عنوان الفتوى : الجواب عن شبهة تعدد الآلهة
السؤال
كنت أعاني مؤخرًا من شكوك كثيرة في العقيدة؛ ممّا أدّى إلى خروجي من الإسلام، وحاولت مراسلة كثير من المواقع الإسلامية، لكن تم تجاهلي بشكل كامل؛ حتى خرجت من الإسلام.
وأنا أعيش في بلد غير إسلامي، وليس عندي شيخ أسأله، وأرجو ألا تحيلوني إلى فتاوى أخرى؛ لأنني قرأت الكثير، ولم أجد إجابة تشفي ما بصدري، وسؤالي:
ما الذي يثبت أن الله واحد؟ وما الذي يمنع أن يكون هناك عالم من الآلهة، كلٌّ له خلقه، وعندما أسمع رد القرآن عن هذا السؤال، لا أشعر أني مقتنع بالإجابة حيث يجيب بأن الكون لن يستقيم؛ إذ إنه من الممكن أن تختلف الآلهة، وحينها يحصل تعارض بين مشيئاتهم، وأنه لو كان هناك أكثر من إله، لذهب كلُّ بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض.
فأما السبب الأول؛ فلا أراه مقنعًا؛ لأنه إذا كان هناك أكثر من إله، فمن مقتضيات كونه إلهًا أن يكون كامل الحكمة، فلا يمكن لإلهين كاملي الحكمة أن يختلفا في اتخاذ قرار، لأن كليهما سيحكم بالأمر الصواب؛ لكمال حكمتهما.
وأما السبب الثاني؛ فلا أشعر أنه رد، فما المانع أن يكون لكل إله كونه الخاص به، وكل له ملك مختلف عن الآخر!؟
ومما ولَّد عندي هذا التفكير أن صفات الإله لا تخضع لمنطقنا نحن، فما المانع مثلًا أن تكون بعض الصفات المذمومة بالنسبة لنا صفات إلهية؛ كالكذب -والعياذ بالله- أو الظلم؟ نعم، قد نقول: إن هذا غير منطقي، ويتعارض مع الكمال، ولكن ما الذي أدرانا بالذي يناسب الإله، والذي لا يناسبه، فعقولنا لا يمكن أن تستوعب هذا الشيء، فما المانع أن يكون تعريفنا للإله خاطئًا؟
مشكلتي مع الدِّين عموما أنه يطلب منا أن نصل إلى اليقين التامّ، والايمان الكامل بما جاء به، ولكني أشعر أن ذلك مستحيل، وأشعر أنني مهما حاولت فسيكون هناك جزء مني يتساءل إن كان ما أؤمن به صحيح أم لا؛ لأننا كبشر تقريبًا لا نعلم شيئًا، وهناك أشياء كثيرة في عالمنا ما زلنا لا نعرف شيئًا عنها، فما بالك بالأشياء التي حدثت قبل عالمنا، أو مصدر كوننا!؟ وكيف يمكن تفسير أن جميع المعجزات التي حدثت في عهد النبي لم تذكر إلا في مصادر إسلامية، مع أن النبي تعامل مع كثير من غير المسلمين؟ أرجو الرد، فلا أريد أن أموت على هذا الحال، فأنا لا أنكر الإسلام، ولكن في نفس الوقت ليس لديَّ يقين به. وشكرًا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يلهمك رشدك، وأن يقيك شر نفسك، وأن يوفقك لاعتقاد الحق، والثبات عليه، والعمل به.
ثم إنه لا يكاد ينقضي منا العجب من مسلم يخرج من دِينه لمجرد افتراضات ذهنية، لا برهان عليها من عقل، أو منطق، أو مشاهدة، ولا تثبتها حجة، ولا يقوم عليها دليل، ولا تعدو مجرد خواطر وأفكار يضطرب بها صدر صاحبها، وتجول في خاطره.
وعلى أية حال؛ فنقطة البداية لمن يعتقد أن للكون خالقًا ينبغي أن تكون بالسؤال عن أسمائه وصفاته وأفعاله، التي يدل عليها آثار خلقه، ثم التي جاءت في وحيه إلى رسله لمن يؤمن برسالة سماوية، فهذا هو البحث الأصلي في هذه القضية.
