عنوان الفتوى : أنواع الكتابة القدرية: الأزلية والعمرية والحولية

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

عند تكوّن الإنسان في الرحم ليصبح في مرحلة الجنين ، ينزل الملك ويسأل الله تعالى عما إذا كان هذا الجنين سيصبح مسلمًا أم كافرًا ، فإذا ما نطق هذا الملك أنه سيكون كافرًا، فمهما يفعل هذا الشخص في حياته فلن يكون سوى كافر، ولن يهديه الله ، فهل يعني ذلك أن الجحيم قدرت له حتى قبل أن يولد؟ وهل نُخبر بذلك في عالم الأرواح ومع ذلك نختار هذه الحياة بسبب أطماعنا ؟ أرجو التوضيح بشأن إعلان الشخص كافر وهو في الرحم ، وبشأن العالم الذي سبق هذا العالم .

مدة قراءة الإجابة : 12 دقائق


الحمد لله
أولا:
قد قدر الله عز وجل جميع الأشياء في الأزل ، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، كما قال سبحانه: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) القمر/49 ، وروى مسلم (2653) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ . قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ).
فعَلِم الله ما يكون عليه العباد ، من كفر وإيمان وغير ذلك ، وكتبه ، وشاءه ، وجاء الخلق موافقا لعلمه وكتابته ومشيئته .
وأما الكتابة في الرحم ، فهي كتابة بعد الكتابة الأولى، وتقدير آخر ، بعد التقدير السابق .

فالكتابة أنواع :
الأول: الكتابة في اللوح المحفوظ ، وهي المذكورة في حديث عبد الله بن عمرو، وهي الكتابة في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض.
الثاني: الكتابة العمرية عند تخليق النطفة في الرحم ، فيكتب إذ ذاك ذكورتها أو أنوثتها ، والأجل والعمل والشقاوة والسعادة والرزق ، كما في حديث عبد الله بن مسعود: " حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ : ( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ : بِكَتْبِ رِزْقِهِ ، وَأَجَلِهِ ، وَعَمَلِهِ ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ) رواه البخاري (3208) ، ومسلم (2643).
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الْأَجَلُ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ) رواه البخاري (6595) ، ومسلم (2646).
قال ابن رجب رحمه الله بعد ذكر طائفة من أحاديث الباب ورواياته :
" وبكل حال، فهذه الكتابةُ التي تُكتب للجنين في بطن أمِّه غيرُ كتابة المقادير السابقة لخلق الخلائقِ المذكورة في قوله تعالى: ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا).." ، ثم توسع في ذكر النصوص الواردة في الباب.
ينظر : "جامع العلوم والحكم" (1/174) وما بعدها .

