، فهذا من حق الله عز وجل يغفره لعبده إن شاء.

ما كان من حقوق الآدميين وذلك بأخذ الأموال، وسلبها، واغتصابها، والضرب، واللطم، وسفك الدم، وغير ذلك هذا حق لآدمي لا يمحوه الله جل وعلا، ولعظم هذا الأمر عداه الله عز وجل إلى غير البشر، حتى في البهائم، فالبهيمة التي تعتدي على بهيمة، فالله جل وعلا يجعل هذا الأمر من الأمور الباقية التي لا بد فيها من العقاب عليها في الآخرة، وهذا كما جاء في حديث أبي هريرة في صحيح الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها، وليقتصن الله من الشاة القرناء للشاة الجماء ).

إذاً: هذا حتى في البهائم ليست مكلفة، وكيف عاقبها الله سبحانه وتعالى وجازاها وليست من أهل التكليف؟

نقول: إن التكليف على مراتب: دقيقه ما يستوعب أوامر الله سبحانه وتعالى القليل من جهة حقوق الناس، ولهذا تجد أن الإنسان ولو كان مجنوناً يتهيب الاعتداء على الناس، ولا يحب أن يعتدي عليه الناس، لكن من جهة الأفعال والمبادرة بالتكاليف، بأداء الصلاة وغير ذلك تجد أنه لا يجد من ذلك نفرة، حتى تجد أن المجنون من جهة إطلاق بصره، أو في كلامه، أو في تعريه في إظهار عورته يختلف عن تعديه على الناس، فيتهيب العدوان ولا يحب أن يعتدي عليه أحد، فهذا النوع حدٌ من التكليف يشترك فيه البهائم، ولهذا يعاقب الله سبحانه وتعالى الناس بمقدار إدراكهم، ولهذا تجد من الناس من هو في كمال العقل، ومنهم ما فيه سفه يسير، ومنهم ما هو مجنون، ولهذا نقول: هل الله جل وعلا يعاقب العالم المتبصر المدرك كامل النضج والمعرفة كما يعاقب العامي؟ العالم في ذلك أعظم، ولهذا كلما كان الإنسان بالله أعلم، فإنه أولى بالاتباع والاقتداء، وإذا قصر كانت العقوبة عليه أشد، وتعبده لله أعظم، حتى لا يؤاخذ فقط، وعد الله عز وجل أن الله بصره بأنواع العبادة، فيتبصر بأنواع العبادة والذكر العظيم ما لا يتبصر به غيره، فتجد أنه يعلم ألفاظاً لو قالها آتاه الله مثاقيل الجبال، بينما العامي غافل عنها، فالله أعطاه في باب الحسنات، وفي باب السيئات، وهذا على ما تقدم أن الله عز وجل عداه حتى إلى البهائم؛ لأن هذا نوع من التكليف تدركه حتى البهائم.

ولهذا الله سبحانه وتعالى جعل في الإنسان وازعين: وازع الطبع ووازع الشرع، فإذا اجتمع الوازعان: وازع الطبع ووازع الشرع عظم التكليف على الإنسان، ما دل عليه وازع الطبع مثل الكذب، تجد أن الكذب الناس تعلم بأنه مذموم حتى الملاحدة لا يحبون أن يكذبوا ولا يحب أن يكذب عليهم، يعلمون أن الصدق محمود، ولو كان لا يؤمن بوجود خالق؛ لأن الله فطره على هذه الفطرة، وأوجدها فيه، ولا يحب أن يُضرب ولا أن يضرب، ولا أن يُقتل ولا أن يقتل، فلا يحب أن يعتدى عليه، هذا وازع طبع، دل الدليل على حرمته، فاجتمع الوازعان، فهذا أعظم من غيره مما يدل عليه وازع الطبع، إلا بدليل ينص على عظم ما دل عليه وازع الشرع على سبيل الخصوص على غيره، ولهذا نجد أن الله سبحانه وتعالى يعذب بعض عباده لوجود وازع الطبع ولو لم يبلغهم الدليل، فهل للإنسان أن يقول: إذا قتل أحداً من الناس وأراق دمه، ولم يبلغه دليل من الكتاب ولا من السنة في حرمة الدماء، هل يؤاخذ على هذا أو لا يؤاخذ؟ يؤاخذ؛ لأن وازع الطبع موجود، ولو قال قائل وكان صادقاً في ذلك: إنه لم يبلغني دليل، لا من الكتاب ولا من السنة على أن الدم حرام، فنقول: إن هذا لا يكفي؛ لأن الله أقام في قلبك وعقلك شاهداً قائماً في ذاتك، ولو لم تكن صاحب دين، ولهذا الله سبحانه وتعالى يؤاخذ الكفار الذين لم تبلغهم الشريعة لتفريطهم في وازع الطبع، ولا يؤاخذهم فيما لم يبلغهم فيه الدليل، ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وما كان مما يقوم في ذات الإنسان من الأدلة التي تغني في قيام الحجة، ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى إذا كان الذنب يقوم فيه القائمان وهو وازع الطبع ووازع الشرع كان في ذلك أعرف وأعظم ذلك التوحيد، وضده في ذلك الشرك، فينزل الله عز وجل العقوبة على الإنسان.

