عنوان الفتوى : مسألة الأذكار والأعمال المضاعفة الأجر
ماذا يجب على المسلم حتى يصل الفردوس؟ وهل عليه أن يجمع أكبر قدر من الحسنات؟ أم ماذا؟ وحديث من استغفر للمؤمنين والمؤمنات فله بكل مؤمن حسنة ـ هل إسناده حسن ـ لقد قرأت فتوى للشيخ المنجد أنه عندما حسنه الألباني لم يكن قد ظهر كتاب اسمه مسند الشاميين الذى تبين منه ضعف هذا الحديث، وقد أجزتم في فتوى سابقة تأويل أي ذكر بعدد مثل عدد خلقه وعدد حصاه وقد قرأت فتوى لشيخ سعودي جليل لا أذكر اسمه قد يكون ابن باز، أو ابن عثمنين في سؤال مشابه فرد أن ذلك تنطع في الأجر، فأنا أريد أن أفهم سياسة الثواب في الإسلام، وهل على المسلم أن يجمع أكبر ثواب لو صح حديث ثواب الاستغفار للغير، أو تأويل الذكر لعدد فبهذا يصل الثواب لمليارات الحسنات، ففي هذه الحالة أليس من الواجب أن نسدد في أعمالنا كما أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا وأبشروا ـ يعني لو أحدد عددا معينا من الساعات للذكر فسأجعلها كلها استغفارا للمؤمنين، أو أقول سبحان الله عدد أكبر رقم خلقه الله ـ تأويل لعدد ـ إذا كانت قولة واحدة من ذلك تعادل أضعاف ثواب ذكر آخر، أو عبادة أخرى، فهل نترك العبادات صغيرة الثواب لنستفيد من الوقت الذى تستهلكه فيما هو أكثر ثواب؟. وسؤال آخر: هل ينال من تسبب في إسلام شخص ثواب كل ثانية عبادة يعبدها هذا الشخص؟ وهل لو افترضنا أن الذى اخترع المصباح مسلم ـ اعلم أنه ليس بمسلم، ولكنه افتراض ـ فهل ينال ثواب كل ثانية يشتغل فيها المصباح في كل مكان فيساعد الناس على أداء أعمالهم وعبادتهم؟ يعني: لو اخترعت شيئا مثل المصباح يستخدمه الناس في الخير، فهل آخذ ثواب استخدامه حتى قيام الساعة؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأما الحديث الذي سألت عنه فقد ذكر أن فيه من ليس معروفا، أو من هو ضعيف.
وفي خصوص باقي أسئلتك: فالدرجات العلا وجنات الفردوس قد بين القرآن سبيلها بإيجاز بليغ، وهو الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا { الكهف: 107}.
وقال سبحانه: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى { طه: 75}.
وإذا أردت الوقوف على تفصيل هذه الأعمال الصالحة فاقرأ هذه الآيات: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ { سورة المؤمنون: 1ـ 11}.
فهذه هي الأعمال التي تؤهل صاحبها للفوز بالفردوس.
وأما مسألة الأعمال المضاعفة الأجر: فالحرص عليها، والإكثار منها، وإيثارها على غيرها، والدلالة عليها والترغيب فيها، مما يحمد لصاحبه، ويدل على علو همته، ويحصل له بها من الأجور أعظم وأكثر ممن لم يأت بها، وإن ساواه في الوقت والجهد، وهذا من مزايا العلم والفقه في الدين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، ولهذا كثر سؤال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له عن أفضل الأعمال، أو أعظمها، أو أحبها إلى الله، ولم يكتفوا بمجرد السؤال عن عمل صالح، ومما يدل على مضاعفة الأجر وتعظيم الثواب لمن أتى بشيء من هذه الأعمال، إذا ما قورن بمن لم يأت بها، وإن تساويا في الوقت والجهد، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بأبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ وهو يحرك شفتيه فقال: ماذا تقول يا أبا أمامة؟ قال: أذكر ربي، قال: ألا أخبرك بأفضل، أو أكثر من ذكرك الليل مع النهار والنهار مع الليل؟ أن تقول: سبحان الله عدد ما خلق، سبحان الله ملء ما خلق، سبحان الله عدد ما في الأرض والسماء، سبحان الله ملء ما في السماء والأرض، سبحان الله ملء ما خلق، سبحان الله عدد ما أحصى كتابه، وسبحان الله ملء كل شيء، وتقول: الحمد لله، مثل ذلك. رواه النسائي وابن حبان، وحسنه المنذري وابن حجر والألباني.
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم خرج من عند أم المؤمنين جويرية ـ رضي الله عنها ـ بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال: ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته. رواه مسلم.