فمن يؤمن بأولية الله الخالق لكل شيء، وأنه ليس قبله شيء على الإطلاق، لا يقبل البحث في تعدد الآلهة!
ومن يؤمن بأن الله تعالى هو القوي العزيز، العلي العظيم، العليم القدير، الواحد القهار، الذي لا يُغالب ولا يُمانع، ولا يضعف ولا يعجز، ولا يقبل الشركة، يفهم دليل التمانع الذي لم يقتنع به السائل، وانظر الفتوى: 420985، والفتوى: 210655.
وأما قول السائل: (فلا يمكن لإلهين كاملي الحكمة أن يختلفا في اتخاذ قرار، لأن كليهما سيحكم بالأمر الصواب؛ لكمال حكمتهما)، فإذا سلمنا ذلك جدلًا في الأمور التي يكون فيها صواب وخطأ، ولا توافق الحكمة إلا على وجه واحد، فكيف بالأمور التي تحتمل أكثر من وجه، ويمكن أن تجري على أكثر من طريقة، وكلها توافق الحكمة، ألا يَرِدُ هنا الاختلاف بين الإرادة المحضة لكل إله؟! وهنا لا بدّ من نفاذ إرادة واحدة، فيكون صاحبها هو المستحق للألوهية، ومن عداه مقهور عاجز لا يستحقها، وقد حصل الخطأ ابتداءً في افتراض كونه إلهًا.
وهذا يتضح بالنظر إلى الوجود كله، الذي يضم جميع المخلوقات، ولا تنتظم العلاقة بينها إلا بنفاذ إرادة واحدة، فلو افترضنا جدلًا: انتظام أمر كل مملكة وحدها، فكيف تنتظم العلاقة بين هذه الممالك المختلفة؟ وهذا يجيب عن سؤال السائل: (ما المانع أن يكون لكل إله كونه الخاص به، وكل له ملك مختلف عن الآخر؟) وإلا فلا يكون الإله إلهًا إلا إذا كان بكل شيء عليمًا، وعلى كل شيء قدير، فلو جهل، أو ضعف، أو عجز عما خلقه غيره، لم يصح كونه إلهًا، وهذا أيضًا يرجع إلى دليل التمانع الذي أشرنا إليه سابقًا.
ثم إن الاتفاق المطلق في الإرادة هو نفسه دليل على نقص القدرة الإلهية، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في «درء تعارض العقل والنقل» حيث يقول: إن قُدِّر أنه لا يجوز اختلاف الإرادة، بل يجب اتفاق الإرادة، كان ذلك أبلغ في دلالته على نفي قدرة كل واحد منهما، فإنه إذا لم يجز أن يريد أحدهما ويفعل إلا ما يريده الآخر ويفعله، لزم أن لا يكون واحد منهما قادرًا، إلا إذا جعله الآخر قادرًا، ولزم أن لا يقدر أحدهما إلا إذا لم يقدر الآخر. اهـ. في كلام طويل ومفيد في بيان دليل التمانع، راجعه بطوله إن شئت في «منهاج السنة النبوية» (3/ 304: ٣٣٥).
ثم على افتراض المحال، وأنه يمكن أن يكون هناك (عالم من الآلهة، كل له خلقه) على حد قول السائل! فنحن نتساءل حينها عن كل مخلوق على حدته، هل يعبد الإله الذي خلقه خاصة، ومن ثم؛ يُضيع حق الآلهة الأخرى في العبادة، مع استحقاقها لذلك؛ لكونها آلهة، فتغضب عليه، أم يعبد الكل باعتبار أنها تستحق ذلك؛ لكونها آلهة، ومن ثم؛ يكون عبد غير خالقه، فيغضب عليه!؟
وهذا الإشكال لا محيد عنه، إلا بافتراض نقص الآلهة، ورضاها بالشركة، وهو محال ناقض للأصل.
