عنوان الفتوى : مذاهب الأئمة في حكم الضرب بالدف للرجال والنساء في العرس وغيره
فهمنا من فتوى سابقة لكم أن سماع الدف وضربه جائزان للرجال والنساء حتى في غير العرس، فكيف يجاب على من قال بالمنع لقول الصحابي: رخص لنا في العرس ـ حيث قالوا إن الرخصة لا تكون إلا في شيء هو في الأساس محرم؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فنحن نبين لك أولا مذاهب العلماء في الضرب بالدف متى يشرع ولمن؟ فأما الحنفية فرخصوا في الدف في الأعراس وعن أبي يوسف الترخيص مطلقا ما لم يكن على وجه الفسق، قال ابن نجيم في البحر: وَلَا بَأْسَ بِضَرْبِ الدُّفِّ فِي الْعُرْسِ، وَسُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ الدُّفِّ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ بِأَنْ تَضْرِبَ الْمَرْأَةُ فِي غَيْرِ فِسْقٍ لِلصَّبِيِّ، قَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. انتهى.
وأما المالكية: فالمشهور عندهم اختصاصه بالعرس، وقيل في كل سرور كالعرس، وعندهم قول بالجواز مطلقا للعواتق في بيوتهن، قال الدسوقي في حاشيته: وقيل بجوازه فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الشَّيْخُ النَّفْرَاوِيُّ: الْمَشْهُورُ عَدَمُ جَوَازِ ضَرْبِهِ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ كَالْخِتَانِ وَالْوِلَادَةِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ جَوَازُهُ فِي كُلِّ فَرَحٍ لِلْمُسْلِمِينَ اهـ، بَدْرٌ وَقَالَ أَصْبَغُ: يَحْرُمُ مَا عَدَا الدُّفَّ وَالْكَبَرَ مِنْ مِزْمَارٍ وَغَيْرِهِ وَأَبَاحَ الْقُرْطُبِيُّ الضَّرْبَ بِالدُّفِّ فِي كُلِّ سُرُورٍ وَأَجَازَ بَعْضٌ الضَّرْبَ بِهِ لِلْعَوَاتِقِ فِي بُيُوتِهِنَّ مِنْ غَيْرِ عُرْسٍ. انتهى.
وجوز أكثرهم الضرب به للرجال خلافا لأصبغ، قال الدسوقي: قَالَ أَصْبَغُ: لَا يَكُونُ الدُّفُّ إلَّا لِلنِّسَاءِ وَلَا يَكُونُ عِنْدَ الرِّجَالِ، ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ مَنْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْهُ يَعْنِي مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ الْجَلَاجِلِ وَغَيْرِهِ وَبَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ. انتهى.
وأما الشافعية: فيجوز عندهم الضرب بالدف في الأعراس وقيل يستحب، ويجوز في كل سرور نحو العرس في الأصح، ويحرم في غيرها كما ذكره الشيخ علي الشبراملسي وتوقف فيه الشرواني، وهاك تفصيل ما أجملناه من مذهبهم، قال الخطيب في مغني المحتاج: وَيَجُوزُ دُفٌّ بِضَمِّ الدَّالِ أَشْهَرُ مِنْ فَتْحِهَا، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَدْفِيفِ الْأَصَابِعِ عَلَيْهِ لِعُرْسٍ، لِمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا ـ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ، وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ ـ وَيَجُوزُ خِتَانٌ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ صَوْتَ دُفٍّ بَعَثَ، فَإِنْ كَانَ فِي النِّكَاحِ أَوْ الْخِتَانِ سَكَتَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِمَا عَمِلَ بِالدِّرَّةِ ـ وَكَذَا غَيْرُهُمَا ـ أَيْ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ ـ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ لِإِظْهَارِ السُّرُورِ كَوِلَادَةٍ، وَعِيدٍ، وَقُدُومِ غَائِبٍ، وَشِفَاءِ مَرِيضٍ فِي الْأَصَحِّ، لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ الْمَدِينَةَ مِنْ بَعْضِ مَغَازِيهِ جَاءَتْهُ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْت إنْ رَدَّك اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْك بِالدُّفِّ، فَقَالَ لَهَا: إنْ كُنْت نَذَرْت فَأَوْفِي بِنَذْرِك ـ وَلِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ إظْهَارُ السُّرُورِ، قَالَ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ يُسْتَحَبُّ فِي الْعُرْسِ وَالْوَلِيمَةِ وَوَقْتِ الْعَقْدِ وَالزِّفَافِ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِأَثَرِ عُمَرَ ـ رضي الله عنه ـ المار. انتهى.
وقال: وَلَا فَرْقَ فِي الْجَوَازِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ كَمَا يَقْتَضِيه إطْلَاقُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْحَلِيمِيِّ فِي تَخْصِيصِهِ لَهُ بِالنِّسَاءِ. انتهى.
