عنوان الفتوى : التعليق على : من تواعدت مع صديقتها أن تشفع كل واحدة منهما للأخرى يوم القيامة
لقد تواعدتُ أنا وصديقتي أنها إذا دخلت الجنة ، فبعد ثاني قدم لها من دخولها الجنة تسأل عني الله تعالى فإذا أخبرها بأنني لم أدخل بعد الجنة أن تشفع لي عنده سبحانه وتعالى ، وإذا أخبرها أن درجتي أقل منها في الجنة أن تشفع لي لكي يرفعني إلى درجتها ، وقلت " بعد ثاني قدم من دخولها الجنة " وذلك لأني قرأت من قبل أن سيدنا أبا بكر قال إنه " لو إحدى قدميه في الجنة والأخرى خارجها ما أمن مكر الله " فتواعدنا بعد ثاني قدم نشفع لبعض ونسأل عن بعض حتى نكون أمنَّا مكر الله ، وأيضا تواعدت أنها لو أتيح لها الشفاعة قبل دخول الجنة تشفع لي ، فأنا أحب صديقتي هذه وأتمنى أن لا أحرم منها في الدنيا والآخرة ، وتواعدت أيضا مع زميلتين لي نفس الوعد لأني أرى في واحدة منهما الصلاح ، فقلت عسى أن تكون من أهل الجنة فتشفع لي لو دخلتْ قبلي ، والزميلة الأخرى بارَّة بوالدتها ، فقلت في نفسي عسى الله أن يدخلها الجنة بسبب برِّها بوالدتها ، لكن هذه الزميلة لا تربطني بها سوى زمالة في الكلية ، وبمجرد انتهاء الكلية لن نلتقي مرة ثانية ، وأحيانا أقول لنفسي ليتني ما وعدتها لأني لا أحب أن أجلس معها كثيراً ، وأحيانا تصدر منها أشياء لا أحبها ولكن أرجع أقول : يوم القيامة سأحتاج أي أحد يشفع لي فأستمر على وعدي ، وأيضا أقول نشفع لبعض وإذا دخلنا الجنة أتركها إذا كنت لا أحب أن أجلس معها كثيراً وأيضا ناوية أني أكتب أسماء الثلاث أخوات في ورقة وأوصي أنها تدفن معي حتى أتذكرهم يوم القيامة ! فهل هذا يجوز ؟ وهل يجوز ما تواعدنا عليه ؟ وهل يجوز أننا نقيد " بعد ثاني قدم من الجنة " أو إذا أتيحت لنا فرصة قبل هذا نشفع لبعض ؟ وهل سنكون بذاكرتنا وسنتذكر هذا الوعد أو ممكن ننساه ؟ .
الحمد لله
أولاً:
الحب في الله من أوثق عرى الإيمان ، ومِن الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم
القيامة اثنان اجتمعا عليه عز وجل وتفرقا عليه ، فنرجو الله تعالى أن تكون الأخت
السائلة وأخواتها من اللاتي جمع بينهن الحب في الله والأخوة الصادقة .
وننبه إلى أنه ينبغي للمتحابين في الله تعالى الحذر من كيد الشيطان لإيقاعهم في
التعلق المحرَّم المذموم ، وهي ظاهرة له انتشارها وترى آثارها في واقع كثيرين
وكثيرات ، بل إنها في محيط النساء أكثر منها في محيط الذكور ، ولينظر جواب السؤال
رقم ( 70503 ) ففيه التحذير من هذا
الأمر وبيان أسبابه وعلاجه .
وانظري جواب السؤال رقم ( 138390 )
ففيه صفات الصديق الصالح .
ثانياً:
الصحبة الصالحة لها فوائد دنيوية وأخرى دينية ، ومن أجلِّ فوائدها الدينية ما يكون
يوم القيامة من شفاعة بعضهم لبعض بإذن ربِّهم تعالى .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى ( فَلَيْسَ لَهُ
الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ) - : " ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا ) أي : يوم
القيامة ( حَمِيمٍ ) أي : قريب أو صديق يشفع له لينجو من عذاب الله أو يفوز بثواب
الله ، ( وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) ، ( مَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) " انتهى من " تفسير السعدي " (
ص 884 ) .
وشفاعة المؤمنين بعضهم لبعض ثابتة بالنص النبوي الصحيح ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَال َ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ؟ ... فذكر الحديث ، وذكر مرور المؤمنين على الصراط وفيه ذكر شفاعتهم
في إخوانهم الذين دخلوا النار ( وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي
إِخْوَانِهِمْ يَقُولُونَ : رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا
وَيَصُومُونَ مَعَنَا وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى (
اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ
فَأَخْرِجُوهُ ) وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ فَيَأْتُونَهُمْ
وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ
فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ ( اذْهَبُوا فَمَنْ
وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ ) فَيُخْرِجُونَ
مَنْ عَرَفُوا ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ ( اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي
قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ ) فَيُخْرِجُونَ مَنْ
عَرَفُوا ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : " فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَءُوا ( إِنَّ
اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا )
فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ ... . رواه البخاري (
7001 ) ومسلم ( 183 ) .
