عنوان الفتوى : مسائل في حديث الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه
ما أخرجه البخاري في صحيحه (445) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث ، اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ، لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه ، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة ) عندي أسئلة حول هذا الحديث : 1. أراجع القرآن في المسجد وأنا منتظر الصلاة ، ولكن وأنا أمشي في المسجد ، ولا أجلس ، فهل أدخل في الحديث ، أم أنه شرط الجلوس دون المشي ، أم كلاهما يدخلان في الحديث ؟ 2. وهل إذا نمت في المسجد وأنا منتظر الصلاة فهل أدخل في الحديث ؟ 3. وإذا انتقض وضوئي وأنا منتظر الصلاة في المسجد إما لحدث أو نوم ، وذهبت وتوضأت في المسجد ، فهل أدخل في الحديث ، أم أنه إذا أحدثت وأنا منتظر الصلاة فلا يمكنني الدخول مرة أخرى في الحديث حتى لو توضأت مرة أخرى ? 4. وهل المتوضأ يعد من المصلى أم أن مجرد دخولي المتوضأ أخرج من الحديث مع أن المتوضأ في الطابق السفلي للمسجد ، وبابه من داخل المسجد ? أرجو التفصيل... جزاكم الله خيرا .
الحمد لله
أولا :
الحديث المقصود في السؤال ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( صَلاَةُ الجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصَلاَتِهِ فِي
سُوقِهِ، خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ
فَأَحْسَنَ، وَأَتَى المَسْجِدَ، لاَ يُرِيدُ إِلَّا الصَّلاَةَ، لَمْ يَخْطُ
خَطْوَةً إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً،
حَتَّى يَدْخُلَ المَسْجِدَ، وَإِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ، كَانَ فِي صَلاَةٍ مَا
كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي - يَعْنِي عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ - مَا دَامَ فِي
مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ
ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ ) رواه البخاري (477) ومسلم (649) ، وبوب عليه
ـ في باب آخر ـ بقوله : " باب الحدث في المسجد "، وأيضا " باب من جلس في المسجد
ينتظر الصلاة وفضل المساجد ".
وفي رواية للبخاري (2119) ومسلم (649) : ( مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ، مَا لَمْ
يُؤْذِ فِيهِ ) .
ثانيا :
من المسائل المهمة التي يناقشها العلماء في شرح هذا الحديث بيان ما إذا كان يشترط
مكث المصلي في المكان الذي صلى فيه ولا ينتقل عنه إلى أي موضع آخر في المسجد ، أم
إن الأجر يشمل كل من بقي في المسجد ينتظر الصلاة في أي بقعة منه .
والذي يظهر أن الأجر يشمل من بقي في المسجد وإن انتقل من موضعه ، وذلك لأدلة :
الدليل الأول : أن المقصود إعمار المساجد ، والمرابطة فيها ، وحبس النفس في أماكن
العبادة وقطعها عن المشاغل الدنيوية ، وذلك أمر متحقق فيمن بقي في المسجد وانتقل من
موضع صلاته .
الدليل الثاني : أن الانتقال عن موضع الصلاة داخل المسجد فيه مصلحة لذلك المتعبد ،
فقد يحتاج إلى مصحف أو حضور درس علم أو ينتقل إلى مكان يخلو فيه مع ربه ، ومن
المستبعد أن ينقص الأجر بسبب الوقوع في أمر هو من مصلحة العبادة .
الدليل الثالث : ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في مصلاه بعد صلاة الفجر
، ولكن بعد أن يغير موضعه فيتوجه إلى أصحابه بوجهه ، ولا يعرف أنه كان يحرص على
التزام مكانه وجلسته بعد الصلاة إلى الصلاة الأخرى أو إلى طلوع الشمس ، بل كان
ينصرف عن القبلة كي ينصرف أصحابه من بعده .
وقد نص غير واحد من أهل العلم على ترجيح هذا الاحتمال في معنى الحديث .
قال ابن رجب رحمه الله :
" هل المراد بـ ( مُصلاه ) نفس الموضع الَّذِي صلى فِيهِ ، أو المسجد الَّذِي صلى
فِيهِ كله مصلى لَهُ ؟ هَذَا فِيهِ تردد .
وفي صحيح مُسْلِم عَن جابر بن سمرة : ( أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا
صلى الفجر جلس فِي مصلاه حَتَّى تطلع الشمس حسناء )
وفي رِوَايَة لَهُ : ( كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مُصلاه
الَّذِي يصلي فِيهِ الصبح أو الغداة حَتَّى تطلع الشمس ، فإذا طلعت الشمس قام )
ومعلوم أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يكن جلوسه فِي الموضع الَّذِي صلى فِيهِ ؛
لأنه كَانَ ينفتل إلى أصحابه عقب الصلاة ويقبل عليهم بوجهه ...
فهذا الحَدِيْث يدل عَلَى أن المراد بـ ( مصلاه الَّذِي يجلس فِيهِ ) : المسجد كله
.
وإلى هَذَا ذهب طائفة من العلماء ، منهم : ابن بطة من أصحابنا وغيره " انتهى
باختصار من " فتح الباري " لابن رجب (4/56)
وقال الإمام زين الدين العراقي رحمه الله :
" ما المراد بمصلاه ؟ هل البقعة التي صلى فيها من المسجد حتى لو انتقل إلى بقعة
أخرى في المسجد لم يكن له هذا الثواب المترتب عليه ، أو المراد بمصلاه جميع المسجد
الذي صلى فيه ؟ يحتمل كلا الأمرين ، والاحتمال الثاني أظهر وأرجح " انتهى من " طرح
التثريب " (2/367)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قوله : ( في مصلاه ) أي : في المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد ، وكأنه خرج
مخرج الغالب ، وإلا فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرا على نية انتظار الصلاة
كان كذلك " انتهى من " فتح الباري " (2/136)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" مصلاه هل المعنى : ما دام في صلاته ، أو المعنى : ما دام في مكان صلاته ، بمعنى :
أنه انتهى من الصلاة وجلس ، أو المعنى : ما دام في المسجد الذي هو أعم من مكان
صلاته ؟ كل هذا محتمل ، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون الأخير ، أي : ما دام في
المسجد ، وفضل الله واسع " انتهى من " لقاءات الباب المفتوح " (لقاء رقم/225، صفحة
14 بترقيم الشاملة)
وبهذا يتبين أنه لا حرج عليك في المشي في المسجد والانتقال من مكان صلاتك الفريضة ،
فكل المسجد مبارك ، وكله يشمله الأجر الوارد في الحديث .
ثالثا :
أما الإحداث في المسجد فيقطع الأجر الخاص ، ودعاء الملائكة ، إلى حين الوضوء ورفع
الحدث مرة أخرى ، وذلك صريح الحديث الشريف ، فإذا توضأ - ولو خارج المسجد - ثم دخل
المسجد مرة أخرى رجع إلى عبادة انتظار الصلاة ، وكان من المرابطين في سبيل الله.
وعلى جميع الأحوال : فإن أجر الجلوس في المساجد بعد الصلوات أجر عظيم ، يناله
العاكفون في المسجد كل حسب جلوسه ، فمن جلس ساعة نال أجرا بقدرها ، ومن جلس نهارا
كاملا نال أجرا بقدره ، قال تعالى : ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) الجمعة/4
قال ابن رجب رحمه الله :
" من مكفرات الذنوب الجلوس في المساجد بعد الصلوات ، والمراد بهذا الجلوس انتظار
صلاة أخرى كما في حديث أبي هريرة : ( وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم
الرباط )،
فجعل هذا من الرباط في سبيل الله عز وجل ، وهذا أفضل من الجلوس قبل الصلاة
لانتظارها ، فإن الجالس لانتظار الصلاة ليؤديها ثم يذهب تقصر مدة انتظاره ، بخلاف
من صلى صلاة ثم جلس ينتظر أخرى ، فإن مدته تطول ، فإن كان كلما صلى صلاة ، جلس
ينتظر ما بعدها استغرق عمره بالطاعة ، وكان ذلك بمنزلة الرباط في سبيل الله عز وجل
.
