عنوان الفتوى : أصحاب المعاصي.. حب أم بغض
جادلت نصرانياً في موضوع سماحة الدين بين الإسلام والمسيحية، واستدل بمبدأ من تعاليم النصرانية يقول: أبغض الخطيئة، وأحب المخطئ ومعنى ذلك، أن المؤمن - النصراني هنا - يجب أن يبغض الخطأ نفسه كالسرقة مثلاً، ولكنه يجب أن لا يبغض الشخص المرتكب للخطيئة أي السارق، وذلك لقولهم بأننا كلنا مخطئون أي جميعنا قد يرتكب ذنباً أو أكثر، وقد أجبته حينها بأن هذا موقف الإسلام، ولكن الحق أني لم أسمع بدليل من القرآن أو السنة على ذلك، وما قلته إلا لنقض قوله، فما هو موقف الإسلام من هذا الجانب، وهل علي شئ لذكري بأن موقف الإسلام مؤيد له، أفيدونا ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمن المعروف أن المسلم، يحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه الله، وهذا هو غاية العدل والإحسان، أن نستسلم لحكم رب العالمين، ففيه نحب ونبغض، وله نعطي ونمنع، وعليه نوالي ونعادي. ولهذا لا يتمحض البغض عند المؤمن إلا لأعداء الله الكافرين، الذين أخبر الله بعداوته لهم فقال: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ {البقرة : 98}
وهذه هي الأسوة الحسنة التي ورثناها عن خليل الرحمن، كما قال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ {الممتحنة: 4}
وأما المؤمن فإنه يحب لإيمانه، فإن أساء فإنه يحب بقدر ما فيه من إيمان ويبغض بقدر ما فيه من معصية تبغض فيه معصيته، وتبقى له أخوة الإيمان، كما قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ {التوبة : 71}
فمع أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فيما بينهم، لا ينقطع ما بينهم من ولاء. حتى أهل الكبائر منهم، تبقى محبتهم وما يترتب عليها من حقوق الإسلام، مع بغض كبائرهم، فلا يُلعنون ولا يُسبون ولا يدعَى عليهم، بل يُترحم على ميتهم، ويُوعظ حيُّهم بالتي هي أحسن، فهذا هو هدي الإسلام الحنيف، فعن عمر بن الخطاب أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه؛ ما أكثر ما يؤتى به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فو الله ما علمت إنه يحب الله ورسوله.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب قال: اضربوه. قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله. قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان. رواهما البخاري.
ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم الغامدية التي زنت، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها فقال: مهلا يا خالد ! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له. ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت. رواه مسلم.
وأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فتى شابٌّ، فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه قالوا: مه مه. فقال: ادنه. فدنا منه قريبا، فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. رواه أحمد، وصححه الألباني. وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 55090 ، 65812 ، 95792 ، 7618.
فما ذكره السائل الكريم في مجادلته لهذا النصراني صحيح من وجه وخطأ من وجه، فإن كان المقصود أن المذنب من المؤمنين يبغض بقدر معصيته مع بقاء أصل محبته لإيمانه، فصحيح. وإن كان المقصود أن المذنب والطائع من المؤمنين سواء في المحبة والموالاة مع بغضنا للمعصية نفسها، فليس بصحيح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه. وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة انتهـى.
وقد كان الواجب على السائل الكريم أن لا ينسب للإسلام ما لا علم له به، حتى يسأل ويتبين، ثم يخبر بما علم. وراجع للأهمية الفتوى رقم: 29347 .
والله أعلم.