عنوان الفتوى : وجه مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء لما فرض عليه الصلاة خمسين
أريد أن أفهم أمرين في حديث فرض خمسين صلاة على أمة رسول الله صلى الله عليه و سلم، ثم نزوله إلى سيدنا موسى عليه الصلاة و السلام لتصبح خمس صلوات. لا أعرف كيف أسأل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالقائل لهذا الكلام المنكر لا ينبغي نسبته إلى العلم البتة، عياذا بالله من الاجتراء على السنة والطعن فيها بالأهواء وفاسد الآراء. ثم اعلم أن أنبياء الله ورسله عليهم السلام هم أكثر الناس امتثالا لأمر الله وإذعانا لحكمه وانقيادا لشرعه، وحاشاهم عليهم السلام أن يعترضوا على حكم لله تعالى، وأما مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ربه في أمر الصلاة بمشورة من موسى عليه السلام فمن العلماء من قال إنهما علما أن الأمر ليس بحتم، ومنهم من قال بل هو من سؤال الله التخفيف ورفع الحرج والمشقة، وسؤال رحمة الله تعالى وطلب بره ولطفه بعباده مما لا يعاب ولا يستنكر، وليس فيه اعتراض البتة.
قال الحافظ: وَدَلَّتْ مُرَاجَعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبِّهِ فِي طَلَبِ التَّخْفِيفِ تِلْكَ الْمَرَّاتِ كُلَّهَا أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ بِخِلَافِ الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ، فَفِيهَا مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: مَا يُبدل القَوْل لَدَي... انتهى.
ونقل في المرقاة عن الخطابي قوله:مراجعة الله في باب الصَّلَاةِ إِنَّمَا جَازَتْ مِنْ رَسُولِنَا مُحَمَّدٍ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُمَا عَرَفَا أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ غَيْرُ وَاجِبٍ قَطْعًا لِمَا صَدَرَتْ مِنْهُمَا الْمُرَاجَعَةُ، فَصُدُورُ الْمُرَاجِعَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ قَطْعًا، لِأَنَّ مَا كَانَ وَاجِبًا قَطْعًا لَا يَقْبَلُ التَّخْفِيفَ. انتهى.
ثم قال في المرقاة بعد تعقب كلام الخطابي المذكور: ولا يخفى أن المراجعة غير نافية للرضا والتسليم وإلا لما رَضِيَ بِهَا مُوسَى وَنَبِيُّنَا عَلَيْهِمَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَكْمَلُ التَّسْلِيمِ، وَتَوْضِيحُهُ؛ أَنَّ سُؤَالَ الْعَافِيَةِ وَدَفْعِ الْبَلَاءِ وَطَلَبَ الرِّزْقِ وَدُعَاءَ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ كَمَا صَدَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ لَا يُنَافِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ أَبَدًا، وَلَا التَّسْلِيمَ لِمَا فِي الْأَزَلِ أَبَدًا. انتهى.
فأين سؤال الله الرحمة واللجأ إليه في رفع الآصار والأغلال من مسألة بني إسرائيل المتعنتة عن صفة البقرة المأمور بذبحها فشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم؟ فمن جعل القصتين من باب واحد فما أشبه قياسه بقياس من قال إنما البيع مثل الربا. فإذا اندفعت هذه الشبهة فلا التفات إلى ما وراء هذا من الهذيان وزعم أن اليهود اختلقوا هذه القصة ليظهروا موسى عليه السلام في صورة المنقذ الذي تسبب في التخفيف عنا. وقد جعل الله تعالى موسى كليمه وهو أحد أولي العزم من الرسل سببا في هذا الخير، فحصل للأمة أجر الخمسين صلاة مع كونهم يؤدون خمسا فقط، ولله الحمد أولا وآخرا. وكان هذا من رحمة موسى عليه السلام بأمة محمد صلى الله عليه وسلم وشفقته أن يعجزوا عن فعل ما أمرهم الله به كما عجزت اليهود عن أقل من هذا. وفي ضمن هذا الخبر ذم لليهود بعجزهم عن فعل ما كلفهم الله تعالى به وإتعابهم لموسى عليه السلام حيث عالجهم أشد المعالجة كما في الحديث. وليس موسى عليه السلام مفتقرا إلى ما يصير به بطلا بل بلاؤه في نصرة الدين وجهاد فرعون وملئه لا يخفى على أحد، فنحن أولى بموسى من اليهود وغيرهم وأعرف بقدره وأشد احتراما وحبا له ونحن المتبعون له على الحقيقة إذ لو كان هو حيا لاتبع نبينا صلى الله عليه وسلم، فأي ضير في أن يكون هذا التخفيف وتلك الرحمة مما وقع بسبب من موسى عليه السلام، فصلى الله عليه وعلى نبينا وسلم. فاحذر أيها الأخ الكريم من أولئك الأدعياء الذين لم يأووا من العلم إلى ركن وثيق ولم يتمسكوا منه بسبب متين، فهم يهذون بما لا يدرون ويهرفون بما لا يعرفون، وإياك وإياهم، ولا تأخذ العلم إلا عن أهله المعروفين به المعظمين للسنة المتبعين لآثار السلف.
والله أعلم.