أعظم أنواع التوحيد الذي يقوم فيه الطبع وهو توحيد الربوبية، وأما الألوهية فأصله يقوم فيه وازع الطبع، ولكن فروعه وتفاصيله ومعرفة الأنواع لا تقوم بوازع الطبع، كالسجود، وصفة الصلاة، هل الإنسان إذا ولد ونشأ وترعرع وبلغ يعرف أن صلاة الفجر ركعتان، والظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع، لا يعلم هذا إلا بوازع شرع، ولكنه يعلم أن هذا الخالق يستحق عبادة، وما هي صفتها؟ لا يعلم ما هذه الصفة، فتأتي الرسل فتبلغه بالدليل على أن هذه العبادة هذا نوعها، ولهذا الذين يضلون في أبواب الربوبية يعلمون أنهم مخلوقون، وأن ثمة خالقاً، وحقيقة الخالق إذا لم يبلغهم وحي، منهم من علقه بكوكب، ومنهم من علقه بنجم، ومنهم من علقه بغول، ومنهم من علقه بجن وشيطان من الأمور الغائبة، ومنهم من اضطرب لكثرة هذه الاحتمالات ونفاها كلها، ودخل في دائرة الإلحاد ويبقى في صراع مع نفسه، ولهذا تأتي الشرائع في تحديد الخالق لا في إثبات إيجاده، وفي بيان صفة العبادة لا في أصلية استحقاقها، إلا عند من نفاه، ولهذا لا يكاد يوجد أمة في الأرض تنفي استحقاق المخلوق للعبادة، ولكن يتعبدون بالجهل أو بالطيش أو بالتعامي، فمنهم من يعبد الحجر، ومنهم من يعبد الوثن، ومنهم من يعبد الكوكب، ومنهم من يتخذ وسيلة إلى الخالق.

