عنوان الفتوى : حكم الاشتغال بما يسمى شعر الحداثة
سؤالي مردّه إلى الشعر الحديث. بصفتي شاعرا مسلما أكتب في الشعر وبالتحديد "شعر المدرسة الحداثية"، قصيدة النثر على وجه التخصيص، فكثيرًا ما ترتبط قصائدي بالفلسفة وذكر الأساطير من الميثولوجيا الرومانية أو اليونانية وغيرها، وقطعًا أنا لا أؤمن بتاتًا بهذه الأساطير والخرفات، لكن استشهاداتها تأتي من باب تقوية القصيدة، والاستئناس بها وتداخل الشعر المعاصر بها، ولأنّ الساحة العالمية الحالية في الشعر تطرح هذه المسائل مواضيعًا. ولكم أن أتمثّل بوجه نعنونه بِ: الدعوة إلى المثابرة واكتشاف القدرات المخبوءة في النفس: -// الأغصان أشعلت الآفاق و احترقت مملكة بروميثيوس نرسيس مازال ينظر في النّهر المحترق فلتشتعلي يا أغصان و اخرجي أيتها الروح المخبوءة-// بطبيعة الحال أنّه إذا تطرقنا إلى بدائل فهناك ما يسدّ الثغرة ويخرجنا من مسألة الاختلاف لا الخلاف، لأكتب في شعر يدعو للأخلاق الحميدة وشعر ملتزم، لكنّ واقع الأمر الذي أنا عليه غير هذا. أتمنى أن تنيروني في ما استشكل عليّ في هذه المسألة، وجزاكم ربّي الخيرات وحفّكم بالمسرّات.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يوفقك لكل خير، وأنت قد ذكرت في تضاعيف سؤالك جواب ما سألت عنه! فقولك: (بطبيعة الحال أنّه إذا تطرقنا إلى بدائل فهناك ما يسدّ الثغرة ويخرجنا من مسألة الاختلاف لا الخلاف، لأكتب في شعر يدعو للأخلاق الحميدة وشعر ملتزم) هو الذي ننصحك به، عوضا عن الاشتغال بما يسمى بشعر الحداثة، المخالف للذوق العربي، وقد وصفه الشيخ علي الطنطاوي: بالهذيان الذي نقرؤه الآن ـ الذي يدعونه الشعر الحديث ـ شعر الحداثة أي الحدث الأكبر الذي لا يتطهر منه صاحبه إلا بالغسل. اهـ.
هذا من جهة الأسلوب، وأما من جهة المضمون فلا يخفى أن الشعر الحر قد استعمله كثير من المنحرفين في تمرير العقائد والأفكار المخالفة لقطعيات الدين؛ مستغلين تلك المبالغة في الرمزية والغموض، فهو أشبه بالرداء الثقافي والوجه الأدبي للعلمانية والإلحاد, ويمكنك الرجوع في هذا لكتاب: (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها دراسة نقدية شرعية)، وكتاب: الحداثة في ميزان الإسلام، وهما متوفران على الشبكة.
لكن لا نجزم بأن مجرد كتابة الشعر الحديث وذكر أساطير الأمم ونحوها فيه محرم بذاته، ما دام ليس في المعنى محظور شرعي، وإن كان بعض العلماء يغلق هذا الباب من أصله، ويرى المنع منه بالكلية، جاء في المناهي اللفظية للشيخ بكر أبو زيد: فقد حدث في عصرنا: ((الشعر الحر)) الذي خالف العرب في نظام شعرها الموزون المقفى، وهذا منكر، يفسد اللسان، والبيان، والذوق السليم، ثم هو تغيير لشعائر العرب المحمودة، وقد أفاض شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في إنكار الإخلال بالشعر العربي وتغيير شعائر العرب المحمودة، كأنه شاهد عيان لما حدث في عصرنا، وكلامه في: ((الفتاوى: 32 / 252 - 25532 / 252 - 255))، قال ـ رحمه الله تعالى ـ: (( (الوجه الثالث)) : أن هذا الكلام الموزون كلام فاسد مفرداً أو مركباً؛ لأنهم غيروا فيه كلام العرب، وبدلوه؛ بقولهم: ماعوا وبدوا وعدوا. وأمثال ذلك مما تمجه القلوب والأسماع، وتنفر عنه العقول والطباع، وأما ((مركباته)) فإنه ليس من أوزان العرب، ولا هو من جنس الشعر ولا من أبحره الستة عشر، ولا من جنس الأسجاع والرسائل والخطب، ومعلوم أن ((تعلم العربية، وتعليم العربية)) فرض على الكفاية، وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، ونصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها. فلو ترك الناس على لحنهم كان نقصا وعيبا، فكيف إذا جاء قوم إلى الألسنة العربية المستقيمة والأوزان القويمة فأفسدوها بمثل هذه المفردات والأوزان المفسدة للسان الناقلة عن العربية العرباء إلى أنواع الهذيان .. ) اهـ.
وقال الشيخ محمد الحسن الددو: ولذلك نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أن الأهزاج المخالفة لأوزان الخليل بن أحمد بدعة، لا يحل الاشتغال بها، وهذا يقال في الشعر الحر، فما كان منه غير جار على التفعيلات المعروفة، أو كان خارقا لها، فهو تغيير وابتداع يؤدي إلى نقض المألوف والمشهور بين الناس، ولذلك يعتبر منهيا عنه من هذا الوجه. اهـ.
والله أعلم.