أرشيف المقالات

ابن خلدون مؤرخ الحضارة العربية

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 للأستاذ عيسى محمود ناصر تتمة ما نشر في العدد الماضي الكلام على الفصلين الثالث والرابع يمكن أن يقسم كلام ابن خلدون فيهما أقساماً ثلاثة: الإقليم والبيئة الجغرافية والدين؛ فلقد تتبع المجتمع البدوي والحضري وحكومته على اختلاف ضروبها ووسائل الارتزاق ولم تعد أحكامه في سياسة الممالك الاستبدادية التي ذكرها في مقدمته مطردة في عصرنا هذا إذ أصبحت طريقة الحكم في هذا العصر دستورية مبنية على الحكم النيابي الذي يؤيده الدستور ويدعو إليه سواء أكانت جمهورية أم ملكية، على أن معدات الحروب وظواهر المدنية الحاضرة تختلف كثيراً عن حالتها السابقة ومن رأى ابن خلدون أن هناك ثلاث ظواهر مستقلة عن المجتمع تؤثر فيه باستمرار هي: الإقليم والبيئة والجغرافية والدين، وقد تأثر في نظرياته الجغرافية (ببطليموس) الجغرافي اليوناني، وبالإدريسي الجغرافي العربي، وهو في هذا يبين أن البيئة الجغرافية وسيلة إلى شرح الأقاليم المختلفة، وأن درجات الحرارة المختلفة تؤثر في أجسام الناس وأخلاقهم، ومن ثم في الحضارة؛ فسواد لون سكان الجنوب يرجع إلى شدة الحر حيث الشمس محرقة دائماً، وأما لون أهل الشمال فأبيض للسبب العكسي.
أما الأقاليم المعتدلة فأجسامهم أقوى وأوفر توازنا في حين أن أهل الأقاليم المنحرفة مجردون عن الحضارة، فهم همج لا يعرفون شريعة ولا حكومة ولا ديناً، وأخلاقهم في غاية التناقض، ولكنها بعيدة عن أن تكون مجتمعاً متحضراً.
ويعلمنا التأريخ أن الحضارة لم توجد قط إلا في البلاد المعتدلة، وأن درجة كمالها تختلف بقربها أو بعدها عن الإقليمين المنحرفين، ولهذا كان الإقليم الرابع الذي يشغل الوسط والذي يتمتع بحرارة معتدلة ينعم دائماً بضروب الحضارة، ففيه الحكومات والشرائع والأديان المنزلة والعلوم والفنون.
ويضع ابن خلدون في ذلك الإقليم المعتدل: الشام والعراق، فالشام مهد اليهودية والنصرانية، والعراق كان بها الحضارة الآشورية، ولكنه اعترضته صعوبة أن بلاد العرب مهد الإسلام، وموطن العربية - ليست من الأق المعتدلة، ولكن البحر يحوطها من ثلاث جهات فأثرت رطوبته في الهواء ولطفت من قيظها المفرط.
ثم قال: إن بأخلاق أهل الجنوب خفة وطيشاً، وإنهم لا يعرفون السكينة، ويقضون معظم حياتهم في اللهو والرقص؛ فالحرارة مخلخلة للهواء والبخار زائدة في كميته، وقد اتفق ابن خلدون و (منتسكيو) في أثر البرودة والحرارة في الأجسام، ولكننا لا نرى في هذا العصر أثر لمقاومة البرد والحر، وهناك برهان قاطع على أن نظرية الإقليم كما يشرحها (أرسطو) وأبن خلدون و (مونتسكيو) ليست معصومة من الزلل؛ فابن خلدون يرى أن سكان الشام والعراق هم أكثر الشعوب فوزاً بذلك الامتياز، و (مونتسكيو) يرى المثل الأعلى في أمم الشمال، و (أرسطو) يرى الشعب اليوناني هو الذي بعث ذلك التقدم إلى باقي الشعوب ثم تكلم ابن خلدون عن الروح البشرية والنبوة والكهانة، وهو لا يعتبر الدين من عوامل الحضارة، ولا يعلق على تأثيره فيها أهمية كبيرة، والواقع غير ذلك؛ فالمجتمعات تتأثر بالدين وله تأثير قوى في النفوس، والدين مادة غزيرة من الفلسفة والتقاليد والمعتقدات.
ولقد وفق ابن خلدون بين الفلسفة والدين كما وفق ابن رشد بينهما ويؤخذ على ابن خلدون في مقدمته إنحاؤه على العرب وقسوته في الحكم عليهم في كثير من سياسة الملك؛ فقد غمطهم حقهم، وشدد النكير عليهم، فنعي عليهم عجزهم عن التغلب إلا على البسائط ويقول: إنهم لا يتغلبون على قطر إلا أصابه الخراب المطلق، فهم يهدمون الصروح، ويغتصبون أملاك المغلوبين مستشهداً بتخريب إفريقية الشمالية في القرن الخامس، وأنهم يجهلون سياسة الملك.
والتأريخ وحده أقوم دليل على دحض هذه المفتريات.
ويبدو في كلامه هذا التحامل على العرب، وإنه لعربي حضرمي، ولكن ذلك راجع إلى العصبية المغربية؛ فأهل المغرب لهم عواطفهم وتقاليدهم، وهم قد خرجوا من سلطان العرب منذ القرن الثاني للهجرة. أما تحامله على العرب وعجزهم عن التغلب إلا على البسائط كسهول الشام والعراق ومصر وساحل إفريقية الشمالية فمردود بحوادث التاريخ فقد نسى ابن خلدون أو تناسى أنهم فتحوا فارس واستقروا هناك أكثر من قرنين، وأنهم فتحوا بلاد الأندلس، وأسسوا فيها حضارة وملكاً كبيراً استمر أكثر من ثمانية قرون أما تخريب إفريقية الشمالية في القرن الخامس فلم يكن إلا بأمر الخليفة الفاطمي.
ثم من هم العرب الذين فعلوا ذلك؟ إنهم بدو أعراب لم يتكلفوا تربية ولا نظاماً.
ولنا شاهد من تأسيس حضارة العرب في فارس والشام وأسبانيا وإفريقية.
ثم يقول: إن العرب ليسوا أهلاً لتأسيس الدولة إلا من طريق أثر ديني قوي، وإنهم يجهلون سياسة الملك مع أنهم قبضوا على ناحية الحكم في الدولة الإسلامية في العصور الوسطى والحديثة وكانوا أقدر وأعدل وأمهر؛ فقد هيئوا للشعوب المغلوبة أسباب التقدم العقلي المادي.
ويقول: إنهم يبالغون في احتقار العلوم والفنون مستنداً إلى أن معظم العلماء فرس وموال.
ولكن أيغيب عن ذهنه أن هؤلاء البدو فرضوا دينهم ولغتهم على دولتي الفرس والروم؟ اللهم إنها العصبية المغربية تغلبت عليه! ابن خلدون والنقد الحديث يصف الأوربيون ابن خلدون بأنه (مونتسكيو) العرب.
وقد ترجمت مقدمته ونظرياته إلى اللغات الحية.
وفي منتصف القرن التاسع عشر عني النقد الأوربي بابن خلدون ونظرياته الاجتماعية عناية خاصة، وكان أعجب ما في هذا الاستكشاف أن يظفر الغربيون في تراث هذا المفكر المسلم بكثير من النظريات الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية التي لم يطرقها البحث الغربي.
وقد ردد (مكيافللي) المؤرخ السياسي الإيطالي الذي ظهر بعد وفاة ابن خلدون بأكثر من قرن كثيراً من نظرياته وآرائه كما رددها (مونتسكيو) المشرع الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي و (آدم سميث) الفيلسوف الاقتصادي وغيرهم، ولأبن خلدون فضل السبق في هذه الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفلسفية والتاريخية. ويعتبر كتاب (الأمير) (مكيافللي) كمقدمة ابن خلدون.
على أن ابن خلدون أغزر مادة وأوسع أفقاً من (مكيافللي) ذلك لأن مؤرخنا اتخذ من المجتمع كله وما يعرض فيه من الظواهر مادة أساسية لدرسه معللاً لها على ضوء التأريخ.
أما (مكيافللي) فيدرس الدولة فقط أو يدرس أنواعاً معينة من التأريخ اليوناني أو الروماني القديم، أو التأريخ إيطاليا في عصره، أو يدرس شخصية الأمير أو الحاكم؛ وهذه الدراسة المحددة تقابل الفصل الثالث من مقدمة ابن خلدون وإن كان ابن خلدون يفوق (مكيافللي)، ويبتدع نظرية العصبية ونظرية أعمال الدولة وخواصها من الناحية الاجتماعية.
ويمتاز (مكيا فللي) من جهة أخرى بسلامة منطقه ودقة عرضه وتدليله وجمال أسلوبه؛ وهو في فلسفته هذه وصم آراءه ونظرياته بالصرامة والقسوة والخبث حتى كانت في عصرنا الحاضر مضرب المثل للسياسة الغادرة التي لا ضمير لها ولا وازع فتغاضت عن المثل العليا للإنسانية والخلقية؛ فالنفاق والشح، والضعة، والقسوة، والإرهاب، والختل، ونكث العهود، وإهدار الإخلاص، والصداقة، والأمانة، والدين والوفاء، كل أولئك تقوم عليه هذه السياسة (المكيافلليه) وهي عنوان السياسة العملية القوية الخاطفة التي نشاهدها في هذا العصر بين الأمم والأفراد وقد اعتبر ابن خلدون مؤرخاً لحضارة الدولة الإسلامية، فتحدث عن النظم السياسية وأنوع الحكم والخطط العامة، كالقضاء، والشرطة، والإدارة، وتطورها في الدول الإسلامية كما تحدث عن النظم الاقتصادية والتجارية والمكوس والضرائب، وعن المهن الحرة والحرف والصناعات، ووجوه الكسب والمعاش ثم عن العلوم والفنون والآداب وتطورها في العالم الإسلامي، وإنما عالج هذه المسائل اعتقاداً منه أنها صور لهذا العمران، ومراحل الحضارة مقياس لمراحل العمران وقد أثرت في آرائه العلمية مبادئ (أرسطو) و (أفلاطون) وبخاصة الجمهورية لأفلاطون كما أثرت في آرائه فلسفة فيثاغورس الأفلاطونية، وكما أثر فيها المسعودى أيما تأثير، وقد استطاع أن يقرر منذ خمسة قرون أصل السلطتين الروحية والزمنية كما يقررها أساتذة القانون السياسي والديني ويمكن أن توصف فلسفته بأنها يغلب عليها التشاؤم والتطير، ولكن تشاؤمه تشاؤم رجل مستسلم غير مكترث، فهو لا يحكم وإنما يشاهد، وهو بذلك يدلل على ذهنية علمية.
ويرى بعض المستشرقين أن مصدر هذا انحطاط الدولة الإسلامية وتأخر الحضارة في العصر الذي كتب فيه ابن خلدون مقدمته، وإلى الظروف السياسة التي تقلب فيها وعصفت به، وما أصابه في حياته في خويصة نفسه من ألم وخيبة أمل وقد أوضح أهمية المال وبعد أثره في قوى الدولة الداخلية، وذكر كيف يقضي سوء الإدارة المالية والإسراف دائما على الدولة بالفناء ومن رأيه أن تأسيس الدولة سابق على تأسيس هذه المدن، لأن الدولة وسيلة لتأسيس هذه المدن؛ فالقبيلة لا تستطيع ذلك قبل أن تتخذ شكل الدولة المنظمة تجتمع قوتها في الحكومة، فقد بنيت بغداد بأمر الخليفة المنصور، وبنيت الفسطاط والكوفة والبصرة بأمر الخليفة عمر بن الخطاب، وابتنى القائد جوهر مدينة القاهرة تنفيذاً لأمر المعز لدين الله الفاطمي، ولحماية المدينة من الغارات تحاط بالأسوار الطبيعية والصناعية، وتصان صحة السكان بجودة الهواء وغزارة الماء.
وقد بين أن العرب لم يحسنوا اختيار مواقع مدنهم لأنهم يعنون بالمراعى، وأنهم يجهلون بأن للهواء صفات يجب اعتبارها؛ لأنهم تعودوا حياة التجوال والانتقال؛ لذلك لم تكن المدن التي أسسها العرب في بدء الإسلام في العراق وأفريقية أهلاً للحضارة الثابتة، وأن تقاوم صروف الزمن، فقد زالت حينما سقطت دولها؛ ولكن هذا الرأي مردود بأن الكوفة والبصرة لا زالتا موجودتين في عهد ابن خلدون.
وعنده أن تقدم الحضارة يتوقف على مزايا الأرض ومزايا الحكومة وكثرة السكان، فمن الأرض تستخرج كل المواد الأولية، والحكومة يجب أن تكون قوية عادلة كريمة، وكذلك عمر الحضارة منوط بعمر الدولة لأن سقوطها يفضي إلى سقوط العاصمة، ومن ثم تصاب الحضارة بضربة شديدة؛ ولكن الحكومة الجديدة المتغلبة إذا كانت حازمة قوية استطاعت في الحال أن ترد إلى العاصمة كل رخائها، أما كثرة السكان فتخلق الحضارة، وكلما كثر السكان كثرت المدنية وازداد الغنى واتسع المجال لتحصيل ثمار الترف! ويرى ابن خلدون أن من أسباب ضعف الدولة انغماسها في الترف وضعف العصبية أو الحزب الذي أنشأها وما ينشأ عن هذا الضعف من مطالب بعض الجنود الأجانب الذين يتخذهم بعض الملوك لحمايتهم.
ولا شك أن لفيلسوفنا آراء ومذاهب ونظريات يؤيدها العلم الحديث والعرف، وما نراه في هذا العصر من قيام دولة وسقوط أخرى واختلاف الناس في مذاهب الحياة وفهم الأخلاق.
وقد عنيت أن أجلو أمام القارئ بعض هذه الآراء له فرصة الاستيعاب والتمحيص والموازنات الدقيقة.
والله ولي التوفيق عيسى محمود ناصر المدرس بمدرسة الفيوم الثانوية مصادر هذا المقال: 1 - فلسفة ابن خلدون الاجتماعية 2 - ابن خلدون مؤرخ الحضارة العربي 3 - ابن خلدون حياته وتراثه الفكري 4 - مقدمة ابن خلدون - ترجمة الكاتب بقلمه

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير