عنوان الفتوى : التدبر في آيات القرآن يعين على التفسير الصحيح لكثير من الأمور المتعلقة بالإنسان
ما رأيكم في شخص كثير التفسير لأمور الإنسان، قلت مرة: إن الجوع خلق ليبين الله للإنسان ضعفه، ولولا الجوع لتكبر الإنسان في الأرض؛ لأن الله جعل له القوة والسيطرة في الأرض، وخلق الجوع أقوى من الإنسان، وألهم الإنسان الأكل والشرب، وخلق له الغذاء من بقول، وماء. ما رأيكم في كلامي؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإنا ننصح من يعملون عقولهم في مثل هذا المجال، أن يشتغلوا بالتدبر في آيات الله المتلوة، والمرئية، وأن ينظروا في أخبار الوحي عن الإنسان وعن الكون، فإن الله عز وجل يظهر في هذا الكون، وفي نفس الإنسان من الآيات ما يظهر به للناس قدرته عليهم، وربوبيته لهم، وتدبيره لأمرهم، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {فصلت:53}، وقال تعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ {الذاريات:21}
وقال تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ {يونس:101}، وقال: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ... {الأعراف: 185}، وقال: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ... {سبأ: من الآية9} ، وقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ {يوسف:105} .
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة، ومنشور ولاية العلم والإرادة: وإذا تأملت ما دعا الله سبحانه في كتابه عباده إلى الفكر فيه، أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى، وبوحدانيته، وصفات كماله، ونعوت جلاله، من عموم قدرته، وعلمه، وكمال حكمته ورحمته، وإحسانه وبره، ولطفه وعدله، ورضاه وغضبه، وثوابه وعقابه. فبهذا تَعَرَّف إلى عباده، وندبهم إلى التفكر في آياته.
ونذكر لذلك أمثلة مما ذكرها الله سبحانه في كتابه، يستدل بها على غيرها، فمن ذلك خلق الإنسان، وقد ندب سبحانه إلى التفكر فيه، والنظر في غير موضع من كتابه، كقوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق} وقوله تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}، وقال تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا}. وقال تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}، وقال تعالى: {ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون} وقال: {أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} وقال: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين}.
وهذا كثير في القرآن، يدعو العبد إلى النظر والفكر في مبدأ خلقه، ووسطه، وآخره؛ إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه، وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ...اهـ.
ثم إن الله تعالى يبتلي عباده بالجوع، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {البقرة:155}، وليس هذا خاصا بالمتكبرين، بل قد يبتلى به المؤمنون، كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، في بعض حياتهم المدنية.
ولا شك أن للجوع أثرا على الإنسان، وأنه يسبب ضعفه؛ ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع.
قال ابن علان في دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين: وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الجوع) أي: المفرط، المانع من الحضور (فإنه بئس الضجيع) أي: المضاجع، وهو الذي ينام معك في فراش واحد، أي: بئس المصاحب؛ لأنه يمنع استراحة النفس والقلب، فإن الجوع يضعف القوى، ويثير أفكاراً رديئة، وخيالات فاسدة، فيخل بوظائف العبادة، ومن ثم حرم الوصال ...اهـ.
والله أعلم.