عنوان الفتوى : أقوال العلماء في آية التربص في العدة .
هذه الآية ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ... ) قد نسختها الآية التي قبلها حسب قول معظم العلماء وهي : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا .... ) سؤالي هو : لماذا جاءت الآية الناسخة قبل المنسوخة في ترتيب الآيات ، مع أن المنسوخة قد نزلت قبل الناسخة ؛ لأنه قد يذهب ذهن القارئ أن الذي يأتي أخيرا ينسخ ما قبله وليس العكس ، فلماذا لم يكن ترتيب الآيتين في سورة البقرة بأن تكون المنسوخة قبل الناسخة ، أليس الترتيب مهم ومترابط لفهم القرآن بشكل سليم ؟
الحمد لله
أولًا :
ترتيب الآيات في السور : حصل بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن ذلك عن اجتهاد أصحابه، أو من بعدهم من أهل العلم .
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعلمون الناسخ والمنسوخ ، ويعلمون أوقات النزول ، وقد بلغوا ذلك كله للتابعين ، قال الإمام يحيى بن سلام البصري ، وهو من أتباع التابعين : " وحدثونا أن السور: لم تنزل كل سورة منها جملة ، إلا اليسير منها ، ولكن النبي عليه السلام قد كان سمى السور ؛ فكلما نزل من القرآن شيء، أمر أن يضعوه من السور، في المكان الذي يأمرهم به ؛ حتى تمت السور ، وكان يأمر أن يجعل في بعض السور المكية من المدني ، وأن يجعل في بعض السور المدينة من المكي ، وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : إن الله - تبارك وتعالى - يأمرك أن تجعل آية كذا بين ظهراني كذا ، وكذا (بين كذا وكذا) من السورة .
وقد نزل المكي قبل المدني ، وأن هذا التأليف الذي بين السور لم ينزل على هذا التأليف ، ولكنه وضع هكذا ، لم يجعل المكي من السور على حدة ؛ يتبع بعضه بعضًا في تأليف السور ، ولم يجعل المدني من السور على حدة ؛ يتبع بعضه بعضًا في تأليف السور .
وقد نزل بمكة بعض ما أمر به لما يكون بالمدينة ، يعملون به إذا قدموا المدينة .
وأن بعض الآيات نزلت الآية منها قبل الآية ، وهي بعدها في التأليف ...
وأن ما نزل بمكة ، وما نزل في طريق المدينة ، قبل أن يبلغ النبي عليه السلام المدينة فهو من المكي ، وما نزل على النبي عليه السلام في أسفاره بعدما قدم المدينة فهو من المدني " انتهى من " تفسير ابن أبي زمنين " (1/113).
ثانيًا :
حصل السؤال عن استشكالك في زمان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد روى " البخاري " في " صحيحه " (4530) : " عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ: لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا)البقرة/234 ، قَالَ: قَدْ نَسَخَتْهَا الآيَةُ الأُخْرَى، فَلِمَ تَكْتُبُهَا؟ أَوْ تَدَعُهَا؟ قَالَ: " يَا ابْنَ أَخِي لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ " .
قال البلقيني : " كأن عثمان - رضي الله عنه - راعى الإثبات؛ لأنه إنما نُسخَ الحكمُ خاصة دون اللفظ.
وكأنه [أي: السائل] ظن أن ما نسخ لا يكتب وليس كما ظنه، بل له فوائد: ثواب التلاوة والامتثال؛ ولأنه لو أراد نسخ لفظه لرفعه " ، انتهى من " التوضيح شرح الجامع الصحيح " ( 22/ 105).
وقال ابن كثير في " التفسير " (1/658): " ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان: إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر؛ فما الحكمة في إبقاء رسمها ، مع زوال حكمها، وبقاء رسمها بعد التي نسختها ، يوهم بقاء حكمها؟
فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي، وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها ، فأثبتها حيث وجدتها " انتهى .
وقال الشيخ الشنقيطي في " دفع إيهام الاضطراب " (35): " هذه الآية : يظهر تعارضها مع قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ) البقرة/240؟
والجواب ظاهر وهو أن الأولى ناسخة لهذه، وإن كانت قبلها في المصحف ، لأنها متأخرة عنها في النزول.
وليس في القرآن آية ، هي الأولى في المصحف ، وهي ناسخة لآية بعدها فيه ، إلا في موضعين: أحدهما : هذا الموضع.
الثَّانِي آيَةُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ [33 50] ، هِيَ الْأُولَى فِي الْمُصْحَفِ وَهِيَ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ الْآيَةَ [33 52] ، لِأَنَّهَا وَإِنْ تَقَدَّمَتْ فِي الْمُصْحَفِ فَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي النُّزُولِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ وَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَحْرِيرُ الْمَقَامِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ . " انتهى .
ثالثًا :
اختلف العلماء في هذه الآية ، وهي قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) البقرة/240 .
1- فذهب أكثر العلماء أنها منسوخة بآية البقرة التي سبقتها وهي قوله ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) البقرة/234 .
قال " القرطبي " في تفسير قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ): " وأكثر العلماء على أن هذه الآية ناسخة لقوله عز وجل: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ؛ لأن الناس أقاموا برهة من الإسلام ، إذا توفي الرجل ، وخلف امرأته حاملا : أوصى لها زوجها بنفقة سنة ، وبالسكنى ، ما لم تخرج فتتزوج، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر، وبالميراث " انتهى من " تفسير القرطبي " (3/ 174).
2- وذهب بعضهم إلى عدم النسخ .
يقول الشيخ السعدي : " الأزواج الذين يموتون ويتركون خلفهم أزواجا : فعليهم أن يوصوا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ أي: يوصون أن يلزمن بيوتهم مدة سنة، لا يخرجن منها ، فَإِنْ خَرَجْنَ من أنفسهن فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أيها الأولياء فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ أي: من مراجعة الزينة والطيب ونحو ذلك .
وأكثر المفسرين : أن هذه الآية منسوخة بما قبلها وهي قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا .
وقيل : لم تنسخها ؛ بل الآية الأولى دلت على أن أربعة أشهر وعشر واجبة، وما زاد على ذلك فهي مستحبة ، ينبغي فعلها تكميلا لحق الزوج، ومراعاة للزوجة.
والدليل على أن ذلك مستحب : أنه هنا نفى الجناح عن الأولياء ، إن خرجن قبل تكميل الحول، فلو كان لزوم المسكن واجبًا ، لم ينف الحرج عنهم " انتهى من " التفسير " (106).
وقد تكلم السخاوي في كتابه " جمال القراء وكمال الإقراء " (2/ 629) عن هذه الآية، وكونها غير منسوخة، فراجع كلامه هناك .
يقول الإمام القرطبي ملخصًا الأقوال في الآية ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ):
" ذهب جماعة من المفسرين في تأويل هذه الآية : أن المتوفى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفى عنها حولا، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل، فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها . ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونسخت النفقة بالربع والثمن في سورة " النساء " . قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد والربيع.
... وقال الطبري عن مجاهد: إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا، ثم جعل الله لهن ، وصية منه : سُكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت " .
ثم قال القرطبي: " القول الأول أظهر " انتهى من " تفسير القرطبي "(3/227)
والله أعلم
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |