عنوان الفتوى : التطرف والغلو في ميزان الشرع
هل التديُّن يلزم منه التطرُّف؟
وكيف أكون متمسكًا بديني دون الوقوع في الغلو؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن التدين الصحيح بعيد عن التطرف -الذي هو الجنوح إلى طرف الغلو والإفراط، أو إلى طرف التقصير والتفريط- فإن دين الإسلام هو دين العدل والوسط.
وقد أثنى الله -سبحانه- على هذه الأمة بأنها أمة وسط، قال سبحانه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا {البقرة:143}.
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: فلعمر الله إنهما لطرفا إفراط وتفريط، وغلو وتقصير، وزيادة ونقصان.
وقد نهى الله -سبحانه- عن الأمرين في غير موضع؛ كقوله: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} [الإسراء 29]، وقوله: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا} [الإسراء 26]، وقوله: {والَّذِينَ إذا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوامًا} [الفرقان 67]، وقوله: {وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف 31].
فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النّمَط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرِّطين، ولم يلحقوا بغُلُوّ المعتدين، وقد جعل الله -سبحانه- هذه الأمة وسَطًا، وهي الخيار العدل، لتوسطها بين الطرفين المذمومين.
والعدلُ هو الوسط بين طرفي الجَوْرِ والتفريط، والآفاتُ إنما تتطرّق إلى الأطراف، والأوساط مَحْميَّة بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها.
قال الشاعر:
كانَتْ هِيَ الوَسَط المَحْمِيَّ فاكْتَنَفَتْ بِها الحَوادِثُ حَتّى أصبَحَتْ طَرَفا. اهـ.
فدين الله في جميع الأبواب في الاعتقادات، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، وسط بين الجفاء والغلو، وبين التفريط والإفراط.
والتطرف المذموم في ميزان الشرع يشمل التقصير والتفريط، كما يشمل الغلو والزيادة. خلافا لما هو شائع من قصر وحصر التطرف المذموم على الغلو فقط!
ومن المهم التنبه إلى أن المعيار في وصف أمر بأنه وسط وعدل، أو أنه غلو أو جفاء مذموم، هو معيار السنة النبوية والشرع الحنيف.
وليس المعيار هو الأهواء أو الأعراف، أو العادة التي تعودها الناس ونشؤوا عليها، فكثير من هذه الأمور تخالف الشرع وتجانب السنة، ويحكم بها على جملة من أحكام الشريعة الغراء التي تخالفها بأنها تطرف، كالتزام المرأة المسلمة بالحجاب، واجتناب الاختلاط بين الرجال والنساء على وجه الريبة والفساد، وإنكار الفواحش بدرجاتها وأنواعها، ومجانبة المكاسب المحرمة كالربا والقمار.
ولذلك فإن التدين مع البعد عن الغلو إنما يكون بالتزام السنة النبوية، والانضباط بالأحكام الشرعية، ومراعاة آدابها ومقاصدها.
ومما يعين على احتناب الغلو:
-استشعار خطر الغلو، وذم الشرع للغلو والغالين، قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ {النساء:171}، وقال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا {هود:112}.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه. فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هلك المتنطعون» قالها ثلاثا.
قال النووي في شرح صحيح مسلم: أي: المتعمقون الغالون، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. اهـ.
وفي سنن النسائي من حديث ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين. وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: وقوله: «إياكم والغلو في الدين» عام في جميع أنواع الغلو، في الاعتقاد والأعمال. اهـ.
- سؤال الله -سبحانه- الهداية إلى الحق، والوقاية من الغواية.
- طلب العلم الشرعي من منابعه الصافية، ومصادره الموثوقة.
- الاقتداء بالعلماء الراسخين المعروفين بعلمهم واعتدالهم، وتقواهم.
-الحرص على الصحبة الصالحة العاقلة، البعيدة عن التفريط والغلو.
-البعد عن الاستماع أو القراءة إلى دعاة التطرف -ولو من باب الفضول والاطلاع-.
وراجع للأهمية، الفتويين: 134119 - 48482.
والله أعلم.