ثم إن السائل -هداه الله- قد قاده المحال الذي فرضه إلى فرض آخر أشد بُعدًا ونكارة، وهو احتمال اتصاف الآلهة بالنقص، والعيب، والصفات المذمومة؛ اعتمادًا على (أن صفات الإله لا تخضع لمنطقنا نحن كبشر)!! ولكن السائل لم تدعه فطرته يذكر ذلك إلا مقرونًا بقوله: (والعياذ بالله)، حيث يقول: (فما المانع مثلًا أن تكون بعض الصفات المذمومة بالنسبة لنا صفات إلهية، كالكذب -والعياذ بالله- أو الظلم؟)، فلماذا يتعوذ بالله من ذلك ما دام محتملًا، ولا ينقض أصل الإيمان؟!
والحقيقة أن مثل هذه الطريقة في التفكير لا تتعارض مع الدِّين فقط، بل تتعارض أيضًا مع العقل، وتبلغ بصاحبها حد الشك في كل شيء، وافتراض الشيء وضده، وهذا هو مضمون قول السائل: (فما المانع أن يكون تعريفنا للإله خاطئًا؟)
ولذلك فإشكال السائل في الحقيقة ليس في مسألة إمكان تعدد الآلهة، بل في معرفة حقيقة الألوهية، وما ينبغي أن يتصف به الإله الخالق سبحانه؛ ولذلك أشرنا في صدر الجواب إلى أن نقطة البداية الصحيحة لمن يعتقد أن الكون مخلوق هي السؤال عن صفات الخالق وأفعاله، التي تدل عليها آثار خلقه.
ثم إننا نلفت نظر السائل لآفة قاتلة يقع فيها كثير من الناس، حيث يترك التفكر والتدبّر فيما ينفعه، ويشغل نفسه بما يضره! فهذه الأرض بما حوت، والسماء بما طوت، وما بينهما، وما فيهما من آيات القدرة الباهرة، الباطنة والظاهرة، التي تدل على كمال خالقها، وقيوميته، ووحدانيته، يترك المرء التفكّر فيها، والانشغال بعبادة خالقها وشكره، ويشغله نفسه بالتفكّر في ما حصل قبل خلق هذا العالم الذي يعرفه ويشاهده، وهل هناك عوالم أخرى لا يعرفها، ثم يستمرّ به الفكر حتى يفترض ما لا دليل عليه، بل الدليل ينقضه، من احتمال أن يكون هناك عوالم أخرى لها آلهة أخرى!
وأخيرًا – وهو الأنفع والأهم – فإن العاقل الذي أُلهم رشده، بعد أن ينظر في أدلة الخلق، ودلالتها على الخالق وصفاته، ينظر في أدلة الرسالات السماوية، فإذا آمن بالرسل، صار دليل السمع عنده أثبت من دليل العقل المجرد.
فمن قامت عنده الأدلة الدامغة -وهي كثيرة- على أن القرآن المجيد هو كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو رسول الله الصادق المصدوق، كانت أدلة السمع بعد ذلك هي الأصل الذي يعتمد عليه، ويرجع إليه، وقد قال تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {الرعد:16}، وقال سبحانه: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {النمل:64}.
وأما السؤال عن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها لم تنقل إلا في مصادر إسلامية، فهذا إنما يُشكِل إذا وجدت مصادر غير إسلامية تنقل ما حدث في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، دون ذكر هذه المعجزات، ولكن هذا ليس بحاصل.
فالسيرة النبوية بصفة عامة لم تنقل ابتداءً إلا في مصادر إسلامية، وهذا هو الشيء المعهود، فعرب الجزيرة أسلموا جميعًا، وهم -كغيرهم من الأمم- مَن كَتَب تاريخهم، ودوَّن الأحداث الخاصة بهم في هذه الأرض.
ومع ذلك؛ فهناك من المعجزات ما تواتر نقله، ولا يحتاج إلى النظر في حال ناقليه، ومنها ما يكفي مجرد نقله، كالإخبار بالمغيبات.
هذا مع كون المعجزة الجامعة والكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم، وهو محفوظ في الصدور والسطور.
والله أعلم.