عنوان الفتوى : تفنيد أربع شبهات حول تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
أنا سعيدة جدا بالتواصل معكم، وقد أرسلت أكثر من سؤال وأجبتم عليهم إجابة شافية ومنطقية، مما جعلني أثق في موقعكم، سؤالي هو عن شبهة اطلعت عليها بالصدفة من خلال موقع غير مسلم مضمونها التالي: 1-لماذا رخص لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالزواج بأكثر من 4 إلى 12 مع التسري إلى جانب من تهب نفسها له وذلك دون باقي المسلمين؟. 2-كيف كان لديه الوقت الكافي لنشر الدعوة مع كل هذا الكم من النساء؟. 3- أليس من طبيعة المرأة أنها لا تتحمل أن تكون بدون زوج خصوصا وإن كانت صغيرة؟ وقد حث الشرع على زواج الأرامل، فلماذا حرم ذلك على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم؟ أليس هذا ظلما لهن ؟ وخصوصا أن معظمهن كن صغيرات، فالسيدة عائشة كانت وقتها في الثامنة عشرة، وإذا كان الزواج من الأرملة تعد على الزوج الميت، فلماذا يسمح بذلك في حق المؤمنين، ولا يسمح به في حق النبي عليه الصلاة والسلام؟. 4- لماذا الذكر الكثير في القرآن لمشكلات النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة مع أزواجه، مثل حديث الإفك وكذلك الآيات الخاصة بالحديث الذي أسره صلى الله عليه وسلم إلى إحدى زوجاته ونشرته الأخرى؟. أنا أعتذر عن طريقة السرد ولكنى أردت أن تكون كما قرأتها حتى لا يختلف المعنى، وأ رجو التوضيح والشرح المفصل وعدم إحالتي على فتوى أخرى، فالأمر أثارني وضايقني لا لشكي في ديني ـ والعياذ بالله ـ بل لجهلي به وبسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنا كمسلمة ليس لدي أي رد على هذه الشبهات وكذلك أريد اسم موقع موثوق به أو كتاب يتناول سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وحياته . وأخيرا أشكركم شكرا جزيلا وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد نقل السيوطي في باب اختصاصه صلى الله عليه وسلم بنكاح أكثر من أربع نسوة بعض الفوائد، منها:
نقل محاسنه الباطنة فإنه صلى الله عليه وسلم مكمل الظاهر والباطن.
ومنها: نقل الشريعة التي لم يطلع عليها الرجال.
ومنها: تشريف القبائل بمصاهرته.
ومنها: شرح صدره بكثرتهن عما يقاسيه من أعدائه.
ومنها :زيادة التكليف في القيام بهن مع تحمل أعباء الرسالة فيكون ذلك أعظم لمشاقه وأكثر لأجره.
ومنها: أن النكاح في حقه عبادة.
قالوا: وقد تزوج أم حبيبة وأبوها في ذلك الوقت عدوه، وصفية وقد قتل أباها وعمها وزوجها، فلو لم يطلعن من باطن أحواله على أنه أكمل الخلق لكانت الطباع البشرية تقتضي ميلهن إلى آبائهن وقرابتهن، وكان في كثرة النساء عنده بيان لمعجزاته وكماله باطنا كما عرفه الرجال منه ظاهرا صلى الله عليه وسلم. (الخصائص الكبرى2 / 367).
وقال الدكتور/ القرضاوي في كتاب فتاوى معاصرة: خص الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم بشيء دون المؤمنين، وهو أن أباح له ما عنده من الزوجات اللاتي تزوجهن، ولم يوجب عليه أن يطلقهن ولا أن يستبدل بهن من أزواج يبقين في ذمته، ولا يزيد عليهن، ولا يبدل واحدة بأخرى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا {الأحزاب: 52}. والسر في ذلك أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لهن مكانة خاصة وحرمة متميزة فقد اعتبرهن القرآن أمهات للمؤمنين جميعًا، قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ {الأحزاب: 6} . ومن فروع هذه الأمومة الروحية للمؤمنين أن الله حرم عليهن الزواج بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا .{الأحزاب: 53} . ومعنى هذا أن التي طلقها النبي صلى الله عليه وسلم ستظل محرومة طول حياتها من الزواج بغيره، مع حرمانها من الانتساب إلى بيت النبوة، وهذا يعتبر عقوبة لها على ذنب لم تجنه يداها، ثم لو تصورنا أنه أمر باختيار أربع من نسائه التسع وتطليق الباقي لكان اختيار الأربع منهن لأمومة المؤمنين وحرمت الخمس الأخريات من هذا الشرف أمرًا في غاية الصعوبة والحرج.
