أرشيف المقالات

مثل و رسالة

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .

من مقاصد ضرب الأمثال في القرآن الكريم، التّمكين للقيم الإنسانية في النفوس، و تجليتها للعقول، و إبراز معاني الخير، في مشاهد واقعية، حتى تستقر في الأذهان، و تتفاعل معها الأفئدة٠
و لقد استوقفني المثل القرآني في سورة الأعراف، إذ يقول الله تعالى:" و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خَبُث لا يخرج إلا نكدا٠ كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون٠"58.
ف " البلد الطيب" هو ما كانت أرضه خصبة زكية التربة، تصلح للغِراسة و الزراعة، وأما"الذي خبث" ، فينبِت ما لا ينفع، و يخرِج ما لا يصلح٠
ولعل المقصود بهذه الآية، ليس مجرد تفصيل أنواع الأراضي، بل القصد تقريب المعنى عن طريق ضرب المثل٠
ولقد أوضح ذلك سيد قطب رحمه الله بتفصيل في الظلال، فقال:" و القلب الطيب يشبه في القرآن و في حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم بالأرض الطيبة و بالتربة الطيبة، و القلب الخبيث يشبه بالأرض الخبيثة و بالتربة الخبيثة٠ فكلاهما القلب و التربة منبت زرع و مأتى ثمر٠ القلب ينبت نوايا و مشاعر، و انفعالات و استجابات، و اتجاهات و عزائم، و أعمالا بعد ذلك و آثارا في واقع الحياة٠ و الأرض تنبت زرعا و ثمرا مختلفا أكله و ألوانه و مذاقاته و أنواعه٠٠
و الهدى و الآيات و الموعظة تنزل على القلب كما ينزل الماء على التربة٠ فإن كان القلب طيبا كالبلد الطيب تفتح و استقبل و زكا و فاض بالخير، و إن كان فاسدا شريرا كالذي خبث من البلاد و الأماكن استغلق و قسا و فاض بالشر و النكر و الفساد و أخرج الشوك و الأذى كما تخرج الأرض النكدة !"
و يؤكد العلامة الطاهر بن عاشور نفس المعنى في التحرير و التنوير قائلا: " كذلك ينتفع بالهدى من خلقت فطرته طيبة قابلة للهدى كالبلد الطيب ينتفع بالمطر٠ و يحرم من الانتفاع بالهدى من خلقت فطرته خبيثة كالأرض الخبيثة لا تنتفع بالمطر فلا تنبت نباتا نافعا ".
و في كلام سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام ما يعزز المعنى القرآني، ويؤكد اختلاف تفاعل الناس مع وحي رب العالمين سبحانه٠ فمنهم من هو كالأرض الطيبة، فطرته طيبة، قلبه و عقله متلهفان لتشرب سقيا تعليمات الوحي و هداياته٠ كلما ذُكِّر تذكَّر، و ذكَّر غيره، تماما كما تتفاعل الأرض الطيبة مع ماء القطر في المشهد البديع الذي رسمه القرآن الكريم : ( {وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت و أنبتت من كل زوج بهيج} ) [الحج : الآية 5]
و فيهم أمثال الأجاذب، هم أوعية العلم و حفاظه ، إلا أن هداه لم ينفذ إلى جوهرهم، و لم يغير أحوالهم٠ أولئك يصدق فيهم حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم:" رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، و رب حامل فقه ليس بفقيه" رواه الترمذي
و هناك نوع ثالث من هم أشبه بالقيعان التي لا تمسك ماء و لا تنبت كلأ٠ أولئك ليس فيهم خير البتة، لا هم قبلوا الهدى وانتفعوا به،و لا هم نفعوا به٠
ويفصل رسول الله أحوال أولئك النفر الثلاثة، في رواية لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه:" «مثل ما بعثني الله به من الهدى و العلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ و العشب الكثير، و كانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا و سقوا و زرعوا، و أصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء و لا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله و نفعه ما بعثني الله به فعَلِم و علَّم، و مثل من لم يرفع بذلك رأسا، و لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» ٠" [رواه البخاري] ٠
وفي هذا الزمن الإستثنائي الذي تعيشه الإنسانية جمعاء، وأمتنا بشكل خاص، زمن عنوانه الأكبر انكماش العطاء المجتمعي، و تراجع قيمة الإيثار و الخدمة المجتمعية، في مقابل تصاعد ثقافة الأثرة و التمركز حول الذات، تبرز الحاجة الملحة إلى أصحاب القلوب الطيبة التي فقهت المعنى الحقيقي للخيرية:" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله"، وتشتد الحاجة إلى النفوس الكبيرة التي وعت وظيفتها في هذه الحياة، فلم تؤثر فيها رياح الفتن، و لم تنل منها نائبات الزمن، تماما كالأرض الطيبة مقاومة لتغيرات المناخ، منتجة بدون شروط، و معطاء بلا حدود، تنبت زرعا مختلفا أكله و ألوانه، ويطعم به الحيوان على اختلاف أنواعه، والإنسان بجميع أطيافه وأجناسه.
إن الأرض جماد، و الجماد لا يملك إلا نزرا يسيرا من الإحساس بله الإدراك٠ أما الإنسان فإنه ذلك المخلوق المُكرَّم الذي فضله الله تعالى على سائر المخلوقات، نفخ فيه من روحه الزكية، و حباه العقل الذّكي و المشاعر المرهفة و الإرادة العازمة٠
و القاعدة تقول أن المسؤولية على قدر الآلاء والنعم، فكلما زادت العطايا الإلهية لمخلوق ما، كلما اتسعت دائرة مسؤولياته الفردية والجماعية٠
و إذا تأملنا الأرض -مضرب هذا المثل القرآني- نجد أن لها عبادة خاصة فهي تسبح بحمد ربه، ( {تسبح له السموات السبع و الأرض و من فيهن.
و إن من شيء إلا يسبح بحمده.
و لكن لا تفقهون تسبيحهم.
إنه كان حليما غفورا}
)
، الآية 44 من سورة الإسراء، و إلى جانب ذلك، فهي تنهض بواجب إمداد الإنسان و خدمته ٠
والأولى و الأجدر أن يتناغم هذا المخلوق المكرم مع وظيفة الأرض في التسبيح بحمد الله و السجود له، و التخلق بصفات العطاء و البذل كالبلد الطيب٠
يقول سبحانه و تعالى ( {و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} ).خديجة رابعة
 


شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن