عنوان الفتوى : قصة السقيفة والخلافة وموقف سعد بن عبادة منها
لدي عدة أسئلة عن سعد بن عبادة -رضي الله عنه-: - لماذا أراد الأنصار مبايعة سعد بن عبادة -رضي الله عنه-؟ - لماذا كان يريد الخلافة، ودعا الناس إلى مبايعته؟ - لماذا كان يرى علي -رضي الله عنه- بأن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- أحق بالخلافة من أبي بكر -رضي الله عنه-؟ - هل صحيح أن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- لم يبايع أبا بكر ولا عمر حتى مات؟ - كيف مات -رضي الله عنه-؟ وكيف تردون على من يقولون بأن مقتله كان مدبرًا؟ وشكرًا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن قصة السقيفة قد دأب بعض أهل الأهواء ممن اسودت قلوبهم بالغلّ لأصحاب رسول الله على إثارة الإشكالات والاختلاقات حولها، بغية الطعن في صحابة رسول الله، وزعزة ثقة المسلمين بهم، لكن سعيهم في ذلك خائب -بحمد الله-، فليس في القصة أي مستمسك لهم على بدعتهم وضلالهم، بل هي شجى في حلوقهم، تدل على نقيض قصدهم، وتنقض باطلهم من أساسه.
وأما عن سؤالك: (لماذا أراد الأنصار مبايعة سعد بن عبادة -رضي الله عنه-؟): فإنما فعل الأنصار ذلك لظنهم أن لهم حقًّا في الإمارة، وقد كان سعد بن عبادة -رضي الله عنه- من سادة الأنصار وأمرائهم، فلما بيّن الصحابة للأنصار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل الإمارة في قريش، سلّم عامة الأنصار بذلك، ورجعوا للحق، وأذعنوا وبايعوا أبا بكر، إلا سعد بن عبادة لم يبايع -على المشهور-.
قال ابن التين: إنما قالت الأنصار: منّا أمير، ومنكم أمير. على ما عرفوه من عادة العرب أن لا يتأمر على القبيلة إلا من يكون منها، فلما سمعوا حديث الأئمة من قريش رجعوا عن ذلك وأذعنوا. اهـ.
وقال الخطابي: الحامل للقائل "منا أمير، ومنكم أمير" أن العرب لم تكن تعرف السيادة على قوم إلا لمن يكون منهم، وكأنه لم يكن يبلغه حكم الإمارة في الإسلام، واختصاص ذلك بقريش، فلما بلغه أمسك عن قوله، وبايع هو وقومه أبا بكر. اهـ. من فتح الباري.
قال ابن تيمية: فإنه -ولله الحمد- لم يسل سيف على خلافة أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا كان بين المسلمين في زمنهم نزاع في الإمامة، فضلًا عن السيف، ولا كان بينهم سيف مسلول على شيء من الدين.
والأنصار تكلم بعضهم بكلام أنكره عليهم أفاضلهم، كأسيد بن حضير، وعباد بن بشر، وغيرهما ممن هو أفضل من سعد بن عبادة نفسًا وبيتًا ... وإنما نازع سعد بن عبادة، والحباب بن المنذر، وطائفة قليلة، ثم رجع هؤلاء وبايعوا الصديق، ولم يعرف أنه تخلف منهم إلا سعد بن عبادة. وسعد وإن كان رجلًا صالحًا، فليس هو معصومًا، بل له ذنوب يغفرها الله، وقد عرف المسلمون بعضها، وهو من أهل الجنة السابقين الأولين من الأنصار -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
فما ذكره الشهرستاني من أن الأنصار اتفقوا على تقديمهم سعد بن عبادة هو باطل باتفاق أهل المعرفة بالنقل، والأحاديث الثابتة بخلاف ذلك. وهو وأمثاله وإن لم يتعمدوا الكذب لكن ينقلون من كتب من ينقل عمن يتعمد الكذب. اهـ.
وقال: ولا قال أحد من الصحابة: إن غير أبي بكر من المهاجرين أحق بالخلافة منه، ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار طمعًا في أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير، وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بطلانه، ثم الأنصار جميعهم بايعوا أبا بكر إلا سعد بن عبادة لكونه هو الذي كان يطلب الولاية. اهـ.
وسؤالك: (لماذا كان يريد الخلافة ودعا الناس إلى مبايعته؟): فإن إرادة سعد بن عبادة -رضي الله عنه- للخلافة كانت لأنه تأول كما تأوّلت الأنصار أن لهم حقًّا في الإمارة، وكذلك وقع في نفسه ما يقع في نفوس الناس من الحرص على الإمارة والولاية -وهذا لا يقدح فيه -رضي الله عنه-؛ إذ العصمة للأنبياء لا لغيرهم-.
قال ابن تيمية: وتخلف سعد قد عرف سببه؛ فإنه كان يطلب أن يصير أميرًا، ويجعل من المهاجرين أميرًا ومن الأنصار أميرًا، وما طلبه سعد لم يكن سائغًا بنص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإجماع المسلمين.
وإذا ظهر خطأ الواحد المخالف للإجماع، ثبت أن الإجماع كان صوابًا، وأن ذلك الواحد الذي عرف خطؤه بالنص شاذ لا يعتد به، بخلاف الواحد الذي يظهر حجة شرعية من الكتاب والسنة، فإن هذا يسوغ خلافه، وقد يكون الحق معه ويرجع إليه غيره. اهـ.
وقال: ثم إن المسلمين بايعوه -يعني أبا بكر- ودخلوا في طاعته، والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت الشجرة، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان -رضي الله عنهم ورضوا عنه-، وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد، ولم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة.
وأما عليّ وسائر بني هاشم فلا خلاف بين الناس أنهم بايعوه، لكن تخلفه -يعني سعد بن عبادة-، فإنه كان يريد الإمرة لنفسه -رضي الله عنهم أجمعين-. اهـ.
وقال: وسعد قد علم سبب تخلفه، والله يغفر له ويرضى عنه. وكان رجلًا صالحًا من السابقين الأولين من الأنصار من أهل الجنة، كما قالت عائشة -رضي الله عنها- في قصة الإفك لما أخذ يدافع عن عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، [قالت]: "وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا، ولكن احتملته الحمية".
وقد قلنا غير مرة: إن الرجل الصالح المشهود له بالجنة قد يكون له سيئات يتوب منها، أو تمحوها حسناته، أو تكفر عنه بالمصائب، أو بغير ذلك; فإن المؤمن إذا أذنب كان لدفع عقوبة النار عنه عشرة أسباب: ثلاثة منه، وثلاثة من الناس، وأربعة يبتديها الله: التوبة، والاستغفار، والحسنات الماحية، ودعاء المؤمنين له، وإهداؤهم العمل الصالح له، وشفاعة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، والمصائب المكفرة في الدنيا، وفي البرزخ، وفي عرصات القيامة، ومغفرة الله له بفضل رحمته. اهـ.
وقال: ولا ريب أن الإجماع المعتبر في الإمامة لا يضر فيه تخلف الواحد والاثنين والطائفة القليلة، فإنه لو اعتبر ذلك لم يكد ينعقد إجماع على إمامة؛ فإن الإمامة أمر معين، فقد يتخلف الرجل لهوى لا يعلم، كتخلف سعد؛ فإنه كان قد استشرف إلى أن يكون هو أميرًا من جهة الأنصار، فلم يحصل له ذلك، فبقي في نفسه بقية هوى. اهـ.
وأما قولك: (لماذا كان يرى عليّ -رضي الله عنه- بأن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- أحق بالخلافة من أبي بكر -رضي الله عنه-؟): فجوابه: أن هذا كذب واختلاق، فلم يدَّعِ أحد من الصحابة -لا علي -رضي الله عنه- ولا من سواه- لنفسه أو غيره أنه أحق بالإمارة والخلافة من أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-؛ قال ابن تيمية: لم يقل قط أحد: إني أحق بهذا الأمر منه. لا قرشي ولا أنصاري، فإن من نازع أولًا من الأنصار لم تكن منازعته للصديق، بل طلبوا أن يكون منهم أمير ومن قريش أمير. وهذه منازعة عامة لقريش، فلما تبين لهم أن هذا الأمر في قريش قطعوا المنازعة، وقال لهم الصديق: "رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح". قال عمر: فكنت والله أن أقدم فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك إلى إثم، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر". وقال له بمحضر الباقين: "أنت خيرنا وأفضلنا وأحبنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة. ثم بايعوا أبا بكر من غير طلب منه، ولا رغبة بذلت لهم ولا رهبة، فبايعه الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة، والذين بايعوه ليلة العقبة، والذين بايعوه لما كانوا يهاجرون إليه، والذين بايعوه لما كانوا يسلمون من غير هجرة، كالطلقاء وغيرهم. ولم يقل أحد قط: إني أحق بهذا من أبي بكر. ولا قاله أحد في أحد بعينه: إن فلانًا أحق بهذا الأمر من أبي بكر ... اهـ.
وسؤالك: (هل صحيح أن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- لم يبايع أبا بكر ولا عمر حتى مات؟): فالمشهور: أن سعد بن عبادة لم يبايع أبا بكر وعمر حتى مات -رضي الله عنهم جميعًا-؛ قال ابن تيمية: مع أن بيعة الصديق تخلف عنها سعد بن عبادة، ومات ولم يبايعه، ولا بايع عمر، ومات في خلافة عمر، ولم يكن تخلف سعد عنها قادحًا فيها، لأن سعدًا لم يقدح في الصديق، ولا في أنه أفضل المهاجرين، بل كان هذا معلومًا عندهم، لكن طلب أن يكون من الأنصار أمير.
وقد ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "«الأئمة من قريش»" فكان ما ظنه سعد خطأ مخالفًا للنص المعلوم، فعلم أن تخلفه خطأ بالنص، وإذا علم الخطأ بالنص لم يحتج فيه إلى الإجماع. اهـ.
