عنوان الفتوى : هل تلقي النبي صلى الله عليه وسلم القرآن من بحيرا الراهب؟!
يقول بعض النصارى إن سيدنا محمدا (صلى الله عليه وسلم) تلقى العلم من الراهب بحيرا طوال 13 عاما قضاها معه فى الدير، وحاولت الرد عليهم ولكني لم أجد فى كتب السيرة تفاصيل حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) فى الفترة من سن الثامنة وحتى الخامسة والعشرين، أرجو توضيح تفاصيل تلك الفترة؟ ولكم جزيل الشكر.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فقول هذا النصراني ظاهر البطلان لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلتق بالراهب بحيرا إلا مرة واحدة وهو طفل عندما سافر به عمه أبو طالب إلي الشام، وهذا معروف مشهور من كتب السيرة والتاريخ، ومن العجيب قول السائل: لم أجد في كتب السيرة تفصيل حياة النبي صلى الله عليه وسلم من سن الثامنة حتى سن الخامسة والعشرين، فإنه لا يخلو كتاب سيرة من هذا الأمر، راجع مثلاً سيرة ابن هشام. وما قاله هذا النصراني ليس بدعاً من القول فقد سبقه إليه أجداده من أهل الكتاب والمشركين، ويجدر بنا هنا أن نذكر ما قاله الزرقاني في مناهل العرفان 2/308 حيث قال في معرض الشبه الواردة حول إعجاز القرآن: الشبهة الأولى ودفعها: يقولون إن محمدا صلى الله عليه وسلم لقي بحيرا الراهب فأخذ عنه وتعلم منه وما تلك المعارف التي في القرآن إلا ثمرة هذا الأخذ وذاك التعلم، وندفع هذا أولا بأنها دعوى مجردة من الدليل خالية من التحديد والتعيين، ومثل هذه الدعاوى لا تقبل ما دامت غير مدللة، وإلا فليخبرونا ما الذي سمعه محمد صلى الله عليه وسلم من بحيرا الراهب ومتى كان ذلك وأين كان. ثانيا: أن التاريخ لا يعرف أكثر من أنه سافر إلى الشام في تجارة مرتين مرة في طفولته ومرة في شبابه، ولم يسافر غير هاتين المرتين، ولم يجاوز سوق بصرى فيهما، ولم يسمع من بحيرا ولا من غيره شيئا من الدين ولم يك أمره سرا هناك بل كان معه شاهد في المرة الأولى وهو عمه أبو طالب، وشاهد في الثانية وهو ميسرة غلام خديجة التي خرج الرسول بتجارتها أيامئذ، وكل ما هنالك أن بحيرا الراهب رأى سحابة تظلله من الشمس فذكر لعمه أن سيكون لهذا الغلام شأن، ثم حذره عليه من اليهود وقد رجع به عمه خوفا عليه ولم يتم رحلته، كذلك روي هذا الحادث من طرق في بعض أسانيدها ضعف ورواية الترمذي ليس فيها اسم بحيرا، وليس في شيء من الروايات أنه سمع من بحيرا أو تلقى منه درسا واحدا أو كلمة واحدة لا في العقائد ولا في العبادات ولا في المعاملات ولا في الأخلاق، فأنى يؤفكون. ثالثا: أن تلك الروايات التاريخية نفسها تحيل أن يقف هذا الراهب موقف المعلم المرشد لمحمد لأنه بشره أو بشر عمه بنبوته، وليس بمعقول أن يؤمن رجل بهذه البشارة التي يزفها ثم ينصب نفسه أستاذا لصاحبها الذي سيأخذ عن الله ويتلقى عن جبريل ويكون هو أستاذ الأستاذين وهادي الهداة والمرشدين، وإلا كان هذا الراهب متناقضا مع نفسه. رابعا: أن بحيرا الراهب لو كان مصدر هذا الفيض الإسلامي المعجز لكان هو الأحرى بالنبوة والرسالة والانتداب لهذا الأمر العظيم. خامسها: أنه يستحيل في مجرى العادة أن يتم إنسان على وجه الأرض تعليمه وثقافته، ثم ينضج النضج الخارق للمعهود في ما تعلم وتثقف بحيث يصبح أستاذ العالم كله لمجرد أنه لقي مصادفة واتفاقا راهبا من الرهبان مرتين، على حين أن التلميذ كان في كلتا المرتين مشتغلا عن التعليم بالتجارة وكان أميا لا يعرف القراءة والكتابة، وكان صغيرا تابعا لعمه في المرة الأولى، وكان حاملا لأمانة ثقيلة في عنقه لا بد أن يؤديها كاملة في المرة الثانية، وهي أمانة العمل والإخلاص في مال خديجة وتجارتها. سادسا: أن طبيعة الدين الذي ينتمي إليه الراهب بحيرا تأبى أن تكون مصدرا للقرآن وهداياته، خصوصا بعد أن أصاب ذلك الدين ما أصابه من تغيير وتحريف، وحسبك أدلة على ذلك ما أقمناه من المقارنات السابقة بين تعاليم القرآن وتعاليم غيره، وما قررناه من الوفاء في تعاليم القرآن دون غيره وما أشرنا إليه من أن القرآن قد صور علوم أهل الكتاب في زمانه بأنها الجهالات ثم تصدى لتصحيحها، وصور عقائدهم بأنها الضلالات ثم عمل على تقويمها، وصور أعمالهم بأنها المخازي والمنكرات ثم حض على تركها، فارجع إلى ما أسلفناه ثم تذكر أن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه، وأن الخطأ لا يمكن أن يكون مصدرا للصواب، وأن الظلام لا يمكن أن يكون مشرقا للنور. سابعا: أن أصحاب هذه الشبهة من الملاحدة يقولون إن القرآن هو الأثر التاريخي الوحيد الذي يمثل روح عصره أصدق تمثيل، فإذا كانوا صادقين في هذه الكلمة فإننا نحاكمهم في هذه الشبهة إلى القرآن نفسه، وندعوهم أن يقرؤوه ولو مرة واحدة بتعقل ونصفة ليعرفوا منه كيف كانت الأديان وعلماؤها وكتابها في عصره، وليعلموا أنها ما كانت تصلح لأستاذية رشيدة، بل كانت هي في أشد الحاجة إلى أستاذية رشيدة، إنهم إن فعلوا ذلك فسيستريحون ويريحون الناس من هذا الضلال والزيغ ومن ذلك الخبط والخلط، هدانا وهداهم الله فإن الهدى هداه ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. ثامنا: أن هذه التهمة لو كان لها نصيب من الصحة لفرح بها قومه وقاموا لها وقعدوا، لأنهم كانوا أعرف الناس برسول الله وكانوا أحرص الناس على تبهيته وتكذيبه وإحباط دعوته بأية وسيلة، لكنهم كانوا أكرم على أنفسهم من هؤلاء الملاحدة، فحين أرادوا طعنه بأنه تعلم القرآن من غيره لم يفكروا بأن يقولوا إنه تعلم من بحيرا الراهب كما قال هؤلاء لأن العقل لا يصدق ذلك والهزل لا يسعه، بل لجؤوا إلى رجل في نسبة الأستاذية إليه شيء من الطرافة والهزل، حتى إذا مجت العقول نسبة الأستاذية إليه لاستحالتها قبلتها النفوس لهزلها وطرافتها، فقالوا إنما يعلمه بشر، وأرادوا بالبشر حدادا روميا منهمكا بين مطرقته وسندانه ضالا طول يومه في خبث الحديد وناره ودخانه، غير أنه اجتمع فيه أمران حسبوهما مناط ترويج تهمتهم أحدهما أنه مقيم بمكة إقامة تيسر لمحمد الاتصال الدائم الوثيق به والتلقي عنه، والآخر غريب عنهم وليس منهم، ليخيلوا إلى قومهم أن عند هذا الرجل علماً ما لم يعلموه هم ولا آباؤهم، فيكون ذلك أدنى إلى التصديق بأستاذيته لمحمد، وغاب عنهم أن الحق لا يزال نوره ساطعا يدل عليه، لأن هذا الحداد الرومي أعجمي لا يحسن العربية، فليس بمعقول أن يكون مصدرا لهذا القرآن الذي هو أبلغ نصوص العربية، بل هو معجزة المعجزات ومفخرة العرب واللغة العربية: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103]. انتهى. والله أعلم.