أرشيف المقالات

المجاهد الشهيد!

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 كنت في الريف ليلة نعى الناعي الزعيم أحمد ماهر باشا.
وكان من امتحان القدَر لصبري أن يروَّعني هذا النبأ الفاجع الفاجئ وأنا في وحدة من الناس ووحشة من الطبيعة، لا أرى ولا أسمع ولا أحس غير وكيف السحاب وزفيف الريح وشفيف البرد، فأقبع في الغرفة قبوع القنفذ، وأنشر فكري في معاني هذا الرزء الوطني الفادح، أسبر غوره، وأقصي أطرافه، فأشعر بثقله كله يهبظ نفسي ويصدع قواي، فأستكين للجزع وأستسلم للشجون! ويتمثل لعيني منظر الصريع المسجىَّ على فراشه الدامي، وحوله ابنته وزوجته وأخوته هلعين مشدوهين لا يكادون يصدقون أن هذا الجسد الهامد هو رجلهم الذي تركهم منذ هنيهة وقدرته فوق الأحداث، وهيبته طي القلوب، وذكره ملء الأسماع، وعمله حديث الألسنة، وأمله سعة الدنيا، فينفر عني النوم، ويطول علىَّ الليل، وتهون في نفسي الحياة! وفي الصباح الباكر من يوم الأحد كان القرويون يتناقلون النبأ العظيم، وعلى كل وجهٍ سهوم الحزن، وفي كل قلب لهيب الحسرة، كأنما وشجَت بهم جميعاً قرابة الفقيد، فمصابهم فيه واحد، وحزنهم عليه مشترك.
وتلك ظاهرة اجتماعية لم يسجلها مرصد التاريخ من قبل أحمد ماهر إلا سعد زغلول.
وتعليل هذه الظاهرة أبين من أن يُبين؛ فقد كان ماهر كما كان سعد زعيماً شعبياً تألق اسمه في سطور تاريخنا الحديث تألق النجم الهادي، وتردد ذكره في حوادثه الجَّلى تردد النشيد الحماسي على أفواه الجند، وكان له ولرفيقه في الجهاد وخليفته في الحكم - أطال الله عمره - من فضل التدبير والتنظيم والفعل، ما كان لرئيسهما الخالد من فضل التنبيه والتوجيه والقول.
ثم كان ظهور سعد للزعامة حين أبطرت الحرب الماضية نفوس الغالبين، فسطت قوة الغالب على حق الوطن، وسيطرت إرادة المحتل على رغبة الأمة، وتطامنت الرءوس فلا ترتفع، وانعقدت الألسن فلا تنطق، فتميز واشتهر بشجاعته وكفايته وبلاغته وقدرته.
وكان ظهور ماهر للزعامة حين أضلت الحرب الحاضرة عقول الحاكمين والمحكومين، ففسدت الأخلاق، وماتت الضمائر، وتحكمت الشهوات، وانتهكت الحرمات، وخست المطامع، فتميز واشتهر برجولته وصراحته ونزاهته وحريته. كلا الزعيمين كان رجل الساعة في وقته، وحديث الأماني لقومه؛ ذلك لدعوة الإيقاظ والثورة احتجاجاً على صلح كفر بالعدالة، وهذا لدعوة الإصلاح والوحدة والوحدة استعداداً لصلح يؤمن - كما يقولون - بالحق، ومن ثَم كان الحزن عليهما حزناً شعبياً أحسه القريب والبعيد، وأخلص فيه الخصيم والولي. والحق أن الحزن على الفقيد الشهيد قد غزا القلوب الغُلف والأكباد السود، فما ظنك بمن يعرفونه عن كثَب، أو يمتون إليه بسبب، أو يقرون بفضل؟ والإقرار بفضل أحمد ماهر قد بلغ حد الإجماع، إن لم يكن من جهة كفايته فمن جهة خلقه.
والخلق في الرجل السياسي هو المزية التي يجزي عما عداها، والثروة التي لا يبلغ العلم والمال والسلطان مداها.
وأخلاق أحمد ماهر كانت أخلاق الرجل الذي يعده القدر ليرفع أمته إلى الفوق ويدفعها إلى الأمام.
كان أكرم الله مثواه وبرد بالرحمة ثراه، مؤمناً بما يدعو، مخلصاً فيما يعمل، صريحاً فيما يقول، جريئاً على ما يُقدم، عفيفاً عما لا يحل.
وتاريخه كله مصداق لأصالة هذه الصفات النادرة فيه.