فمن من هؤلاء الفضليات يحكم عليها بالإبعاد من الأسرة النبوية ويسحب منها هذا الشرف الذي اكتسبته؟.
لهذا اقتضت الحكمة الإلهية أن يبقين جميعًا زوجات له خصوصية للرسول الكريم واستثناء من القاعدة: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
أما الزواج من هؤلاء التسع من الأصل، لماذا كان ؟ فسر ذلك معلوم وحكمته لم تعد خافية ولو بحثنا وراء زواجه منهن، لوجدنا أن هناك حكمة هدف إليها النبي صلى الله عليه وسلم من زواجه بكل واحدة منهن جميعًا، فلم يتزوج لشهوة ولا للذة ولا لرغبة دنيوية، ولكن لحكم ولمصالح وليربط الناس بهذا الدين، وبخاصة أن للمصاهرة والعصبية قيمة كبيرة في بلاد العرب ولها تأثير وأهمية، ولذا أراد عليه الصلاة والسلام أن يجمع هؤلاء ويرغبهم في الإسلام ويربطهم بهذا الدين ويحل مشكلات اجتماعية وإنسانية كثيرة بهذا الزواج، ثم لتكون نساؤه عليه الصلاة والسلام أمهات المؤمنين ومعلمات الأمة في الأمور الأسرية والنسائية من بعده يروين عنه حياته البيتية للناس حتى أخص الخصائص، إذ إنه ليس في حياته أسرار تخفى عن الناس.
ليس في التاريخ واحد إلا له أسرار يخفيها، ولكن النبي عليه صلاة الله وسلامه يقول: حدثوا عني.
تعليما للأمة وإرشادًا لها.
وهناك حكم لا يتسع المقام لشرحها وتفصيلها من أبرزها وأهمها: أنه عليه الصلاة والسلام قدوة حسنة للمسلمين في كل ما يتصل بهذه الحياة، سواء كان من أمور الدين أو الدنيا ومن جملة ذلك معاملة الرجل لزوجه وأهل بيته.
فالمسلم يرى قدوته الصالحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان زوجًا لامرأة ثيب، أو بكر، أو تكبره في السن أو تصغره، أو كانت جميلة أو غير جميلة، أو كانت عربية أو غير عربية، أو بنت صديقه أو بنت عدوه.
كل هذه الصور من العلائق الزوجية يجدها الإنسان في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم على أكمل وأفضل وأجمل صورة، فهو قدوة لكل زوج في حسن العشرة والتعامل بالمعروف مع زوجته الواحدة أو مع أكثر من واحدة، ومهما كانت تلك الزوجة، فلن يعدم زوجها الإرشاد القويم إلى حسن معاشرتها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم الزوجية. ولعل هذه الحكمة من أجل الحكم التي تتجلى في تعدد زوجات نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه. اهـ.
وقد سبق لنا ذكر بعض حكم تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم، في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 1570، 6828، 29993.
وأما السؤال الثاني عن الجمع بين هذا العدد من الزوجات والقيام بنشر الدعوة، وكيف يجد لذلك الوقت الكافي ؟.
