عنوان الفتوى : الوقوع في معصية الله هل يسوغ ترك العمل الصالح
أنا أواظب على حفظ وقراءة ورد من القرآن قدره ما يقارب الساعة على الأقل يوميا، ولا أستطيع النوم أو أحس بذنب إن لم أفعل ذلك، حيث إنني اقتربت من ختم القرآن حفظا، ووالله ما أصابنى هم إلا والقرآن يزيله، ولكني أضيع صلاة الفجر وأفعل بعض المعاصي، وأحاول الاستيقاظ من النوم فهناك أسباب منها العمل. فهل يتقبل الله مني قراءتي؟ أو هل بعد المعصية يجوز لي أن أقرأ.. فإني إن تركت هذا الورد أحس بتأنيب شديد؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا شك أن فعل المعصية لا يبرر ترك الطاعة، بل إن تركها يزيد الطينة بلة، فإن الحسنات والسيئات يوزنان يوم القيامة، والعبرة بالغالب، وليس من شرط قبول الحسنات العصمة من السيئات، وقد قال تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. {التوبة:102}. والعاقل هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات ما يزيل به أثر السيئات، كما قال الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ. {هود:114}. ويوضح هذا سبب نزول هذه الآية. فعن ابن مسعود: أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزلت عليه هذه الآية، فقال الرجل: ألي هذه؟ قال صلى الله عليه وسلم: لمن عمل بها من أمتي. رواه البخاري ومسلم.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأتبع السيئة الحسنة تمحها. رواه الترمذي. وقال: حسن صحيح، وأحمد وحسنه الألباني.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الطبيب متى تناول المريض شيئاً مضراً أمره بما يصلحه، والذنب للعبد كأنه أمر محتم، فالكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات. وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات، فإنه أبلغ في المحو.
والذنوب يزول موجبها بأشياء، أحدها: التوبة. والثاني: الاستغفار من غير توبة، فإن الله تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه وإن لم يتب، فإذا اجتمعت التوبة والاستغفار فهو الكمال. والثالث: الأعمال الصالحة المكفرة، إما الكفارات المقدرة، كما يكفر المجامع في رمضان والمظاهر والمرتكب لبعض محظورات الحج أو تارك بعض واجباته، أو قاتل الصيد بالكفارات المقدرة، وهي أربعة أجناس هدي وعتق وصدقة وصيام.. وإما الكفارات المطلقة، كما قال حذيفة لعمر: فتنة الرجل في أهله وماله وولده، يكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد دل على ذلك القرآن والأحاديث الصحاح في التكفير بالصلوات الخمس والجمعة والصيام والحج وسائر الأعمال التي يقال فيها: من قال كذا وعمل كذا غفر له، أو غفر له ما تقدم من ذنبه، وهي كثيرة لمن تلقاها من السنن خصوصاً ما صنف في فضائل الأعمال.
واعلم أن العناية بهذا من أشد ما بالإنسان الحاجة إليه، فإن الإنسان من حين يبلغ خصوصاً في هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه، فإن الإنسان الذي ينشأ بين أهل عمل ودين قد يتلطخ من أمور الجاهلية بعدة أشياء، فكيف بغير هذا... فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يخلص النفوس من هذه الورطات وهو إتباع السيئات الحسنات. انتهى.
وقال أيضاً رحمه الله: وعند أهل السنة والجماعة يتقبل العمل ممن اتقى الله فيه فعمله خالصاً لله موافقاً لأمر الله، فمن اتقاه في عمل تقبله منه وإن كان عاصياً في غيره، ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيعاً في غيره، والتوبة من بعض الذنوب دون بعض كفعل بعض الحسنات المأمور بها دون بعض. انتهى.
وقد سبق لنا في الفتوى رقم: 66719 أنه يصح فعل الطاعات مع تلبس المرء ببعض المعاصي، وراجع في ذلك أيضاً الفتوى رقم: 114154.
فلتحرص أخي الكريم على ملازمة وردك ولا يصدنك عنه ما قدر يبدر منك من تقصير أو تخليط، ولتحرص في الوقت نفسه على تزكية نفسك بتقوى الله واجتناب القاذورات التي حرمها الله، وقد سبق لنا بيان وسائل تقوية الإيمان وتحقيق الاستقامة، وذكر نصائح لاجتناب المعاصي وبيان شروط التوبة وبيان الأسباب المعينة على التخلص من غواية الشيطان، وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10800، 1208، 93700، 5450، 33860، 56356.
والله أعلم.