جاهد في استقلال بلاده حق جهاده، ففكر وقدر، ثم جهز ودبر، وترصدته العيون، وانفجرت من حوله المخاطر، وأشفى به الإقدام على هوة الموت، فما نكص ولا وهن ولا استكان، ولم يكن يومئذ للمجاهدين أمل في منصب، ولا رجاء في حكم. ورأَس مجلس النواب في حكومة الوفد فتجلت خلال الديمقراطية فيه: كان الوفد عنده أصغر الأحزاب حين ينتصف لغيره منه؛ وكان رئيس الحكومة عنده أضعف النواب حين يطبق (اللائحة) عليه، وكان الدستور قسطاسه المستقيم لا يصدر إلا عنه ولا يرجع إلا إليه. وتولى المعارضة حيناً من الدهر فكان عف اللسان عن الهُجر.
عف الضمير عن الفُجر، عف الفكر عن المغلطة، عف النفس عن الخديعة، يعالن بالمخالفة ويعتمد في إعلانها على الصدق والجد، ويصارح بالتهمة ويستعين على إثباتها بالحق والمنطق، وينفرد بالرأي ويجعل له من قوة إيمانه وثبات جنانه السندَ الذي لا يهي والدليل الذي لا يدفع.
ومواقفه في (المجلس) و (القصر) لا تزال عطر الأفواه والأندية، فلا حاجة إلى ذكرها. ثم رأس الحكومة، والخصومة الحزبية على أقبح ما تكون عنفاً وحدَّة، والأخلاق الاجتماعية على أسوأ ما تكون اعتلالاً وردَّة، والسياسة الدولية تتمخض عن أحداث جسام ستغير أوضاع الأرض وتبدل أنظمة الحياة، فساسها بالصراحة والسماحة والحرية والعدل، فمكن لكل ذي رأي أن يرى، ولكل صاحب قلم أن يكتب؛ ومهد لائتلاف القلوب واتحاد الكلمة بالمسامحة لاستلال ما في النفوس من سخيمة، وبالمشاورة لتهوين ما في المعارضة من خلاف، وأوشك أن يقول لنفسه: (عدلت فأمنت فنمت يا عمر)، لولا أن الخوارج لا يزالون أحياء، وأن أبا لؤلؤة لا يزال له في مصر أبناء! وهكذا تجري تصاريف القدر بما غُيب عن ابن آدم علمه، فذهب أحمد كما ذهب عمر صريع جنون أو فتنة.
ولو كان أحمد أو عمر أو سائر الأسماء العظمى علما على رجل لهان فيه الخطب وتيسر عنه العزاء، ففي كل ساعة من ساعات الليل والنهار تبتلع القبور ألوفاً من الأنفس فلا يُعقبون فراغاً ولا دهشة؛ إنما هو عَلم على ثروة ضخمة من الخلق والعلم والمواهب والتجارب عمل في تكوينها مع الطبيعة الحرة والزمان الطويل عوامل جمة وأحوال مختلفة، حتى أصبحت قوة في طاقة الإنسانية وقطعة من ثروة العالم.
ففقدها يحدث في سير الحياة من الخلل ما يحدثه فقد الضرسن الصغير في الدولاب الكبير.
ذلك الخلل هو الفراغ الذي يحسه الناس بموت العظيم.
وعلى مقدار العظمة يكون اتساع الفراغ.
وإن الفراغ الذي أحدثه في صف القادة مصرع أحمد ماهر فراغ مثله في نواحي الحياة المصرية أودى الزمن بشاغليه، ولم يستطع شَغله بأمثالهم، فاضطرب المسير وأبطأ التقدم. نحن فقراء إلى الرجال ذوي الخلق والكفاية، وليس لنا وا أسفاه في توفيرهم حيلة، لأنهم من صنع الله لا من صنع المدرسة، ومن أثر الأسرة لا من أثر البيئة.
وأمثال الأسرة الماهرية في الشرق قلية؛ أنجبت رجالا تميزوا على نظرائهم بأخلاق الرجولة.
شق كل واحد منهم طريقه إلى المجد بنفسه، ثم ساروا إلى غايتهم في طرق متوازية لا تتلاقى.
وعهدنا بالأسر الكبيرة إذا سما فرع من فروعها وغلظ تسلقه الآخرون كما يتسلق اللبلاب جذع النخلة.
هم يعملون للمجد أكثر مما يعملون للعيش، ويبذلون للناس أضعاف ما يبذلون للنفس؛ فهم في العظماء لا في الأغنياء، وفي معنى السماء لا في حقيقة الأرض! فما أجدر هذه الأسرة أن تُدرس لتكون لأسرنا قدوة! وما أخلق الشباب أن يتخذوا لهم من رجالها أسوة! وما أحق مصر أن تجزع جزع الثكلى على من يعز الصبر عليه ويستحيل العوص منه! احمد حسن الزيات

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير