عنوان الفتوى : أنواع الكفار من حيث بلوغ الدعوة إليهم وحكمهم في الدنيا والآخرة
أسأل عن الكفار يوم القيامة؛ لأنني أحسب أنهم اليوم أربعة صنوف: 1- قسم قامت عليهم الحجة، وجادلهم مجادل، ورد شبههم، فهؤلاء لا محالة في النار. 2- قسم وصلهم الإسلام مشوهًا، كأن يسمع من طواغيتهم، فيجدونهم يشوهون صورته، أو يروا بعض الفرق الضالة، كالرافضة، والمتصوّفة، فيرغبون عنه. 3- قسم وصله الإسلام مفهومًا عامًا، كما أسمع أنا مثلًا عن الديانة الزرادشتية، وأعرف أنهم عبدة نار ... إلخ، لكن لا أعرف معتقداتهم حقيقة، وأعرف أنها ديانة فقط. 4- صنف لم يعرفوا عن الإسلام شيئًا، إما لتباعد ديارهم عن ديار الدعوة، كأن يكون في غابة، أو بلد منقطع عن بقية الناس، ولا يعرفون عن غيرهم شيئًا، أو أن يكون أحدهم أبكم أصم أعمى، فأنا أسأل عن الثلاث صنوف الأخيرة، هل هم ضمن أهل الأعراف، أم يبعث الله إليهم رسولًا يختبرهم في أرض المحشر قبل الحساب، أم ماذا؟ وهل كل من لم تقم عليه حجة وجدال داخل معهم، حتى إن كان كفرهم معلومًا؟ والنصراني الذي يذهب إلى الكنيسة ويسمع عن الإسلام ما موقفه يوم الحساب مثلًا؟ أتمنى أن تكون نظرتي وصلتكم، وجزيتم عن المسلمين خيرًا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأولًا: لا علاقة لأصحاب الأعراف بأي قسم من تلك الأقسام التي في السؤال، وإنما هم - كما قال المفسرون - أقوام استوت حسناتهم وسيئاتهم، فبقوا عند سور الجنة لم يدخلوها وهم يطمعون، روى الحاكم عن حذيفة بسند حسن، قال: بينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك، فقال: قوموا ادخلوا الجنة، فقد غفرت لكم. وانظر لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 51849 وما أحيل عليه فيها.
ثانيًا: بخصوص الذين لم يعرفوا عن الإسلام شيئًا، ولم تبلغهم دعوة الإسلام أصلًا، فهؤلاء على فرض وجودهم في هذا الزمان الذي تقدمت فيه وسائل المعرفة والاتصال، اختلف العلماء في حكمهم في الآخرة، وأرجح الأقوال أنهم يمتحنون في عرصات القيامة، فمنهم الموفق الناجي، ومنهم الخاسر الموبق.
أما حكمهم في الدنيا: فهم كفار باتفاق أهل الإسلام، تجب دعوتهم، وإيصال الهدى إليهم، وتجري عليهم أحكام الكفار.
ثالثًا: من بلغتهم دعوة الإسلام كمفهوم عام، فهؤلاء يجب عليهم البحث والتحري عن حقيقة الإسلام، فإن أمكنهم ذلك لكنهم لم يرفعوا رأسًا بذلك، فهؤلاء يشملهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ: يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَا يُؤْمِنُ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. رواه مسلم.
أما إن كانوا عاجزين عن البحث ومعرفة الإسلام، فهؤلاء حكمهم حكم من لم تبلغهم دعوة الإسلام.
رابعًا: من بلغتهم دعوة الإسلام مشوهة، ولم يتمكنوا من معرفة حقيقة الدعوة، فهم معذورون كمن قبلهم.
أما إن كانوا متمكنين من البحث والتحري عن الحقيقة، فهم مفرطون بتركهم البحث، فلا يعذرون بذلك.
قال ابن القيم في مدارج السالكين: حجة الله قامت على العبد بإرسال الرسول، وإنزال الكتاب، وبلوغ ذلك إليه، وتمكنه من العلم به؛ سواء علم أو جهل، فكل من تمكن من معرفة ما أمر الله به ونهى عنه فقصر عنه، ولم يعرفه فقد قامت عليه الحجة.
وقال أيضًا: وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.
وانظر الفتوى رقم: 172317 وما أحيل عليه فيها.
خامسًا: قيام الحجة لا يشترط فيه المحاجة والجدال، وإنما يكفي فيه بلوغ الدعوة بصورة واضحة؛ فإن فهم الحجة قسمان:
فهم معناها ودلالتها، فهذا لا بد منه لقيام الحجة عليه.
وفهم أن هذه الحجة أرجح في المقصود، فهذا ليس بشرط.
وانظر لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 211198 وما أحيل عليه فيها.
وختامًا: فليس العبد أرحم بالعباد من ربهم الرحمن الرحيم؛ تأمل قوله تعالى: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) {مريم}؛ قال العلامة ابن عاشور: عَبَّرَ عَنِ الْجَلالَة بِوَصْف الرحمن؛ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ حُلُولَ الْعَذَابِ مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ يَرْحَمَ إِنَّمَا يَكُونُ لِفَظَاعَةِ جُرْمِهِ إِلَى حَدِّ أَنْ يُحْرِمَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مَنْ شَأْنُهُ سَعَةُ الرَّحْمَةِ.
والله أعلم.