قال القاري في المرقاة وتبعه المباركفوري في المرعاة، والعظيم أبادي في عون المعبود: لوزنتهن ـ أي لترجحت تلك الكلمات على جميع أذكارك وزادت عليهن في الأجر والثواب، يقال: وازنه فوزنه، إذا غلب عليه وزاد في الوزن، كما يقال: حاججته فحججته، أو لساوتهن، يقال: هذا يزن درهما، أي يساويه، وفيه تنبيه على أنها كلمات كثيرة المعنى لو قوبلت بما قلت لساوته. اهـ.
وإذا تقرر هذا، عُرف أن اقتصار المرء على الأعمال التي يضاعف أجرها تكثيرا للثواب، هو عين الإصابة، إذا لم يمكن الجمع بينها وبين غيره، بشرط أن لا يفوت ذلك سنة معينة، فإن إصابة السنة أولى من مجرد تضعيف الثواب.
ومن أمثلة ذلك أن يتلو المسلم إذا انتهى من صلاة الفريضة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أذكار في هذه الحال، فإن ذلك أولى من تركها للانشغال بتلاوة الذكر المضاعف، أما في الأوقات التي لا يسن فيها شيء بعينه، فالأولى الانشغال بالذكر المضاعف، ومن أمثلته ـ أيضا ـ أن من يسكن مكة، أو المدينة، فالسنة في حقه أن يصلي النوافل في بيته، حتى لو قلنا إن تضعيف أجر الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي لا يقتصر على الفرائض، وهنا ينبغي التنبيه على أن مضاعفة ثواب عملٍ ما، لا يكون بسبب صورته المجردة وإنما يكون بسبب مزية في العمل ذاته، أو في مكانه، أو في زمانه، أو في العامل نفسه، ومن أمثلة ذلك: الذكر المضاعف الذي سبق في حديث جويرة، فقد عقد ابن القيم في المنار المنيف فصلا لتفضيل هذا الذكر المضاعف، قال فيه: هو أعظم ثناء من الذكر المفرد، فلهذا كان أفضل منه، وهذا إنما يظهر في معرفة هذا الذكر وفهمه.
ثم ذكر ـ رحمه الله ـ طرفا مما يتضمنه هذا الذكر من معاني التنزيه والتعظيم والثناء الذي يستحق لله تعالى، ثم قال: والمقصود أن في هذا التسبيح من صفات الكمال ونعوت الجلال ما يوجب أن يكون أفضل من غيره، وأنه لو وزن غيره به لوزنه وزاد عليه، وهذا بعض ما في هذه الكلمات من المعرفة بالله والثناء عليه بالتنزيه والتعظيم مع اقترانه بالحمد، فإذا انضاف هذا الحمد إلى التسبيح والتنزيه على أكمل الوجوه وأعظمها قدرا وأكثرها عددا وأجزلها وصفا، واستحضر العبد ذلك عند التسبيح وقام بقلبه معناه كان له من المزية والفضل ما ليس لغيره. اهـ.
ومن ذلك تضعيف الثواب في المسجد الحرام والمسجد النبوي، قال الدهلوي في حجة الله البالغة: إنما فضل مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم والمسجد الحرام بمضاعفة الأجر لمعان، منها: أن هنالك ملائكة موكلة بتلك المواضع يحفون بأهلها ويدعون لمن حلها.
ومنها: أن عمارة تلك المواضع من تعظيم شعائر الله وإعلاء كلمة الله.
ومنها: أن الحلول بها مذكر لحال أئمة الملة. اهـ.
وتنبيه آخر يتعلق بما سماه السائل: تأويل ذكر بعدد ـ وهو أن الاقتصار على الوارد، كما في حديث جويرة وحديث أبي أمامة ـ أولى وأفضل، وراجع الفتوى رقم: 80380.
ومن الفوائد المتعلقة بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، قول الشوكاني في تحفة الذاكرين: في الحديث دليل على أنها تلحق بالمؤمن في استغفاره للمؤمنين والمؤمنات حسنات بعدد من استغفر له، فإن كانوا جماعة محصورين كانت له حسنات محصورة على عددهم، ومن أراد الاستكثار من فضل الله من الحسنات فليقل: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات ـ فإنه يكتب له من الحسنات ما لا يحيط به حصر ولا يتصوره فكر، وفضل الله واسع. اهـ.
وأما السؤال عن من تسبب في إسلام شخص، وهل ينال ثواب كل عبادة يقوم بها؟ فجوابه: نعم، وقد سبق لنا بيان ذلك في الفتوى رقم: 117919، وبيَّنا فيها أن من تسبب في وجود خير دون قصد منه للنتيجة، غير أنه باشر السبب اتفاقا بغير نية، فهذا ـ إن شاء الله ـ يكتب له أجر إعانته على الخير، لأن ذلك أثر من آثاره، وقد قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ {يس: 12}. وراجع الفتوى رقم: 137473.
فمن اخترع شيئا يعين الناس على أداء أعمالهم وعباداتهم فإنه لا يحرم أجر استفادة الناس من ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ وراجع الفتوى رقم: 47854.
والله أعلم