وفي حواشي التحفة: قَالَ ع ش قَوْلُهُ: مِنْ كُلِّ سُرُورٍ ـ قَدْ يُفْهَمُ تَحْرِيمُهُ لَا لِسَبَبٍ أَصْلًا فَلْيُرَاجَعْ وَلَا بُعْدَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَعِبٌ مُجَرَّدٌ اهـ أَقُولُ فِيهِ تَوَقُّفٌ وَلَوْ قَالَ يُفْهَمُ كَرَاهَتُهُ إلَخْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ أَخْذًا مِمَّا مَرَّ فِي الشِّطْرَنْجِ وَالْغِنَاءِ بِشَرْطِهِمَا، بَلْ قَضِيَّةُ مَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِ الشَّارِحِ وَالنِّهَايَةِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ حِلُّ مَا عَدَاهَا مِنْ الطُّبُولِ إلَخْ الْإِبَاحَةُ. انتهى.
وأما الحنابلة فيستحب عندهم الضرب بالدف في العرس ونحوه وفي ضرب الرجال به قولان والمذهب اختصاصه بالنساء ويكره فيما عدا العرس ونحوه، قال في كشاف القناع: يسن إعلان أي إظهار النكاح والضرب عليه بدف لا حلق فيه ولا صنوج للنساء، لما روى محمد بن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف في النكاح ـ رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه، ويكره الضرب بالدف للرجال مطلقا، قاله في الرعاية، وقال الموفق: ضرب الدف مخصوص بالنساء، قال في الفروع: وظاهر نصوصه وكلام الأصحاب التسوية، وضرب الدف في الختان وقدوم الغائب ونحوهما كالولادة وكالعرس، لما فيه من السرور. انتهى بتصرف يسير.
وفي الإنصاف: قال المصنف ـ يعني ابن قدامة ـ وغيره: أصحابنا كرهوا الدف في غير العرس، وَكَرِهَهُ الْقَاضِي، وَغَيْرُهُ فِي غَيْرِ عُرْسٍ وَخِتَانٍ، وَيُكْرَهُ لِرَجُلٍ، لِلتَّشَبُّهِ، قَالَ فِي الرِّعَايَةِ، وَقِيلَ: يُبَاحُ فِي الْخِتَانِ، وَقِيلَ: وَكُلِّ سُرُورٍ حَادِثٍ. انتهى.
فإذا علمت ما مر ظهر لك أن الضرب بالدف مستحب أو مباح في العرس ونحوه للنساء وهذا كالإجماع، وأن في ضرب الرجال بالدف خلافا والجمهور على جوازه، وأنه في غير العرس ونحوه مختلف فيه فقيل هو محرم وقيل مكروه وقيل مباح، ولا شك في أن الاحتياط والورع هو ترك استماعه والضرب به في غير المواضع التي ورد الشرع بجوازه فيها، ولم نقف لمن جوز الضرب بالدف مطلقا على جواب عن الأثر المذكور وهو يصلح متمسكا لمن قال بالمنع، قال ابن رجب: بعد أن ساق هذا الأثر: والرخصة في اللهو عند العرس تدل على النهي عنه في غير العرس. انتهى.
ويمكن أن يجاب من قبل المجيزين بما في الحديث من كلام، فإنه قد رواه النسائي وصححه الحاكم، قال محقق المسند: وفي إسناده شريك بن عبد الله. انتهى.
وقد حسن الحديث الألباني.
فعلى تقدير ثبوته، فإن في قول الصحابي: رخص لنا ونحوه ـ خلافا لعلماء الأصول هل له حكم الرفع أو لا؟ كما أن دلالته هي من قبيل دلالة المفهوم وفي اعتبارها خلاف معروف في الأصول، وقد ورد ما يدل على عدم اختصاص الجواز بالعرس وهو عمدة من ألحق سائر ما فيه إظهار السرور بالعرس وقد يستأنس به من لم يعتبر مفهوم الحديث فقال بالجواز مطلقا، فقد روى أحمد والترمذي وصححه عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إنْ رَدَّك اللَّهُ صَالِحًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنِ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى، قَالَ لَهَا: إنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلَّا فَلَا، فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَأَلْقَتْ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ، إنِّي كُنْتُ جَالِسًا وَهِيَ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف.
وكذا حديث ضرب الجاريتين بالدف وغناؤهما عند عائشة في يوم العيد، وعلى كل فالمسألة من مسائل الاجتهاد والورع والاحتياط هو ما مر بك من قصر الجواز على المحل الذي ثبت ترخيص الشارع وإذنه فيه وما عداه يبقى على المنع.
والله أعلم.