عنوان الفتوى : كيف أبدأ في طلب علم الحديث ؟
ما قولكم في الذي يريد طلب علوم الحديث ، كيف أبدأ ، مع العلم أني تبحرت في العقيدة ولله الحمد ، وأجد نفسي تميل كثيراً لعلوم الحديث ، وأريد أن أبدأ وأحتاج نصحكم ؟
الحمد لله
يمكننا أن نجمل النصيحة في منهجية طلب علوم الحديث الشريف بالأمور الآتية :
أولاً :
العناية التامة بحفظ متون السنة النبوية ، إذ هي الغاية والثمرة التي نصب العلماء
لأجلها علوم الحديث جميعها ، فلا يجوز لطالب العلم أن ينشغل بالوسيلة عن الغاية .
وحفظ متون السنة النبوية يبدأ بحفظ الأحاديث المتفق عليها بين الصحيحين ، ثم حفظ ما
انفرد به البخاري ، ثم حفظ ما انفرد به مسلم ، لتنتهي بذلك المرحلة الأولى الأهم في
تكوين العقلية الحديثية لدى طالب علم الحديث .
وينتقل بعدها إلى حفظ زوائد الكتب الستة والمسانيد المشهورة على أحاديث الصحيحين ،
ويستعين عليها بالكتب الكثيرة التي اعتنت بجمع هذه الزوائد وترتيبها .
وأفضل طرق الحفظ تكرار المحفوظ على مدى أيام عدة بعد اليوم الذي حفظ فيه ، وهي
الطريقة التي نصح بها الزرنوجي رحمه الله حين قال :
" ينبغي لطالب العلم أن يعد ويقدر لنفسه تقديراً في التكرار ، فإنه لا يستقر قلبه
حتى يبلغ ذلك المبلغ ، وينبغي أن يكرر سبق الأمس – يعني ما حفظه بالأمس - خمس مرات
، وسبق اليوم الذي قبل الأمس أربع مرات ، والسبق الذي قبله ثلاث ، والذي قبله اثنين
، والذي قبله واحد ، فهذا أدعى إلى الحفظ والتكرار" انتهى.
"تعليم المتعلم" (ص/60)
فإن لم يتمكن الطالب من الحفظ التام فلا أقل من الاستكثار من قراءة هذه الأحاديث
حتى يستحضرها الذهن ، ويستوعبها القلب ، ويسهل تذكرها على الذاكرة .
وقد سبق التفصيل في هذا الموضوع في جواب السؤال رقم : (113469)
ثانياً :
لا بد أن يهتم طالب علم الحديث بحفظ مدارات الأسانيد وما استطاع من أسماء الرواة
وتراجمهم ، فأسانيد السنة النبوية تنقسم – من حيث شهرتها – إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : أسانيد أساسية ، تروى بالإسناد الواحد منها مئات الأحاديث ، وتعتبر
ركيزة من الركائز التي نقلت إلينا السنة النبوية ، بل ليس من كتب السنة كتاب إلا
وهو معتمد عليها ، ومكثر منها ، وذلك :
كإسناد : الأعمش ، عن ذكوان أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة .
وإسناد : الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة .
وإسناد : حماد بن سلمة ، عن ثابت بن أسلم ، عن أنس .
وإسناد : عبيد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر .
ويمكن استخراج هذه السلاسل الإسنادية التي تروى بها مئات الروايات من خلال كتاب "
تحفة الأشراف " للإمام المزي .
كما يمكن الاستعانة بحفظ رواتها ورجالها بكتاب : " طبقات المكثرين من رواية الحديث
"، تأليف الشيخ : عادل الزرقي . وتقديم العلامة : عبد الله السعد . طبعته : دار
طويق .
فإذا اعتنى طالب علم الحديث بهذه الأسانيد وحفظها ، ثم بدأ بتنزيل هذه الأسانيد على
المتون التي سبق له حفظها من كتب السنة : فقد استودع في قلبه بذلك مئات الأحاديث
بأسانيدها ، وبدأ بذلك مرحلة جديدة من التمكن الأصيل في هذا العلم الشريف .
القسم الثاني : أسانيد أقل شهرة ، تروى بها عشرات الروايات ، ولكنها تشتمل على بعض
الإشكالات المشهورة ، كالانقطاع ، أو التدليس ، أو الإرسال ، ونحو ذلك ، ويمكن
الاطلاع على بعض هذه الأسانيد في كتاب : " تحفة التحصيل " للعلائي .
فإذا اعتنى طالب العلم بهذه الأسانيد أيضاً ، واستظهر إشكالاتها الحديثية : فقد قطع
شوطاً كبيراً في التمكن من هذا الفن .
وأما القسم الثالث : فهي أسانيد الأحاديث الموضوعة والضعيفة ، التي رويت بها أحاديث
كثيرة أيضاً ، فهي أيضا مما لا بد من عناية طالب العلم بها ، إذ يقبح بالمتخصص أن
يخفى عليه ما اشتهر بين علماء الحديث بالضعف والنكارة أو الوضع ، ولتحقيق ذلك لا بد
من إدمان القراءة في كتاب : " ميزان الاعتدال " للإمام الذهبي ، وكتاب : " الكامل
في ضعفاء الرجال " لابن عدي ، وكتاب : " الموضوعات " لابن الجوزي .
ثالثاً :
فإذا قطع طالب علم السنة النبوية شوطا كبيرا في حفظ متون السنة واستظهارها : شرع
بعد ذلك في استشراح تلك المتون ، ومعرفة غريبها وأوجه تفسيرها ، وقد قال الخطيب
البغدادي رحمه الله : " العلم هو الفهم والدراية ، وليس بالإكثار والتوسع في
الرواية " انتهى. " الجامع لأخلاق الراوي " (ص/174)
ولكن يجب أن يتنبه طالب العلم إلى ضرورة الاقتصار – في بداية الطلب - على الشرح
المختصر الذي يحل الغريب ، ولا يطول في بيان المسائل الفقهية والعلمية ، فذلك أمر
يطول على الطالب ، ويتشعب به إلى أودية قد لا يحسن الخروج منها ، فحبذا لو قرأ
شرحاً مختصراً ، ككتاب " المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم " للإمام القرطبي ،
وكتاب " المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج " للإمام النووي ، فيلخص معنى الحديث وشرح
مفرداته من هذه الكتب على نسخته الخاصة التي حفظ منها الحديث نفسه ، حتى إذا ما
راجع محفوظه من السنة النبوية رافق ذلك الاطلاع على توضيحٍ مختصرٍ للحديث ، فجمع
بين فضيلتين .
أما العناية بالمسائل الفقهية المستنبطة من الحديث فذلك شأن آخر ، لا ينبغي تأصيله
من كتب شروح الحديث ، وإنما من كتب الفقه التي ترتب مسائل الفقه على طريقة الأصول
والفروع المبنية على واحد من المذاهب الأربعة .
رابعاً :
في علوم " مصطلح الحديث " ننصح طالب العلم أن يعتني بكتاب : " تحرير علوم الحديث "
للشيخ عبد الله الجديع ، قراءة ، ومدارسة ، وحفظاً لمسائله ، فهو كتاب رائد في بابه
، تميز بتأصيل علوم الحديث من خلال الواقع العملي لمسالك النقاد ، ومن خلال استقراء
جميع التأصيلات النظرية الواردة في كتب العلل والتراجم ، فضلاً عن كتب مصطلح الحديث
الأخرى .
فإن طال الكتاب على الطالب ، أو كان مبتدئاً في الطلب : اقتصر على " نزهة النظر شرح
نخبة الفكر " للحافظ ابن حجر ، أو عمل تلخيصاً لكتاب الشيخ عبد الله الجديع ،
واعتنى بهذا الملخص ، حتى إذا ما أتقنه انطلق يتوسع في قراءة الكتب الأخرى ، وأهمها
: " النكت على ابن الصلاح " للحافظ ابن حجر ، و" فتح المغيث " للحافظ السخاوي .
خامساً :
لا بد من حصص كافية من القراءة في نوعين آخرين من الكتب :
النوع الأول : كتب العلل والتخريج التي هي بمثابة التطبيق العملي لعلوم الحديث
الشريف ، فيطلع الطالب من خلالها على نماذج واسعة من الأحكام الحديثية والفوائد
الإسنادية ، فتنفتح له آفاق البحث والنظر .
النوع الثاني : الدراسات المعاصرة للمتخصصين في فنون الحديث الشريف ، مثل كتب
العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله ، وكذلك الرسائل العلمية المتخصصة ، ونحن
نعيش اليوم – بحمد الله – نهضة علمية حديثية لا تكاد تجد لها نظيراً في العصور
المتأخرة من تاريخ العلم الشرعي ، وكثير من هذه الدراسات تشتمل على مناقشات علمية
متمكنة ، ومباحثات مهمة في مسائل ضرورية ، لا ينبغي لطالب علم الحديث أن يقصر نظره
عنها ، أو يعزب فكره عن العناية بها ، وسيجد أنه بقراءته في هذه الدراسات المعاصرة
سيزيد من رصيد تمكنه ، وتتوسع مداركه ، وتنقدح في ذهنه الكثير من المباحث التي
تحتاج إلى دراسة وتأمل ، فلعله يساهم في تحقيق ذلك .
وقبل ذلك كله تذكير النفس بتقوى الله تعالى ، فهي غاية
كل العلوم ، ومن اشتغل بالعلم عن العمل فقد ضل وهلك ، بل الواجب أن يُرى أثر العلم
في تخشع المتعلم وتواضعه واشتهار خلقه وأدبه بين الناس .
عن الحسن البصري رحمه الله قال :
" كان الرجل يطلب العلم ، فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه وهديه ولسانه ويده "
انتهى.
" الزهد " لعبد الله بن المبارك (رقم/79)
ويقول ابن الصلاح رحمه الله :
" من أراد التصدي لإسماع الحديث أو لإفادة شيء من علومه : فليقدم تصحيح النية
وإخلاصها ، وليطهر قلبه من الأغراض الدنيوية وأدناسها ، وليحذر بلية حب الرئاسة
ورعوناتها " انتهى.
" علوم الحديث " (ص/213)
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري |
---|
كيف أبدأ في طلب علم الحديث ؟ |