عنوان الفتوى : تفنيد شبهات حول الشكوك في كل ما يخص الدين
السؤال
فقدت كل إيماني بوجود الله وصدق رسوله، عمري 23 سنة، حدث معي الأمر منذ ما يقارب ستة أشهر، توقفت عن الصلوات والعبادات بعد أن استهلكتني الشكوك في كل ما يخص الدين، ولم يعد لديَّ إيمان بوجود الله، جربت البحث والأخذ بالأسباب المنطقية، وقراءة القرآن، ودعوت الله الهداية، ولم أجد الحل، والآن أنا عالق ما بين شكوكي، وخوفي من الله، أبحث عن إجابة شافية مفصلة لكي أستطيع التغلب على ما يراودني
مع الأخذ بالحسبان أن أسباب شكوكي جاءت من أكثر من سبب:
1-أخطاء في التعليم الذي تلقيته في صغري، والتي كانت صدمة لي عندما تبين لي أن الكثير مما كان يرسخ إيماني بوجود الله خاطئ، وكلها كانت بدعا من المعلمين أو غيرهم.
2- المثالية بالدين، وكل ما وجد بديننا يمكن توقعه بناءً على الفطرة الإنسانية، وليس هناك آثار إلهية واضحة في ديننا.
3- ليس هناك دليل قاطع: مهما حاولنا إثبات ديننا دائما ما نجد ثغرة للشكوك، وفي حال كان الله موجودا، فهذا الأمر إذًا تصرف إلهي متعمد لاختبار إيماننا، وإن لم يكن، فكل الشكوك منطقية.
4- فقدان الثقة بعلماء المسلمين: ليس لقلة علمهم، وليس لإيمانهم أيضا، إنما لقوة إيمانهم، وإنعدام الشكوك لديهم رغم وجودها, إيماننا القوي بشيء ما يجعلنا نخلق الكثير من الأسباب المنطقية لوجوده, وعدم إيماننا به يجعلنا نخلق الكثير من الأسباب المنطقية لعدم وجوده, وعلماء المسلمين هم بشر مثلنا.
5- التاريخ الطويل للدين الإسلامي: إن أخذنا بالاعتبار أن البشر خطاؤون مع طول الزمان الذي مر به الدين الإسلامي فسنجد أن 1400 سنة كافية لتغيير أغلب المحتوى الإسلامي.
6- رغم قول الكثير أن الله وعد بحماية كتابه من أي تحريف، ولكن في حال كان الكتاب محرفا، فالمحرف يستطيع وضع آية عدم التحريف داخل الكتاب.
بقيت الكثير من الشكوك في داخلي، ولكني أظن أن إجابة الشكوك فوق سيكفيني.
رغم وجود الكثير من الشكوك، وتركي للدين لفترة من الفترات إلا أني بقيت محافظا على الحدود التي وضعت بالدين، ولم أرتكب أي شيء مخالف للدين، ولدي الرغبة الكاملة بالعودة لإيماني السابق الذي أظن أني فقدته كليا.
وشكرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلو أن السائل رجع في بحثه عن الحق إلى أهل التخصص في موضوع الإلحاد ونقض شبهاته، لَوَفَّر على نفسه وقتا وجهدا كبيرا، فضلا عن تحمل التبعة الثقيلة لما وصل إليه! فالإلحاد في عصرنا وإن كان له مدارسه وقنواته وروَّاده والناشطون في نشره، إلا أن له أيضا ناقضين ومفندين لشبهاته، ومصنفين مجيدين في بابه، ناهيك عن المنصات الحوارية والمواقع الإلكترونية، وقد سبق لنا بيان بعض المراجع المتخصصة في مناقشة مسائل الإلحاد وأسبابه وشبهاته، فراجع الفتويين: 304762، 365854.
وظننا أن السائل لو قرأ بعض هذه الكتب، لزال عنه ما يجد. وهذا يتأكد في مناقشة تفاصيل ما أورده في سؤاله، فنحن لا يسعنا الإلمام بذلك بالطريقة التي تليق بالموضوع، ولذلك سنكتفي بعد الإحالة السابقة، بنقاط مجملة في مقابلة النقاط التي ذكرها السائل على ترتيبها:
1) على افتراض أن ما تعلَّم السائل في الصغر كان به أخطاء حقيقة، فإن هذا لا يعني عدم وجود أدلة صحيحة دامغة على وجود الله تعالى واتصافه بصفات الكمال. وليس خطأ من أخطأ بحجة على إصابة من أصاب.
