عنوان الفتوى : رد القدر بالتسبيح... رؤية شرعية
هل التسبيح يرد القدر باعتبار قول يونس عليه السلام: ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)، أم الدعاء فقط هو الذي يرد القدر؟ وإذا كان التسبيح يرد القدر، هل أي تسبيح مثلا (سبحان الله وبحمده)، أو (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، وغيره، أم فقط تسبيح يونس عليه السلام؟
وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقول يونس -عليه السلام-: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ {الأنبياء: 87}، ليست مجرد تسبيح، بل هي تهليل، وتسبيح، وإقرار، يتضمن طلبا، وسؤالا، ولذلك سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- دعاءً، فقال: دعوة ذي النون، إذ دعا، وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط، إلا استجاب الله له. رواه أحمد، والترمذي، وصححه الألباني.
ولذلك نص أهل العلم على أن التسبيح، والتهليل، ونحو ذلك من الأذكار يسمى دعاءً.
قال القرطبي في تفسيره: التسبيح، والحمد، والتهليل قد يسمى دعاء، روى مسلم، والبخاري عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم. لا إله إلا الله رب العرش العظيم. لا إله إلا الله رب السموات، ورب الأرض، ورب العرش الكريم). قال الطبري: كان السلف يدعون بهذا الدعاء، ويسمونه دعاء الكرب. وقال ابن عيينة وقد سئل عن هذا فقال: أما علمت أن الله تعالى يقول: (إذا شغل عبدي ثناؤه عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين). والذي يقطع النزاع وأن هذا يسمى دعاء، وإن لم يكن فيه من معنى الدعاء شيء، وإنما هو تعظيم لله -تعالى-، وثناء عليه، ما رواه النسائي عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوة ذي النون، إذ دعا بها في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء، إلا استجيب له. اهـ.
وقد بيَّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية تفصيلا في «دقائق التفسير» فقال: لفظ الدعاء، والدعوة في القرآن يتناول معنيين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة. اهـ.
وفصّل ذلك ثم قال: والمقصود هنا أن لفظ الدعوة، والدعاء يتناول هذا، وهذا، قال الله تعالى: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}، وفي الحديث: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله" رواه ابن ماجه، وابن أبي الدنيا. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الترمذي، وغيره: "دعوة أخي ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ما دعا بها مكروب، إلا فرج الله كربته" سماها دعوة؛ لأنها تتضمن نوعي الدعاء، فقوله: "لا إله إلا أنت" اعتراف بتوحيد الإلهية، وتوحيد الإلهية يتضمن أحد نوعي الدعاء، فإن الإله هو المستحق لأن يدعى دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وهو الله لا إله إلا هو، وقوله "إني كنت من الظالمين" اعتراف بالذنب، وهو يتضمن طلب المغفرة. اهـ.
وقال في موضع آخر -كما في جامع المسائل-: كل واحدٍ من اسمي الذكر، والدعاء يتناول الآخر، فالداعي لله ذاكرٌ له، وهذا ظاهر، والذاكر لله داعٍ له -أيضًا-، كما يقال: «أفضل الدعاء يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»، ودعاء الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات، ورب الأرض ربّ العرش الكريم». وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «دعوة ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ما قالها مؤمنٌ، إلا فرَّج الله عنه». وكتاب «الدعاء» للطبراني مشتمل على أنواع الأذكار، والفقهاء يسمُّون الأذكار التي في الصلاة أدعية، فيقولون ــ كابن بطة ــ: ما كان من الدعاء ثناء على الله، وما كان مسألةً للعبد ... إلى أن قال: وأما إطلاق لفظ الدعاء على الثناء، وذكر الله فلوجوه ... .اهـ. وذكرها مفصلة.
وقال السيوطي في «الحاوي للفتاوي»: مسألة في الذكر، والتسبيح، والدعاء: هل هو معادل للصدقة، ويقوم مقامها في دفع البلاء؟ الجواب: الأحاديث، والآثار صريحة في ذلك، وفي تفضيله على الصدقة، وأما كونه سببا لدفع البلاء، فهو أمر لا مرية فيه، فقد وردت أحاديث لا تحصى في أذكار مخصوصة من قالها عصم من البلاء، ومن الشيطان، ومن الضر، ومن السم، ومن لدغة العقرب، ومن أن يصيبه شيء يكرهه، وكتاب الأذكار للشيخ محيي الدين النووي مشحون بذلك، وكذا كتاب الدعاء للطبراني، وللبيهقي، فلا معنى للإطالة بذلك، وقد صح في لا حول ولا قوة إلا بالله، أنها تدفع سبعين بابا من الضر أدناها الفقر، وفي رواية: أدناها الهم ...، وأخرج أبو داود، وغيره عن ابن عباس مرفوعا: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب» ... وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق الزهري قال: أتي أبو بكر الصديق بغراب وافر الجناحين فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما صِيدَ صَيدٌ، ولا عضدت عضاه، ولا قطعت وشيجة، إلا بقلة التسبيح" ... .اهـ.
وكما أن التسبيح، والتهليل، وذكر الله -عموما-، والاستغفار يرد القدر، ويرفع البلاء، فإن أصل الإيمان، والتوبة تفعل ذلك -أيضا-، كما يدل عليه قوله تعالى: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ {يونس: 98}.
قال القرطبي في تفسيره: معنى {كشفنا عنهم عذاب الخزي}، أي العذاب الذي وعدهم به يونس أنه ينزل بهم ...، وبالجملة فكان أهل نينوى في سابق العلم من السعداء. وروي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: إن الحذر لا يرد القدر، وإن الدعاء ليرد القدر. وذلك أن الله -تعالى- يقول: {إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا}. اهـ.
وقد سبق لنا التنبيه على أمور أخرى، وردت بها النصوص، تغير القدر، كصلة الرحم، وبر الوالدين، وأعمال البر، فانظر الفتوى: 35295.
وهنا ننبه على أن الدعاء، وغيره مما سبق ذكره هو نفسه من جملة القدر، وراجع في ذلك الفتويين: 18306، 9890.
والله أعلم.