وقال ابن حجر: ثم لم يقع من سعد بعد ذلك شيء يعاب به إلا أنه امتنع من بيعة أبي بكر فيما يقال، وتوجه إلى الشام، فمات بها، والعذر له في ذلك أنه تأول أن للأنصار في الخلافة استحقاقًا، فبنى على ذلك، وهو معذور وإن كان ما اعتقده من ذلك خطأ. اهـ. من فتح الباري.
وجاءت بعض الروايات تدل على أن سعد بن عبادة أذعن لأبي بكر بالإمارة؛ قال ابن تيمية: وأما أبو بكر فتخلف عن بيعته سعد؛ لأنهم كانوا قد عينوه للإمارة، فبقي في نفسه ما يبقى في نفوس البشر. ولكن هو مع هذا -رضي الله عنه- لم يعارض، ولم يدفع حقًّا، ولا أعان على باطل. بل قد روى الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- في مسند الصديق، عن عفان، عن أبي عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن -هو الحميري- فذكر حديث السقيفة، وفيه أن الصديق قال: ولقد علمت يا سعد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وأنت قاعد: "«قريش ولاة هذا الأمر، فبرّ الناس تبع لبرّهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم»". قال: فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء. فهذا مرسل حسن، ولعل حميدًا أخذه عن بعض الصحابة الذين شهدوا ذلك، وفيه فائدة جليلة جدًّا، وهي أن سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأول في دعوى الإمارة، وأذعن للصديق بالإمارة، فرضي الله عنهم أجمعين. اهـ.
وأما قولك: (كيف مات -رضي الله عنه-؟ وكيف تردون على من يقولون بأن مقتله كان مدبرًا؟): فالقول بأن قتله كان مدبرًا من بعض الصحابة كما يشيعه شرذمة من أهل الأهواء والضلال فكذب وإفك مبين، ولم يقله أحد من أهل العلم.
والمشهور أنه -رضي الله عنه- قد مات بمغتسله؛ قال ابن عبد البر: ولم يختلفوا أنه وجد ميتًا في مغتسله، وقد اخضر جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلًا يقول -ولا يرون أحدًا-:
قتلنا سيّد الخزرج ... سعد بن عباده.
رميناه بسهم ... فلم يخط فؤاده.
وانظري لمزيد الفائدة حول حادثة السقيفة الفتوى رقم: 26062، والفتوى رقم: 196485.
وبعد هذا: فنأمل منك مستقبلًا الالتزام بنظام الموقع من أن على السائل الاكتفاء بإرسال سؤال واحد فقط، فالأصل أن السؤال المتضمن عدة أسئلة يجاب السائل على الأول منها فحسب، ومع هذا أجبناك عن أسئلتك الستة.
وكذلك نسدي إليك نصيحة في الختام: وهي أنه قد ظهر من أسئلتك السابقة أن لك تقفرًا لشبهات المبتدعة، وتتبعًا لإشكالات المنحرفين، فنوصيك بالكف عن ذلك؛ لأنه مِنْ أكثر أسباب الزيغ عن طريق الحق، وقد يعود على العبد بالضرر البالغ في دينه، وقد كان أئمة السلف مع سعة علمهم يعرضون عن سماع الشبهات، وقد قال معمر في جامعه -المنشور ملحقًا بمصنف عبد الرزاق-: كنت عند ابن طاووس وعنده ابن له، إذ أتاه رجل يقال له صالح يتكلم في القدر، فتكلم بشيء فتنبه، فأدخل ابن طاووس إصبعيه في أذنيه، وقال لابنه: أدخل أصابعك في أذنيك واشدد، فلا تسمع من قوله شيئًا، فإن القلب ضعيف. اهـ.
وقال الإمام الذهبي: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة. اهـ.
وقال ابن بطة في الإبانة الكبرى: باب ترك السؤال عما لا يغني، والبحث والتنقير عما لا يضر جهله، والتحذير من قوم يتعمقون في المسائل، ويتعمدون إدخال الشكوك على المسلمين: اعلموا -إخواني- أني فكرت في السبب الذي أخرج أقوامًا من السنة والجماعة، واضطرهم إلى البدعة والشناعة، وفتح باب البلية على أفئدتهم، وحجب نور الحق عن بصيرتهم، فوجدت ذلك من وجهين:
أحدهما: البحث والتنقير، وكثرة السؤال عما لا يغني، ولا يضر العاقل جهله، ولا ينفع المؤمن فهمه.
والآخر: مجالسة من لا تؤمن فتنته، وتفسد القلوب صحبته. اهـ. ثم أفاض في بيان ذلك، والاستدلال عليه بالقرآن والسنة وآثار السلف.
فنوصيك بالاشتغال بطلب العلم بمنهجية صحيحة، وأن تحترسي من مغبة تتبع الشبهات، فإن ذلك قد يودي بدين العبد، فالحذر الحذر، ورُبّ شبهة يسمعها المرء فتقر في قلبه، ولا يملك إخراجها بعدُ، فيهلك بها.
والله أعلم.