عنوان الفتوى : الحكمة من خلق الإنسان ونزول البلاء به
حضرة العلماء، أرجوكم أرجوكم أرجوكم ساعدوني. أعاني من تشوه في جسمي منذ الصغر، وأنا الآن شاب وبالتالي أعاقني هذا البلاء عن العمل وعن متابعة دراستي في الجامعة، فأصبحت عبئا على أهلي، وضاقت بي الدنيا فلا أستطيع الخروج من المنزل بسبب النظرات الساخرة من قريب أو بعيد أو صغير أو كبير، والآن أفكر في الانتحار، مع العلم أني كنت صواما قواما دائم البكاء من خشية الله، ولكني تركت الصلاة ودخل إلى قلبي الشك في الله عندما استغثت به وطلبت منه المساعدة وناديته بأعلى صوتي و صرخت "يا الله" و لكن للأسف.. لم أجده!!! أما سؤالي فهو: لماذا خلقني الله قهرا عني، وكيف أتى بي إلى الوجود رغما عن أنفي !! وحتى لم يسألني ولم يسمع رأيي!! ألا ينافي ذلك العدل الإلهي ؟؟ أرجو أن تفيدوني فأنا لم أجد الجواب الشافي بعد وشكرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله أن يهديك ويعافيك، وأن يفرج كربتك وكروب جميع المسلمين، وعليك أن تعلم أن الله تعالى لا يُسأل عما يفعل، كما قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
قال ابن كثير في تفسيره: وَقَوْلُهُ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ أَيْ هُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ أَحَدٌ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وعلمه وحكمته وعدله ولطفه، وَهُمْ يُسْئَلُونَ أَيْ وَهُوَ سَائِلٌ خَلْقَهُ عَمَّا يَعْمَلُونَ كَقَوْلِهِ: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْحِجْرِ: 92- 93] وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ. اهـ
فالمالك القدير له أن يفعل في مملكته ما يشاء، وأفعاله كلها حكمة وعدل ورحمة.
واعلم أن من كمال الله تعالى أنه ما خلق شيئاً إلا لحكم بالغة، ومصالح راجحة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
ويقول سبحانه وتعالى: حم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ *مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ. [الأحقاف: 1-2-3].
والإنسان من جملة ذلك الخلق، فقد خلقه لمصلحة عظيمة وهي عبادته الله تعالى التي تنال بها سعادة الدارين ولولا أنه خلقه لتلك الغاية السامية التي هي عبادته، لكان خلقه له عبثاً وسدى، تعالى الله عن ذلك، وقد نزه الله نفسه عن ذلك، فقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ. [المؤمنون:115-116].
كما أنه لو خلق الإنسان لغير العبادة، لكان مثل البهائم يعيش هملا يأكل ويشرب ويتكاثر، ولا يخفى ما في ذلك من الإهانة للإنسان نفسه، والمنافاة لحكمة العليم الحكيم.
فالحاصل أن الله تعالى ما خلق الإنسان عبثاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما خلقه لعبادته والتقرب إليه سبحانه.
وفي خلقه له لذلك الغرض، وتلك الغاية السامية حكم أخرى كثيرة، منها: ابتلاء أخبارهم، وإظهار أبرارهم من أشرارهم، فمن عمل لما خلق له فهو من الأبرار، وصار أهلاً لدخول جنات تجري من تحتها الأنهار، ومن أعرض عما خلق له، فهو من الأشرار الفجار الذين استحقوا الخلود في النار.
ومنها: تشريف الإنسان وتكريمه بإظهار كمال عبوديته لله تعالى، فلا شيء أشرف للإنسان من أن يكون عبدا محضاً لله تعالى وحده، يأتمر بأمره، وينتهي بنهيه، ويسير على صراطه المستقيم، لا نصيب لغير الله تعالى فيه.
قال الله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. [الزمر:29].
إلى غير ذلك من الحكم الكثيرة التي يطلع أولو الألباب على كثير منها، ويخفى عليهم الكثير.
وعلى كل حالٍ، فالواجب على المرء أن يعلم أن الخالق المتفرد بالخلق وحده، له أن يخلق ما يشاء لما يشاء، لا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى، ومن اعترض أو تعقب فهو الظالم المبين.
وننصحك في علاج ما بك بالمواظبة على الالتجاء إلى الله تعالى والتضرع إليه في أوقات الإجابة، وسؤاله بأسمائه الحسنى ليكشف ما بك فهو مجيب دعوة المضطرين، وكاشف كرب المكروبين ومغيث الملهوفين، قال الله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ {النمل:62}. وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ {غافر:60}.
وحذار من الاستعجال واستبطاء الاجابة واليأس من رحمة الله، فقد قال الله تعالى: إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {يوسف:87}، وقال تعالى: وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ {الحجر:56}.
وفي الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح: يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل.
ولا تنس أن الاستجابة قد تحصل بتحقيق المراد للعبد حالا وقد تحصل بالادخار له في الآخرة، أو بصرف البلاء عنه. ففي المسند من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذن نكثر، قال: الله أكثر. انتهى.
واستعن بالصلاة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر يفزع إلى الصلاة.
ومن الأدعية المهمة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ما أصاب أحداً هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحاً، فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها. رواه أحمد، وصححه الألباني.
واعلم أن هذه الدنيا دار ابتلاء، فقد ابتلي فيها من اصطفاهم الله من عباده وهم الأنبياء، وأكثرهم بلاء في هذه الدنيا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فاحمد لله أن جعل مصيبتك في أمر من أمور الدنيا، واضرع اليه أن يسلمك من جعل مصيبتك في دينك، فإن أخطر نتائج الابتلاء أن يضجر العبد ويقع في تسخط القدر أو الكفر.
فقد قال ابن القيم في (زاد المعاد): ومن علاجها ـ يعني المصائب ـ: أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه له، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، فحظك منها ما أحدثته لك، فاختر خير الحظوظ أو شرها، فإن أحدثت له سخطا وكفرا كتب في ديوان الهالكين، وإن أحدثت له جزعا وتفريطا في ترك واجب أو في فعل محرم كتب في ديوان المفرطين، وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر، كتب في ديوان المغبونين، وإن أحدثت له اعتراضا على الله وقدحا في حكمته فقد قرع باب الزندقة أو ولجه، وإن أحدثت له صبرا وثباتا لله، كتب في ديوان الصابرين، وإن أحدثت له الرضا عن الله كتب في ديوان الراضين، وإن أحدثت له الحمد والشكر كتب في ديوان الشاكرين، وكان تحت لواء الحمد مع الحمادين، وإن أحدثت له محبة واشتياقا إلى لقاء ربه، كتب في ديوان المحبين المخلصين. انتهى.
واعلم أن من ابتلاه الله في الدنيا فصبر فسيعوضه الله في الآخرة، والآخرة ما هو خير وأبقى، والآخرة خير من الأولى، وما عند الله خير للأبرار، فإذا صبرت على قدر الله فلك من الله أجر عظيم، قال الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر:10}.
ومن يتصبر يصبره الله حتى يتكيف مع ما ابتلاه الله به، ولذلك ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: وجدنا خير عيشنا بالصبر.
والدنيا متاع قليل، ثم نلقى الله، وغمسة واحدة يغمسها المؤمن في الجنة تنسيه كل شقائه في الدنيا، فقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب!!! ما مرّ بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط !!. رواه مسلم.
فالمبتلى بالشك في الله عزوجل أو في دينه خاسر في الدارين وأما المبتلى بتشوه أو مرض فهو مستفيد على كل حال، وما أصابه الله بذلك إلا لحكمة فقد يقع البلاء لتمحيص المؤمنين، وتمييزهم عن الكاذبين، قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ. [العنكبوت:2-3]. فيبتلي الله عباده ليتميز المؤمنون الصادقون عن غيرهم، وليُعرف الصابرون على البلاء من غير الصابرين.
وقد يكفر الله به سيئات العاصي؛ كما في حديث الصحيحين: ما يصيب المسلم من هم ولا نصب ولا هم ولا غم ولا أدنى من ذلك حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه.
وتارة يكون البلاء لرفع الدرجات، وزيادة الحسنات، كما هو الحال في ابتلاء الله لأنبيائه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل... فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" رواه البخاري.
فمن أعظم أسباب اطمئنان الشخص وراحته النفسية أن يرضى بما قسم الله تعالى وقدره، وأن لا يستنقص ما هو فيه، وأن يعلم أنه ما من درجة يصل إليها من النقص أو البلاء إلا وتحتها درجات، لو استحضرها لحمد الله عز وجل على ما هو فيه، ولعلم أنه في نعمة كبيرة.
ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "انْظُرُوا إِلَىَ مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ. وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَىَ مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ. فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللّه" رواه مسلم وغيره، فالإنسان إذا نظر إلى مَن فُضِّل عليه في الدنيا استصغر ما عنده من نعم الله وكان سبباً لمقته، وإذا نظر للدون شكر النعمة وتواضع وحمد.
فلا تستسلم لإحزان الشيطان لك، وثق بالله، وأر الله منك صبراً جميلاً واشكره على ما أنت فيه، واحمده حمداً كثيراً، ولا تتمن الموت فإن في حياتك شاكراً صابراً محتسباً رفعا لدرجاتك وتكفيرا لسيئاتك، وفي موتك قطعا لذلك كله، ولا تغفل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي. متفق عليه.
وأما الانتحار فهو محرم في كل الأحوال، ولايبرره حصول الابتلاء ولا سخرية الناس، ولا إرهاق الأهل، فالانتحار ليس فيه حل لمشكلتك، بل فيه انتقال من شقاء الدنيا إلى الشقاء الأعظم في الآخرة، وفيه خسران الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. وجاء في صحيح البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل: بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة.
فاصرف عنك التفكير في الانتحار والشعور بالنقص بالتلهي عنه وصرف القلب عنه بشغله فيما يفيد.
وراجع في أدلة الإيمان بالله تعالى الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 97683،75468، 48913،22279، 22055، 100160.