فالأمر أكبر من هذا بكثير، فلم تكن مجرد دعوة بل هذا كان إلى جانب إنشاء دولة وسياسة أمة عسكريا واجتماعيا واقتصاديا وتربويا في وقت تكالبت عليه الأعداء في جزيرة العرب من داخل المدينة حيث اليهود والمنافقون، ومن خارجها حيث قبائل العرب مجتمعة، بل لقد واجهت هذه الدولة الوليدة الدول التي كانت تحكم العالم في ذلك الوقت :الفرس والروم نقول هذا لنبين أن هذا المطعن إنما هو في الحقيقة مظهر من مظاهر العظمة في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو في الحقيقة معجزة من المعجزات التي أيده الله تعالى بها.
ومن جانب آخر فإن في هذا الملمح بيانا ظاهرا لما سبق من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع بين النساء لتحصيل شهوة أو لذة، وإنما لمصالح عليا وغايات كبرى تصب في النهاية لمصلحة نشر هذه الدعوة الجديدة ونصرة هذا الدين القويم.
وأما السؤال الثالث عن العلة من تحريم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم على غيره، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً {الأحزاب: 53}. فقد أشار القرآن إلى علة ذلك فقال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ {الأحزاب: 6}. قال السعدي: ترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين، أنهن لا يحللن لأحد من بعده. اهـ.
وفي هذا من التشريف لهن شيء عظيم لم تشاركهن فيه امرأة، وفي هذا التحريم أيضا منفعة لهن لا تدانيها منفعة، وهي كونهن أزواجه صلى الله عليه وسلم في الجنة، فإن المرأة لآخر أزواجها في الدنيا، قال الشيخ الجزائري: حرم الله نكاح أزواجه من بعده وجعل لهن حكم الأمهات، وقال صلى الله عليه وسلم: زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة. وهذه علة من علل التحريم أيضا. اهـ.
وقال القرطبي: حرم الله نكاح أزواجه من بعده وجعل لهن حكم الأمهات، وهذا من خصائصه تمييزا لشرفه وتنبيها على مرتبته صلى الله عليه وسلم.
قال الشافعي رحمه الله: وأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن، ومن استحل ذلك كان كافرا، لقوله تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا.
وقد قيل: إنما منع من التزوج بزوجاته، لأنهن أزواجه في الجنة، وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها. اهـ.
وقال الشيخ الشعراوي: الرجال الذين يختلفون على امرأة توجد بينهم دائماً ضغائن وأحقاد، فالرجل يُطلِّق زوجته ويكون كارهاً لها، لكن حين يتزوجها آخر تحلو في عينه مرة أخرى فيكره مَنْ يتزوجها، وهذه كلها أمور لا تنبغي مع شخص رسول الله، ولا يصح لمن كانت زوجة لرسول الله أن تكون فراشاً لغيره أبداً، لذلك جعلهن الله أمهات للمؤمنين جميعاً. اهـ.
فإذا دققنا النظر لم نجد في هذا التحريم ظلما لهن، بل فيه إنعام كبير وإكرام شهير، وأي امرأة من المؤمنات تغبطهن على هذه المكانة والمنزلة العظيمة، ولذلك لما خيرهن النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين الدنيا وزينتها، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) {الأحزاب:28-29}. اخترنه جميعا رضي الله عنهن.
ثم لا يخفى أن أي امرأة تعاشر النبي صلى الله عليه وسلم وتتطلع على مكارم أخلاقه وكريم عشرته وكمالاته التي خصه الله تعالى بها لا يمكن أن ترضى زوجا بعده ولا أن تسعد معه في الدنيا، فكيف وهي تعلم أن ذلك يحرمها من مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في درجته في الجنة.
وأما السؤال الرابع ففيه مغالطة ظاهرة، فحديث الإفك لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأزواجه دخل في حصوله، بل كان ابتلاء من الله تعالى رفع به درجاتهم، ونوَّه فيه بمكانتهم، وصيَّره خيرا لهم، وكبت به أعداءهم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ {النور:11}.
وأما الآيات في سورة التحريم وفي سورة الأحزاب ففيها من بيان الأحكام الفقهية والآداب الشرعية ما هو ضروري للأمة، ولا يخفى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو محل القدوة كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً {الأحزاب:21}. فبيان أحواله في بيته هو في الحقيقة بيان لمحل القدوة والأسوة.
والله أعلم.