المراد من هذا التأصيل كله: أن الله سبحانه وتعالى جعل ما يتعلق بمظالم العباد حقاً لهم، قضى الله فيه ألا يتدخل الله عز وجل وهو قادر سبحانه وتعالى لو أراد؛ لأن عباده جل وعلا خلق له ويتصرف فيهم كما شاء، قضى وحرم على نفسه جل وعلا ألا يعفو لأحد في حق أحدٍ إلا بإذنه، وهذا كمال العدل، ولهذا يقول الله جل وعلا كما في الحديث القدسي كما في الصحيح: ( يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا )، يعني: أن الله عز وجل إذا كان ثمة مظلمة بين العباد لا يعفو عن الظالم، وإنما يطلب من المظلوم إن سامح وإلا الأصل في ذلك العقوبة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها، وليقتصن الله )، يعني: لا بد فيها من القصاص، الإنسان يتوب من الزنا، يتوب من شرب الخمر، يتوب من تقصيره وتفريطه في الصلوات، في ترك الصيام، في ترك الزكاة، حقوق بينه وبين الله، ويعفو الله عز وجل عنها، لا يسأل مخلوق عنها، أما ما كان من أمور الآدميين فالله يحيله إلى المخلوق، والمخلوقون في ذلك يريدون حقوقهم ولو كان مثقال ذرة، يريد أن ينجو؛ لأنه لا يعلم ما في الكفتين، يريد أن يستكثر، فيأخذ من كل أحدٍ ما استطاع أن يأخذ ولو كان من أمه وأبيه، وهذا ما يغفل عنه كثير من الناس، يظنون أنه إذا استغفر لمظلمة أو مالٍ أخذها من أحد من الناس ظن أن الله غفر له بتلك التوبة، لو استغفر الإنسان مدى الدهر كله على أن يغفر الله عز وجل له سرقة أخذها من إنسان ما غفر الله له؛ لأن الله قضى هذا الأمر، وذلك الاستغفار يحسب له في ذنوب أخرى، وهذا ما بينه النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة، وظن أنهم يغفلون عن ذلك كما جاء في الصحيح لما قال عليه الصلاة والسلام للصحابة قال: ( ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا: من لا دينار له ولا متاع، قال عليه الصلاة والسلام: المفلس من يأتي يوم القيامة وقد ضرب هذا )، كلها لحق الآدمي: ( ولطم هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن لم يكن لديه حسنات أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه )، من باب المكافئة، ( فيلقى في النار )، فيه إشارة أن هذه الأمور تكون بين الآدميين، ولها مراتب وكلام ليس هذا محل بسطها، منها ما يكون قبل الصراط، ومنها ما يكون بعد الصراط، ما يكون بعد الصراط الذين كتب الله عز وجل عليهم العذاب من أهل الإيمان ثم يخرجون، ثم يكون فيه استيفاء القصاص من الحقوق الدنيوية، ليرفعهم الله عز وجل بها بعد ذلك.

أهل النار الذين استوجب الله عليهم النار يأخذ الله حقوقهم قبل الصراط؛ لأن هذا يخفف عن هذا، أما ما كان من أهل الجنة فالله يجعلها رفعة، ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( يخرج المؤمنون من النار فيوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتصون حقوقاً كانت بينهم )؛ لأن هذه الحقوق لا تستوجب العقاب لأهل الجنة وإنما الرفعة، أما من استوجب النار والخلود فيها، فإن الله عز وجل يعاقبه، والميزان يكون قبل ذلك، وهذا يحتاج فيه مزيد تفصيل، وليس هذا محله.

وهذه الحقوق التي تكون بين الآدميين وفرع لها الكلام على هذه الآية وهي آية الربا، عظم جانب الأموال، وعظم جانب الدماء؛ لأنها لا تدخل تحت المكفرات على الإطلاق إلا بالتحلل، أو بإعادة الحق إلى أهله، أو القصاص في أمور الدماء وغير ذلك؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح: ( من كان عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها من قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه ولا درهم )، يعني: بادر بالتحلل أو بإعادة الحقوق إلى أهلها.

بعض الناس يظن أن حقوق الآدميين تشترك في أمور الكفارة مع حق الله، وهذا خطأ، ربما يغيب حتى عن بعض الصالحين، فيضرب ويستغفر، يأخذ مالاً ويطلب من الله التوبة، هذا خطأ، الله عز وجل فضله واسع، لكن قضى سبحانه ألا يعفو حتى يعفو صاحب الحق.

