عنوان الفتوى : حد الصغيرة والفرق بينها وبين الكبيرة
أود أن تشرحوا لي بالتفصيل الذنوب الصغيرة وأمثلة كثيرة عليها وما هي مكفراتها ؟ وهل يعتبر الكذب، والتدخين، والعادة السرية منها ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد كثر كلام العلماء حول ضابط الصغيرة والكبيرة، وانتشرت أقوالهم في ذلك انتشاراً واسعاً، وإذا عرفت حد الكبيرة تبين لك حدُ الصغيرة، فإن الذنوب قسمان: صغائر وكبائر.
قال ابن القيم رحمه الله: والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، بنصّ القرآن والسنة، وإجماع السلف، وبالاعتبار. انتهى.
قال القرطبي في حد الكبيرة: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب. انتهى.
فما لم يكن كذلك فهو صغيرةٌ على هذا الاعتبار.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الكبائر هي ما رتب عليه عقوبة خاصة بمعنى أنها ليست مقتصرة على مجرد النهي أو التحريم، بل لا بد من عقوبة خاصة مثل أن يقال من فعل هذا فليس بمؤمن، أو فليس منا، أو ما أشبه ذلك، هذه هي الكبائر، والصغائر هي المحرمات التي ليس عليها عقوبة. انتهى.
وأحسن ما حُدت وعرفت به الصغيرة أنها ما دون الحدين حدُ الدنيا وحدُ الآخرة، وهذا التعريفُ مرويٌ عن ابن عباس رضي الله عنهما، وارتضاه شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال رحمه الله: أمثل الأقوال في هذه المسألة القول المأثور عن ابن عباس، وذكره أبو عبيد، وأحمد بن حنبل وغيرهما وهو: أن الصغيرة ما دون الحدين: حد الدنيا وحد الآخرة. وهو معنى قول من قال: ما ليس فيها حد في الدنيا، وهو معنى قول القائل: كل ذنب ختم بلعنة أو غضب أو نار فهو من الكبائر .
ومعنى قول القائل: وليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة أي وعيد خاص كالوعيد بالنار والغضب واللعنة، وذلك لأن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا، فكما أنه يفرق في العقوبات المشروعة للناس بين العقوبات المقدرة بالقطع، والقتل، وجلد مائة أو ثمانين، وبين العقوبات التي ليست بمقدرة وهي التعزير، فكذلك يفرق في العقوبات التي يعزر الله بها العباد-في غير أمر العباد بها-بين العقوبات المقدرة كالغضب واللعنة والنار، وبين العقوبات المطلقة . وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره ؛ فإنه يدخل كل ما ثبت في النص أنه كبيرة. انتهى.
وإذا تبين لك بهذا ضابط الصغيرة، فإنه يدخل في الصغائر ما لا يكادُ ينحصر من الذنوب، فكلُ ما نهى عنه الشارع، ولم يرتب عليه وعيداً مخصوصاً فهو داخلٌ تحت اسم الصغيرة.
وأما مكفرات الصغائر، فإن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، لقوله تعالى: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا. {النساء:31}.
وتكفرها كذلك الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصوم رمضان، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر.
وما عدا ذلك من الطاعات التي وردت الأحاديث بأنها تكفر الذنوب، كصوم عرفة، وصوم عاشوراء، ونحو ذلك ،فهو محمولٌ عند الجمهور على الصغائر، فإنها تكفر بأمثال هذه الطاعات، التي ثبت في الشرع تأثيرها في محو الصغائر، ومن ذلك الذكر المأثور دبر الصلاة كما يأتي إن شاء الله .
قال النووي في شرح مسلم: وتنقسم-أي المعاصي -باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس، أو صوم رمضان، أو الحج أو العمرة، أو الوضوء، أو صوم عرفة، أو صوم عاشوراء، أو فعل الحسنة أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وإلى ما لا يكفره ذلك كما ثبت فى الصحيح ما لم يغش كبيرة، فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر وما لا تكفره كبائر، ولا شك فى حسن هذا، ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى فإنها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها لكونها أقل قبحا ولكونها متيسرة التكفير. انتهى.
وأما هذه الذنوب التي سألت عنها، فإنا قد بينا في الفتوى رقم: 25998حكم التدخين وأنه صغيرة لعدم انطباق حد الكبيرة عليه، وكذا الاستمناء هو من الصغائر كما بينا ذلك في الفتوى رقم: 22267. وليس معنى كون هذه الذنوب من الصغائر، أن يستهين بها العبد، أو يتجاسرُ عليها، فإن الصغائر تنقلب إلى كبائر بالإصرار عليها، كما بينا ذلك في الفتاوى المذكورة، واستهانة العبد بالمعصية قد تدخلها في حد الكبيرة.
قال ابن القيم رحمه الله: وها هنا أمرٌ ينبغي التفطّن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف، والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر. وقد يقترن بالصغيرة من قلّة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر. بل يجعلها في أعلى المراتب. وهذا أمرٌ مرجعه إلى ما يقوم بالقلب. وهو قدر زائد على مجرّد الفعل. والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره. انتهى.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن احتقار الذنوب، فإن الصغائر تجر إلى الكبائر، فقد روى الإمام أحمد عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعودٍ وذا بعودٍ، حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه. وقد أشبعنا القول في شرح هذا الحديث في الفتوى رقم: 39543.
وأما الكذب فقد وقع الخلافُ بين أهل العلم في كونه من الصغائر أو من الكبائر؟
قال ابن القيم رحمه الله: واختلف الفقهاء في الكذب في غير الشهادة هل هو من الصغائر أو من الكبائر؟ على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد حكاهما أبو الحسين في تمامه، واحتج من جعله من الكبائر بأن الله سبحانه جعله في كتابه من صفات شر البرية وهم الكفار والمنافقون فلم يصف به إلا كافرا أو منافقا ،وجعله علم أهل النار وشعارهم، وجعل الصدق علم أهل الجنة وشعارهم، وفي الصحيح من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا.انتهى.
والله أعلم.