عنوان الفتوى : الجمع بين الأذكار الواردة ، والتنويع بينها بحسب المقام .
منذ فترة قرأت مجموعة من الكتب عن فضل الاستغفار ، ثم قرأت مجموعة من الأحاديث عن "سبحان الله وبحمده" ، وأنها صلاة الخلق ، وبها يرزق الخلق ، وأنها أحب الكلام إلى الله ، وقرأت أن العبد يحرم الرزق بالذنب ، والاستغفار يمحو الذنوب ، ولذلك : فهو من أسباب الرّزق، فأيهما أفضل الإكثار من الاستغفار أم سبحان الله وبحمده ؟ إذا كانت سبحان الله وبحمده أيضا من أسباب غفران الذنوب .
الحمد لله.
أولا :
فضل الذكر وشرفه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام ، وكفى لفضيلة الذكر شرفا أن الله تعالى يذكر من عباده من يذكره ، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه "الوابل الصيب من الكلم الطيب" أن للذكر أكثر من مائة فائدة ، ثم عدّد كثيرا من تلك الفوائد وتكلم عليها .
ثانيا :
المشروع في الأذكار أن يجمع الذاكر بينها ، وألا ينشغل بذكر عن غيره ، إنما ينشغل بجميع الأذكار ، حتى يصيب من فضل كل ذكر ما يمنّ الله به عليه من أجره وثوابه ، قال النووي رحمه الله :
" ينبغي لمن بلغه شيء في فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرّة واحدة ، ليكون من أهله ، ولا ينبغي أن يتركه مطلقاً ، بل يأتي بما تيسر منه " .
انتهى من "الأذكار" (ص: 8) .
ثالثا :
ثبت أن " سبحان الله وبحمده " صلاة كل شيء ، وبها يرزق الخلق ؛ فروى الإمام أحمد (6583) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ : إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ : آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ وَأَنْهَاكَ عَنْ اثْنَتَيْنِ : آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ ... ) وصححه الألباني في "الصحيحة" (134) .
كما ثبت أن هذا الذكر أحب الكلام إلى الله ؛ فروى مسلم (2731) عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( أَلاَ أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ ) قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِأَحَبِّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ ، فَقَالَ : ( إِنَّ أَحَبَّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ) .
وقول الأخ السائل : " العبد يحرم الرزق بالذنب والاستغفار يمحو الذنوب ولذلك فهو من أسباب الرّزق " : قول صحيح ، من حيث المعنى ، على جهة الإجمال ؛ قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" قال الله تعالى : ( وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) ، وقال تعالى عن هود : (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) ولا شك أن الاستغفار سبب لمحو الذنوب وإذا محيت الذنوب تخلفت آثارها المرتبة عليها وحينئذٍ يحصل للإنسان الرزق والفرج من كل كرب ومن كل هم " .
انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (3/299) - ترقيم الشاملة .
وأما حديث : ( وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) فقد رواه ابن ماجة (4022) ، وضعفه الألباني في " ضعيف ابن ماجة " .
رابعا :
روى البخاري (6405) ومسلم (2691) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ ) .
فثبت أن هذا الذكر يكفر الذنوب ، ولكنه لا يقوم مقام الاستغفار ، والاستغفار في مقام التوبة وطلب المغفرة والعفو من الله : أفضل من هذا التسبيح ؛ لأن العبد في الاستغفار يستحضر الذنب ، ويستحضر الخوف من الله ، وحسن الظن به والرجاء في عفوه ، فلا يغني هذا التسبيح عن الاستغفار ؛ ولذلك روى مسلم (484) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ " قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَاكَ تُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ ( خَبَّرَنِي رَبِّى أَنِّى سَأَرَى عَلاَمَةً فِي أُمَّتِى فَإِذَا رَأَيْتُهَا أَكْثَرْتُ مِنْ قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ، فَقَدْ رَأَيْتُهَا (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) فَتْحُ مَكَّةَ ( وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) .
فجمع بين " سبحان الله وبحمده " وبين الاستغفار ، فدل على أن التسبيح لا يغني عن الاستغفار ، ولا الاستغفار يغني عن التسبيح ؛ بل كلاهما مطلوب من العبد ، ثم قد يتفاضل بعضهما على الآخر ، في حال دون حال .
قال ابن القيم رحمه الله :
" وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفس ، وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه ، وبين فضيلته العارضة ، فيعطي كل ذي حق حقه ، ويوضع كل شيء موضعَه ؛ فللعين موضع ، وللرجل موضع ، وللماء موضع ، وللحم موضع !!
وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي ، والله تعالى الموفق.
وهكذا الصابون والأُشْنان أنفع للثوب في وقت ، والتجمير [ التطييب ] وماء الورد أنفع له في وقت .
وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يوماً : سُئل بعض أهل العلم : أيهما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟
فقال: إذا كان الثوب نقياً : فالبخور وماء الورد أنفع له ، وإذا كان دنساً فالصابون والماء الحار أنفع له !!
فقال لي رحمه الله تعالى : فكيف والثياب لا تزال دنسة ؟ " .
انتهى من "الوابل الصيب" (232-233) .
يعني ، والله أعلم : أن العبد لا يستغني عن الاستغفار في حال من أحواله .
ثم هو أيضا : لا يستغني عن التسبيح والتحميد ، على ما مر ذكره ، والجمع بينها ، ثم اختيار ما يقتضيه الحال في بعض الأوقات : هذا باب فقه العبودية ، والقيام بمراتب الأعمال .
راجع لمعرفة فضل الاستغفار إجابة السؤال رقم : (104919) .
ولمعرفة صيغ الاستغفار راجع إجابة السؤال رقم : (39775) .
ولمعرفة معنى " سبحان الله وبحمده " راجع إجابة السؤال رقم : (104047) .
والله أعلم .