2) الفطرة الإنسانية وإن كانت مفيدة وصالحة للاعتماد عليها في أصول كلية جامعة من الأخلاق والقيم، إلا إنها لا تكفي وحدها، ولاسيما مع انتشار الشر والرذيلة، وفساد البيئة التربوية والثقافية والاجتماعية والسياسية. ومع ذلك فإن مجرد إثبات وجود فطرة إنسانية ينسف مبدأ الإلحاد من أساسه؛ فإن من أكبر إشكاليات الإلحاد أنه لا يقدم أساسا موضوعيا لوجود الأخلاق والقيم، مع إنكار وجود خالق عليم حكيم. فالإنسان عندهم حثالة بيولوجية كيمائية، وُجِدت صدفة من غير خالق، بسب الانتخاب الطبيعي والتطور، وبالتالي فلا معنى عندهم لكلمة فطرة أو أخلاق ونحو ذلك.
3) إذا كانت الشكوك في وجود الله تعالى منطقية – وهي ليست كذلك – فلا مانع من وصف الشك المطلق، حتى في وجود الإنسان ذاته، بأنه منطقي! فإنه قائم هو الآخر على فلسفة قابلة للوصف والنقل والتأثير، ولها أتباعها من السفسطائيين قديما وحديثا. وأما قول السائل: (ليس هناك دليل قاطع) فهذه حدود علمه وقناعاته، ولكن الحقيقة أن عدم العلم ليس علما بالعدم، ومن علم حجة على من لم يعلم.
وأما مسألة الاختبار وكونه حكمة أو علة لخلقنا، فهذا صحيح، وقد نص عليه القرآن وسماه ابتلاء، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا {هود: 7} وقال سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {الملك: 2}. ولكن ليس معنى الابتلاء أن قضية الإيمان لا تقوم على برهان صحيح، فإن وجود الله تعالى أثبت في الدليل والبرهان من وجود كل شيء حولنا.
4) إذا كان السائل يعتقد أن الإيمان بالله يحمل أصحابه على اختلاق الأسباب المنطقية لوجوده، وأن عدم الإيمان به يحمل أصحابه على اختلاق الأسباب المنطقية لعدم وجوده .. فهذا يمكن تصوره، ولكن لا يوصف الأمرين جميعا بالمنطقية! بل هذا وصف المصيب منهما، وأما المخطئ فلا يقوم على منطق صحيح. ويبقى الحكم للعقل الصحيح والبرهان القائم. وهنا ننبه على أمر مهم، وهو أنه لا يوجد في كلام الملحدين: إثبات أي دليل على عدم وجود الله تعالى، وإنما قصارى الأمر هو دعوى أن أدلة وجوده سبحانه غير كافية أو غير مسلَّمة. وأما برهان على عدم الوجود فلم يدَّعِ أحد قيامه.
وأما فقدان الثقة بعلماء المسلمين لانعدام الشك عندهم، فهذا إنما يقوله السائل لانقداح الشك في ذهنه، وبلوغه مبلغا لا يرى عنه محيدا، فيتصور أن من فقده لم يفقده إلا لعدم فهمه أو لنقص علمه! ومقتضى هذا أن سبب الكمال عاد نقصا، وانقلب الحمد ذمًّا.
وعلى أية حال فمن أهل الإيمان من عُدِم الشك لعدم تعرضه لشبهة وكمال يقينه. ومنهم من عُدِم الشك مع علمه بأسبابه ومسالكه، لأن عنده من العلم الراسخ والفهم الثاقب ما يدفع به الشك. ومنهم من وقع فيه بالفعل ثم تخلص منه بعلم نافع وبحث صادق، وما تجربة الغزالي التي حكاها في كتابه (المنقذ من الضلال) منا ببعيد.
5) طول الزمان، مع احتمال وجود الخطأ في النقل، لا يمكن أن يقدح في نقل القرآن العظيم، لانه منقول بالتواتر لفظا وأداءً، مع التوثيق بالكتابة، ومثل هذا لا يحتمل الخطأ في النقل. وكذلك السنة المتواترة نقلها يفيد العلم اليقيني. وعلى هذا يقوم دين الإسلام، فكيف يقال بعد ذلك: (تغيير أغلب المحتوى الإسلامي).
وأما مرويات السنة التي لم تبلغ حد التواتر فقد وضع أهل العلم لقبولها شروطا وضوابط علمية دقيقة، تفردت بها الأمة الإسلامية فيما يعرف بعلم الحديث ونقد الرويات، حتى قال المستشرق المجري مارجيليوس: ليفتخرْ المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم. اهـ.
ومع ذلك فإنا نؤكد أن القرآن وحده كاف لإقامة الحجة في كل قضايا أصول الديانة وقواعد الملة، فضلا عن إثبات وجود الله تعالى.
6) احتمال وضع مريد تحريف القرآن لآية عدم التحريف، لا يقوله من يتصور معنى النقل المتواتر، فضلا عن التوثيق بالكتابة، وحسبك ما سبقت به الإشارة في النقطة الخامسة.
ثم نعود ونلح على السائل في قراءة الكتب التي ذكرناها في الفتوى: 365854. ففيها بفضل الله ما يزيل الشبهة، ويقيم الحجة.
والله أعلم.