عنوان الفتوى : المقصود بالمتشابه في آية آل عمران
تكلم ابن العربي في كتابه عارضة الأحوذي في باب التفسير عن قوله تعالى:{ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه} فقال: من الناس من وقف دون المتشابه فلم يتكلم فيه، وسلم الأمر لله بيد أنه آمن بأنه من عنده، وأنه مقصرعنه، فلو وقف هاهنا كما وقف عن الخوض فيه لكان منصفا، ولكنه قال أنا لا أتكلم فيه ولا يتكلم فيه غيري، والخبر أن مالكاً والأوزاعي تكلما فيه تارة وزجرا عنه أخرى بحسب حال المتكلم وهو الحق.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فيكفي في مثل هذا النقل أن يُعزى لابن العربي المالكي -رحمه الله- فهو ختام علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحفاظها، قال عنه ابن بشكوال في كتاب الصلة: وقدم إلى أشبيلية بعلم كثير، لم يدخل أحد قبله بمثله ممن كانت له رحلة إلى المشرق غير الباجي، وكان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها، مقدماً في المعارف كلها، متكلماً في أنواعها، نافذاً في جميعها، حريصاً على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها. انتهى
ولعل ابن العربي أخذ الكلام المذكور من أفواه شيوخه، أو نقله من كتاب لم يطبع إلى الآن، أو فُقد مع ما فقد من كتب المسلمين.
وليعلم الأخ السائل أن ابن العربي -رحمه الله- يقصد بالمتشابه هنا: الأمور التي ظاهرها التعارض وليست متعارضة في الواقع، ولذلك قال في عارضة الأحوذي مبيناً قصده: للمتشابه أنموذجان، بيانها في كتاب المشكلين، ومن أولها في الوقائع قول الكفرة: محمد يخوفنا بنار تأكل الحجارة، ثم يقول: إن في الجنة شجرة.. وقولهم: إن محمداً يزعم أنه سار إلى الشام من مكة وعاد في ليلة، وقولهم: إن محمداً قال إن الناس وما يعبدون في النار، وقد عُبدت الملائكة وعُبد عيسى، وقول نصارى نجران: إنك تزعم أن عيسى كلمة الله وروحه. يعنون: فكيف ينكر علينا أنه ابنه. انتهى
إذاً فليس المقصود بالمتشابه هنا أسماء الله وصفاته، كما قد يظنه البعض، لأن كلام الإمام مالك وجماهيرالسلف يشهد بأنهم لم يتكلموا فيها بتحريف ولا تأويل ولا تشبيه ولاتمثيل، وإنما أمروا بالإيمان بها على ظاهرها، ومما يشهد لذلك ما أخرجه الدارقطني في الصفات عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالكاً والثوري والأوزاعي والليث بن سعد عن الأخبار في الصفات، فقالوا: أمروها كما جاءت. أخرجه أيضاً الآجري في الشريعة وابن عبد البر في التمهيد، وجاء في روايته: أمروها كما جاءت بلا كيف. .
وقد صرح بذلك الإمام مالك نفسه، كما رواه أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن عبد الله قال: كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض، وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء -يعني العرق- ثم رفع رأسه، ورمى بالعود، وقال: الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة، وأمر به فأخرج.
وقال ابن حجر عنه في الفتح (بسند جيد): ولا يغرن السائل ما يرُوجه المبتدعة في هذا الزمان، من روايات أسانيدها ساقطة، ليثبتوا بها ظلماً وبهتاناً أن الأئمة كانوا يقولون بالتأويل المذموم، ومما أظهر كذبهم وفضح كيدهم أنهم ينقلون بعض الكلام ويتركون بعضه نصراً لزعمهم الباطل واتباعاً للهوى والشيطان، وقد بين ذلك الأستاذ عمرو بن عبد المنعم سليم في كتابه دفاعاً عن السلفية.. فراجعه لما فيه من الفائدة.
والله أعلم.