عنوان الفتوى : جواب شبهة حول حديث (..إنه ليأسن كما يأسن البشر)
ما صحة حديث ابن عباس الذي قال فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه ليأسن كما يأسن سائر البشر؟ وإذا كان صحيحا، فهل هذا يتعارض مع أن أجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذا الحديث مع آثار أخرى قد طبل لها أعداء الإسلام تطبيلاً، وقصدوا فيها الطعن في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وظنوا أن لهم فيها حجة على دحض شريعة الإسلام ونبيه، وسيكون الكلام عليه من وجوه:
أحدها: أن الحديث رجاله رجال البخاري إلا أنه قد سقط أحد رواته وبالتالي، فهو مصنف في رتبة الضعيف ولكن لو قدر أن الراوي الساقط هو عبد الله بن عباس كما ذهب إليه بعض أهل العلم، فإنه يرقى بذلك إلى درجة الصحيح وعلى تقدير صحته، فما قاله العباس ليس إخباراً عن أمر قد حصل، وإنما قال ذلك اجتهاداً معتقداً أن ذلك محتملاً في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم بشريته وطبيعته الإنسانية، جاء في سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي: وروى ابن سعد عن عكرمة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: عرج بروحه كما عرج بروح عيسى. الحديث.
وقال العباس ـ رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأسن كما يأسن البشر، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات ـ إلى آخره، فهذا مرسل كما ترى، ورواه إسحاق بن راهوية بسند رجاله رجال البخاري إلا أن عكرمة لم يسمع من العباس، فإن كان الواسطة بينهما عبد الله بن عباس فهو صحيح، وقد رواه الطبراني من طريق ابن عيينة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عن العباس بنحوه، وهو على شرط البخاري.
قال الحافظ ابن حجر فما وجد بخطه: وهذا الذي قاله العباس لم ينقله عن توقيف، بل اجتهاداً على العادة ولا يستلزم أن يقع ذلك. انتهى.
وفي المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام للأستاذ علي بن نايف الشحود: أما قول العباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأسن كما يأسن البشر، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات فادفنوا صاحبكم ـ فهذا ليس إخباراً عن أمر قد وقع، وإنما اجتهاد من قبل العباس إذ ظن أن جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم سيسري عليه ما يسري على سائر الأجساد بعد الموت وكان قد قال هذه المقولة ترهيباً وتنبيهاً لعمر حين رفض قبول مصيبة موت رسول الله فضلاً عن دفن جسده الكريم، وصرخ من هول المصيبة متوعداً كل من يقول إن رسول الله قد مات حتى أزبد شدقاه، قال عكرمة: ما زال عمر ـ رضي الله عنه ـ يتكلم ويوعد المنافقين حتى أزبد شدقاه، فقال له العباس: خل بيننا وبين صاحبنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأسن كما يأسن البشر، وإنه قد مات فادفنوا صاحبكم، أيميت أحدكم إماتة ويميته إماتتين؟ هو أكرم على الله من ذلك، فإن كان كما يقولون فليس على الله بعزيز أن يبحث عنه التراب فيخرجه ـ إن شاء الله ـ إذاً فجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قد أسِن وإنما طالب العباس بدفن البدن الشريف إكراماً له وترهيباً من تركه حتى يأسن اعتقاداً منه أن ذلك محتملاً مع رسول الله بحكم بشريته وطبيعته الإنسانية، وأما حديث وكيع عن عبد الله البهى والذي فيه أن جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تُرك يوماً وليلة حتى ربا بطنه، فإن وكيعاً حين روى هذا الخبر رأى له حكمة الهية وقال إن الله تعالى جعل الجسد الشريف يربو حتى لا يفتتن به الناس وينزلوه غير منزلته، وحتى يثبت للمكذبين بموت رسول الله حقيقة وقوع القدر المقدور، ورغم وجاهة رؤيته إلا أن القول الفصل بخصوص روايته أنها غير صحيحة، فالحديث منكر ولم يثبت في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الألباني ـ رحمه الله ـ الراوي: عبد الله البهي مولى مصعب بن الزبير خلاصة الدرجة منكر منقطع الإسناد المحدث: الذهبي- المصدر: سير أعلام النبلاء- الصفحة أو الرقم: 9/160ـ فهو حديث منكر منقطع لا حجة به ولا يُلتفت إليه . انتهى، إلى أن قال: فأي حجة للنصارى بعد ذلك بخبر غريب، ومنكر، ومنقطع؟ انتهى.
فتبين مما تقدم أن الحديث المذكور على افتراض صحته لا يناقض سلامة الأنبياء من أن تأكل أجسادهم الأرض وأن جسده الشريف لا يبلي ولا يتغير ريحه، بل ما زال أطيب ريحاً من المسك كما ذكر الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء تعقياً على حديث وكيع المتقدم، قال: ولكن إذا تأملته فلا بأس ـ إن شاء الله بـ ذلك، فإن الحي قد يربو جوفه وتسترخي مفاصله وذلك تفرع من الأمراض وأشد الناس بلاء الأنبياء، وإنما المحذور أن تجوز عليه تغير سائر موتى الآدميين ورائحتهم وأكل الأرض لأجسادهم والنبي صلى الله عليه وسلم فمفارق لسائر أمته في ذلك فلا يبلى ولا تأكل الأرض جسده ولا يتغير ريحه، بل هو الآن وما زال أطيب ريحاً من المسك وهو حي في لحده حياة مثله في البرزخ التي هي أكمل من حياة سائر النبيين وحياتهم بلا ريب أتم وأشرف من حياة الشهداء الذين هم بنص الكتاب أحياء عند ربهم يرزقون. انتهى.
والله أعلم.