جابر بن عبد الله عليه رضوان الله كما جاء في المسند وأصل الحديث في البخاري معلقاً في أبواب العلم في مسيرة جابر بن عبد الله شهر كامل، يقول: بلغني أن أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يحدث بحديث عن رسول الله في القصاص، يعني: في هذه القضية التي نتكلم عنها؛ فزع جابر، يظن أن الذنوب التي تكون للآدميين وغيرهم أنها تدخل في هذه الدائرة، يقول: فاشتريت بعيراً فركبته مسيرة شهر، حتى طرقت على عبد الله بن أنيس الباب، فخرج إلي مولاه، فقال: من عند الباب؟ قال: فقلت: جابر قال: ابن عبد الله؟ قال: قلت: نعم، قال: ففتح لي ثم أجلسني، فإذا عبد الله بن أنيس فقال: ما الذي أتى بك؟ قال: بلغني أنك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث في القصاص، فقال: آلله ما جاء بك إلا هذا؟ قال: والله ما جاء بي إلا هذا، فقال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يحشر العباد يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً، فيناديهم الله بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فيقول: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحدٍ من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه )، لأنه ربما يتخفف، وربما يخرج منها، ( ولا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة أن يدخل الجنة وعليه لأحد من أهل النار حق حتى أقص منه حتى اللطمة، قالوا: يا رسول الله! كيف وإنا نأتي الله عز وجل حفاةً عراة؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: بالحسنات والسيئات )، يعني: حينما سألوا النبي عليه الصلاة والسلام، فقالوا: كيف نأتي الله عز وجل حفاةً عراةً؟ يعني: ضرب العصا، وضرب السيف، وضرب الحجارة، ونحن حفاة وليس معنا شيء، يظنون أنه يكون بالقصاص، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( بالحسنات والسيئات )، انتهى الاستيفاء، إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة فلا دينار ولا درهم، وإنما بالحسنات، قيمة هذه الضربة كذا من الحسنات، لم يكن لديه حسنات أخذ من سيئاتهم وطرحت عليه بمقدارها، ثم يكون في ذلك العقاب، وهذا لكمال عدل الله سبحانه وتعالى، ولهذا عظمت حقوق الآدميين ومنها الأموال، ولو كانت ديناراً؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام في الرجل في ابتداء الأمر الذي يموت من أصحابه لا يسأله هل هو زانٍ أو شارب الخمر، وإنما يسأل: هل عليه دين؟ لأن الدين يبقى الإنسان مرهوناً به ولو كان ديناراً، وقد جاء في حديث أبي قتادة لما قال: ( توفي رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلناه وكفناه، ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أعليه دين؟ قلنا: نعم، عليه ديناران، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صلوا على صاحبكم، يقول أبو قتادة : فقلت: يا رسول الله! هما علي، أشفقت على الميت، أن النبي صلى الله عليه وسلم يترك يعني الصلاة عليه، قال: فقلت: يا رسول الله! هما علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هما عليك وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن هذه القبور مليئة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بالصلاة علي )، يعني: حتى النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن صلاته تنور القبور، لكنه لا يستطيع أن يجمع بين متناقضين، والمتناقضان هنا هما حق الآدمي ونور النبي عليه الصلاة والسلام الذي يكون في قبره في صلاته، فامتنع النبي عليه الصلاة والسلام، يقول أبو قتادة: ( فلقيني النبي عليه الصلاة والسلام من الغد في بعض سكك المدينة، فقال: ما فعل الديناران؟ قال: فقلت: يا رسول الله! إنما مات الميت بالأمس، قال: فلقيني من بعده، فقال: ما فعل الديناران يا أبا قتادة ؟ قال: قضيتهما يا رسول الله! قال النبي عليه الصلاة والسلام: الآن بردت جلدته )، يعني: اطمأن، يعني: حتى صلاة النبي عليه الصلاة والسلام فيه لا ترد من أمر الله سبحانه وتعالى في هذا الباب، ولماذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: الآن بردت جلدته، مع أنه قال في ابتداء الأمر: ( هما عليك وبرئ منهما الميت )، لماذا؟

لأن الحوالة لا تقبل إلا برضا صاحب الدين، إذا كان لك دين عند شخص، وذهب الشخص وقال: خذه من ابن عمي، أو من جاري، أو من فلان، هل هذه حوالة صحيحة؟

ليست صحيحة حتى ترضى أنت بهذا، فيتم القبول حينئذٍ، وبهذا عظمت أمور الأموال ولو كانت يسيرة، وقد جاء في حديث من طرق متعددة وواهية، منهم من يحسنه بمجموعها: ( درهم ربا أشد عند الله من ستٍ وثلاثين )، وجاء في رواية: ( سبعين زنية )، وجاء في رواية: ( درهم ربا أعظم عند الله من ست وثلاثين باباً، أيسرها كأن ينكح الرجل أمه )، لأن هذا حق آدمي مهما عظم عند الله فإنه مبني على المسامحة، وأما ما كان من حق الآدميين فلا بد فيه من القضاء.

وهذا سر التشديد في الربا ولو كان درهماً، وأمور حقوق الآدميين ولو كانت شيئاً يسيراً؛ لأنه لا بد فيها من القضاء والوفاء الحتمي في الآخرة، ولهذا صوَّر الله سبحانه وتعالى حال أهل الربا بهذه الصورة في قول الله جل وعلا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ[البقرة:275]، هنا وصف الله سبحانه وتعالى حال المرابي في الآخرة، في قيامه أنه لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان، المراد من هذا بيان تحريم الربا بحكاية عاقبة المرابي يوم القيامة، والمراد بتخبطه يقول عبد الله بن عباس كما جاء عند ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه قال: يقوم كالمجنون مخنوقاً، يعني: بين الناس لا يعي.

واختلف كلام المفسرين في ذلك في قيامه، هل يكون ذلك عند النشر أو عند العرض؟

من العلماء من قال: إن قيامه ذلك عند النشر، حينما ينشر من قبره يقوم كحال المجنون مخنوقاً، ومنهم من يقول: إن المراد به: قيامه يوم القيامة في العرض، بين يدي الله سبحانه وتعالى، وربما يكون الأمر في الحالين، فالخلاف الوارد في ذلك ليس اختلاف تضاد، أي: أن من يقول: إنه يقوم هنا لا ينفي أنه يقوم في الحالة الأخرى، وربما أنه يقوم في الحالين، فعند النشر وعند الحشر والعرض عند الله سبحانه وتعالى.

وقوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا[البقرة:275]، لماذا ذكر الله عز وجل الأكل وما ذكر غيره أو أخذه، وما قال: الذين يأخذون الربا؛ لأنه من الربا ما لا يؤكل، وذلك كالملبوس والمسكن والمركوب وغير ذلك، لأن أعظم وجوه المنافع هي الأكل والاستمتاع بها، فذكر الله سبحانه وتعالى ذلك.

ومن الوجوه في هذا: أن الله سبحانه وتعالى ذكر الأكل؛ لأن أصل ذلك هو الإزالة والإتلاف والإهلاك، فما أخذه الإنسان وأتلفه يقال: أكله فلان يعني أفسده، وأهلكه على غيره، فكان هذا عاماً بهذا المعنى على الحالين.

قال: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا[البقرة:275]، الربا في لغة العرب هو: الزيادة، فلهذا يقال في الربوة وهي المكان المرتفع من الهضاب والجبال، باعتبار أنها مرتفعة عن غيرها، وسمي الربا رباً لأنه لم يكن على حال المال الذي يأخذه الإنسان وإنما يزاد في ذلك.

وقوله هنا: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ[البقرة:275]، هذه فيه حكاية حال أهل الربا يوم القيامة، وإذا كانت هذه حالهم يوم القيامة فما أخذوا بذلك إلا بذنب، وإلا الأصل في هذا استقامة أحوالهم.

وهنا في قوله: يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ[البقرة:275]، الأصل في عقوبات الله سبحانه وتعالى في الآخرة أن الجزاء من جنس العمل، فما هو العمل الذي عمله الإنسان حتى يكون حاله كحال الإنسان في الدنيا؟

فيوم القيامة يكون كحال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس، وحال الإنسان في الدنيا في أكل الربا، فما هي المشابهة في هذا؟

ثمة وجوه متعددة في مسألة المشابهة في هذا، منها: الازدراء والاحتقار، وذلك أن الناس يزدرون المجنون والسفيه الذي يسير في الناس، وكذلك لا يدري ما يقول ولا ما يفعل، وأيضاً فإنه لا يلتفت إليه، فيكون من الذي لا ينظر الله إليهم، فالإنسان إذا كان في طريقه ورأى مجنوناً لا يلتفت إليه بخلاف لو رأى رجلاً عاقلاً سوياً التفت إليه بسلام أو ترحيب أو ربما تهيأ له بمقام، أو كلام حسن، بخلاف المجنون فإنه لا ينظر إليه، وأعظم العقوبة عند الله أن الله لا ينظر إلى عبده، فينصرف الله بوجهه إلى عباده المحسنين، ويخص بعض عباده بعدم النظر إليهم، فيكون ذلك كحالهم، والناس الذين لا ينظر إليهم على أنواع ويتباينون في ذلك في عدم نظر الله عز وجل إليهم، والعقوبة المعنوية أعظم في الآخرة من العقوبة الحسية، والنعيم المعنوي أعظم من النعيم الحسي.