وقال ابن القيم رحمه الله : " وهذا تقدير بعد التقدير الأول السابق على خلق السماوات والأرض، وبعد التقدير الذي وقع يوم استخراج الذرية بعد خلق أبيهم آدم .. " انتهى، من " شفاء العليل
(ص)22.
الثالث: الكتابة الحولية ، أو التقدير الحولي في ليلة القدر، يقدّر فيها كل ما يكون في السنة إلى مثله. قال تعالى: (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) الدخان/1-5، وهذه هي ليلة القدر قطعا؛ لقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
قال مجاهد: ليلة القدر ليلة الحكم. وقال سعيد بن جبير: يؤذن للحجّاج في ليلة القدر فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم ، فلا يغادر منهم أحد ، ولا يزاد فيهم ولا ينقص منهم.
وقال ابن علية حدثنا ربيعة بن كلثوم قال قال رجل للحسن وأنا أسمع أرأيت ليلة القدر في كل رمضان هي ؟ قال نعم والله الذي لا إله إلا هو ؛ إنها لفي كل رمضان ، وإنها لليلة القدر ؛ يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يَقضي الله كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها.
وذكر يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: يكتب من أمّ الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحجّاج ، يقال يحج فلان ويحج فلان.
وقال مقاتل: يقدر الله في ليلة القدر أمر السنة في بلاده وعباده إلى السنة القابلة.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: يقدر أمر السنة كلها في ليلة القدر .
وينظر: " شفاء العليل " ( ص5-23 )، "معارج القبول" (3/928-939).
ثانيا:
تبين بهذا أن الإيمان والكفر مكتوبان ، كما أن الرزق مكتوب، وعلى العبد أن يعمل ويجتهد ، دون تفكير أو نظر فيما قدر عليه ؛ فإنه لا يدري ما الذي سبق له به الكتاب ؛ فليحسن الظن بربه ، وليعظم الرجاء فيما عنده ، وليعمل على أنه قد كتب من أهل السعادة ، ومعلوم أن تلك المنازل لا تأتي إلا بعمل ؛ فليعمل لها .
والعجب ممن يجتهد في تحصيل رزقه مع أنه مكتوب، ثم هو يريد ألا يسعى في تحصيل الإيمان والطاعة ؛ بحجة أن ذلك مكتوب! والأمر فيهما واحد، والعاقل لا يدع العمل اعتمادا على أمر مغيّب لا يدري عنه شيئا.
ولهذا وجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه للعمل، حين سألوه عن الاتكال على القدر:
فقد روى البخاري (4949) ، ومسلم (2647) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ فَقَالَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ ) ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟
، قَالَ : ( اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ؛ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ، ثُمَّ قَرَأَ: ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ) الْآيَةَ " .

ثالثا:
ما كتبه الله في اللوح المحفوظ لا يتغير، وأما ما كتب في صحف الملائكة فقد يتغير، وانظر جواب السؤال رقم : (430211) .

رابعا:
قولك: (وهل نُخبر بذلك في عالم الأرواح ومع ذلك نختار هذه الحياة بسبب أطماعنا)
جوابه: أنه لم يثبت إخبارنا بهذا المصير ونحن في عالم الأرواح. ولكن استخرج الله أرواح بني آدم من ظهر آدم عليه السلام، وأخذ عليهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا .
وانظر جواب : السؤال رقم : (211560) .
وروي أيضا : أن الله مسح ظهر آدم ، واستخرج منه ذريته ، وميز بين أهل الجنة وأهل النار، كما روى أحمد (311) ، وأبو داود (4703) ، والترمذي (3075) : " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ ) الْآيَةَ ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ ، وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً ، فَقَالَ : خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ . ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً ، فَقَالَ : خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ ) .
فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ ، فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ) .
والحديث قال عنه الشيخ الألباني رحمه الله : ضعيف ، "السلسلة الضعيفة" (3071) .
وينظر : "مختصر تلخيص الذهبي" لابن الملقن ، وحاشية المحققين (1/60-62) . وينظر أيضا : "التمهيد" لابن عبد البر (6/6) .

وأما الاختيار: فكل منا يعمل ما يعمل مختارا، لا يشعر بجبر أو اضطرار، فمن شاء آمن ، ومن شاء كفر، كما قال تعالى: ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) الكهف/29، وقال : ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) البلد/10 ، أي بينا له طريق الخير والشر.

ولهذا يحاسب الإنسان على عمله ، ويجازى به ؛ لأنه يعمله بإرادته واختياره : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزلة/7-8 .

وأما (العالم الذي سبق هذا العالم) فقد قال بعض أهل العلم : إن هذه الأرض قد عمرت قبل آدم عليه السلام، إما من قِبل الجن أو من غيرهم من المخلوقات، لقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) البقرة/30، قالوا: علمت الملائكة أن الإنس يفسدون في الأرض لما رأوه ممن كان قبلهم، وهذا أحد الأقوال في تفسير الآية، وانظر السؤال رقم : (128573) .

وليس في هذه المسألة دليل ظاهر يعتمد عليه، فالأولى التوقف في ذلك؛ لأنه غيب لا يعلم إلا بالنص، ولا نص صريحا في ذلك.

والله أعلم.