والشفاعة يوم القيامة لها شروط ثلاثة لا تكون حتى تتحقق جميعها ، وهي :
1. إذْن الله سبحانه وتعالى للشافع أن يشفع .
2. رضاه سبحانه عن الشافع .
3. رضاه سبحانه عن المشفوع فيه .
وانظري تفصيل هذا في جوابي السؤالين (
21672 ) و ( 11931 ) .
والذي أردنا بيانه لكِ –
أختنا السائلة – أنه يوجد شفاعة من المؤمنين بعضهم لبعض ، سواء في عدم دخول النار ،
أو بالخروج منها ، أو برفع الدرجات ، لكنَّ الشفاعة تلك لا تكون إلا بإذن الله
تعالى ، فلا يشفع أحدٌ عند الله تعالى حتى يُؤذن له ، ومن أين لنا الجزم بأن فلاناً
سيأذن له ربُّه تعالى في أن يشفع لنا ؟! ومن أين لنا أن الله تعالى سيقبل شفاعته
سواء مطلقاً أو في فلان ؟! .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " ولهذا كان سيد الشفعاء صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جاء الخلائق يوم القيامة يطلبون الشفاعة من آدم فيعتذر ، ثم
يطلبونها من نوح ومن إبراهيم ثم موسى ثم من عيسى فيقول : اذهبوا إلى محمد فإنه عبد
غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال : ( فأذهب إلى ربي فإذا رأيت ربي خررتُ
ساجداً فأحمد ربي بمحامدَ يفتحها عليَّ لا أُحسِنُها الآن فيقول : أي محمد ، ارفعْ
رأسَك ، قُلْ تُسمعْ ، وسَلْ تُعطَه ، فأشفع ) – متفق عليه - .
فبيَّن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه إذا أتى ربَّه لا يشفع حتى يُؤذن له
، بل يبدأ بالسجود لله والثناء عليه ، فيأذن له ربه في الشفاعة" انتهى من" جامع
المسائل " ( 4 / 290 ) .
وقال – رحمه الله – أيضاً - : " فهذا خير الخلق وأكرمهم على الله إذا رأى ربه لا
يشفع حتى يسجد له ويحمده ، ثم يأذن له في الشفاعة ؛ فيحد له حدّاً يدخلهم الجنة ،
وهذا تصديق قوله تعالى ( مَنْ ذَا الذِّي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ )
إلى غير ذلك من الآيات ، وقد جاء في الحديث الصحيح أنه ( تشفع الملائكة والنبيون
والمؤمنون ) ، لكن بإذنه في أمور محدودة ليس الأمر إلى اختيار الشافع ، فهذا فيمن
علم أنه يشفع ... والرجل الصالح قد يشفعه الله فيمن يشاء ، ولا شفاعة إلا في أهل
الإيمان " انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 2 / 106 ) .
والمؤمن عليه أن يعمل بطاعة ربِّه تعالى ويترك مخالفته ، ولا ينبغي له تعليق أمره على شفاعة أحد ، وقد ذكرنا في جواب السؤال رقم ( 140545 ) أنه لا يجوز ترك العمل الصالح بحجة شفاعة المؤمنين لنا يوم القيامة ، فلينظر .
وأنتِ ترين أن المؤمن الصادق
في إخوته يشفع لإخوانه يوم القيامة إن أذن الله تعالى له بذلك حتى لو لم يحصل اتفاق
معهم في الدنيا على ذلك . بل لا نعلم أصلا من حال السلف لهذا الاتفاق والمواعدة ،
وما فيه من التحديد : لا يخلو من تكلف ظاهر ، فأقل ما يقال فيه : إن الأولى ترك
تكلف ذلك ، والانشغال به ، والتعلق به ، وليكن همكنَّ منصبّاً على تحقيق التوحيد في
حياتكنَّ ، والقيام بالطاعات ، والحرص على رضا الله تعالى ، فهذا خير ما ينشغل به
المؤمن في دنياه .
ثالثاً:
أما بخصوص الأثر المروي عن أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه " لو أن إحدى قدمي في
الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله " : فمع أنه أثر مشهور متداول، إلا أننا لم
نقف عليه مسنداً لا بسندٍ صحيح ولا ضعيف ، فالله أعلم بحاله .
وقد وجدنا عن الإمام أحمد رحمه الله ما يخالف ذلك المعنى ، فقد روى ابن أبي يعلى في
كتابه " طبقات الحنابلة " ( 1 / 291 ) عن محمد بن حسنويه قال : " حضرت أبا عبد الله
أحمد بن حنبل وجاءه رجل من أهل خراسان فقال : يا أبا عبد الله قصدتك من خراسان
أسألك عن مسألة قال له : سل ، قال : متى يجد العبد طعم الراحة ؟ قال : عند أول قدم
يضعها في الجنة " انتهى .
ولعل ما ذكر في هذا الأثر هو الأقرب ، واللائق بكرم الله ، وحسن الظن به .
والله أعلم