وفي المسند وسنن ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو قال : صليت مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم المغرب ، فرجع من رجع ، وعقب من عقب ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
مسرعاً قد حَفَزه النفَس ، وقد حسر عن ركبته فقال : ( أبشروا ! هذا ربكم قد فتح
عليكم باباً من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة ، يقول : انظروا إلى عبادي قد قضوا
فريضة وهم ينتظرون أخرى ) – " مسند أحمد " (11/363) وصححه المحققون في طبعة مؤسسة
الرسالة –، وفي المسند عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( منتظر
الصلاة بعد الصلاة كفارس اشتد به فرسه في سبيل الله على كَشْحِهِ ، تُصلي عليه
ملائكة الله ما لم يحدث أو يقوم ، وهو في الرباط الأكبر ) – " مسند أحمد " (14/273)
وحسنه المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة -.
ويدخل في قوله : " والجلوس في المساجد بعد الصلوات " الجلوس للذكر والقراءة وسماع
العلم وتعليمه ونحو ذلك ، لا سيما بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس ؛ فإن النصوص قد
وردت بفضل ذلك ، وهو شبيه بمن جلس ينتظر صلاة أخرى ، لأنه قد قضى ما جاء إلى المسجد
لأجله من الصلاة وجلس ينتظر طاعة أخرى .
وفي " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت
الله تعالى يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم
الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده )
وأما الجالس قبل الصلاة في المسجد لانتظار تلك الصلاة خاصة فهو في صلاة حتى يصلي .
وفي " الصحيحين " عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنه لما أخر صلاة العشاء
الآخرة ، ثم خرج فصلى بهم ، قال لهم : إنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة )
وفيهما أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث ، اللهم اغفر له اللهم ارحمه ،
ولا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا
الصلاة )
وفي رواية لمسلم : ( ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه )، وهذا يدل على أن المراد
بالحدث حدث اللسان ونحوه من الأذى ، وفسره أبو هريرة بحدث الفرج ، وقيل : إنه يشمل
الحدثين .
وفي " المسند " عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( القاعد يراعي
الصلاة كالقانت ، ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه ) وفي رواية
له : ( فإذا صلى في المسجد ثم قعد فيه كان كالصائم القانت حتى يرجع ) – " مسند أحمد
" (28/648) وصححه محققو المسند - وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة .
وبالجملة فالجلوس في المساجد للطاعات له فضل عظيم .
قال سعيد بن المسيب : من جلس في المسجد فإنما يجالس الله عز وجل .
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عد من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا
ظل إلا ظله رجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه .
وإنما كانت ملازمة المسجد للطاعات مكفرة للذنوب ؛ لأن فيها مجاهدة النفس ، وكفا لها
عن أهوائها ؛ فإنها لا تميل إلا إلى الانتشار في الأرض لابتغاء الكسب ؛ أو لمجالسة
الناس ، أو لمحادثتهم ، أو للتنزه في الدور الأنيقة والمساكن الحسنة ومواطن النزه ،
ونحو ذلك .
فمن حبس نفسه في المساجد على الطاعة فهو مرابط لها في سبيل الله مخالف لهواها ،
وذلك من أفضل أنواع الصبر والجهاد .
وهذا الجنس - أعني ما يؤلم النفس ويخالف هواها - فيه كفارة للذنوب وإن كان لا صنع
فيه للعبد كالمرض ونحوه ، فكيف بما كان حاصلا عن فعل العبد واختياره إذا قصد به
التقرب إلي الله عز وجل ، فإن هذا من نوع الجهاد في سبيل الله الذي يقتضي تكفير
الذنوب كلها " انتهى باختصار من " اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى "
(ص/67-71)
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |