أرشيف المقالات

أحرقوا ظلال القرآن

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
ن البشر رجال تأنس إليهم إذا رأيتهم ، وتستريح لملامحهم بمجرد أن تقع عينك عليهم ، ألقى الله تعالى عليهم المحبة ؛ لما فيهم من بشاشة طبع ، وطلاقة وجه، وحسن خلق.
وهؤلاء الذين يطيب ذكرهم في الأرض ، ويضع الله لهم البركة والقبول .
بل إن من البشر من تحبه بأذنك ولو لم تره ، بل حتى لو استحال أن تراه لأنه ميّت من قرون وقرون ، كما قال تعالى عن نبيه موسى صلى الله عليه وسلم : ( وألقيت عليك محبة مني ) وكما صح عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم : [ إن الله إذا أحبّ عبدًا نادى جبريل : يا جبريل : إني أحب فلانًا فأحِبّه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادى جبريل في أهل السماء - الملائكة - إن الله يحب فلانًا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له الحب في الأرض ] فيتعلق أهل الأرض بسيرته ، ويترحمون عليه ، ويحبونه بظهر الغيب. ومَن مِن صحاح الفطرة مستقيمي العقل لا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا المبشرين بالجنة ولا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا البخاري وعبد الله بن المبارك ومالكًا والشافعي وابن تيمية وابن عبد السلام ؟ والكتب كالناس ، منها ما يصرف الله عنه القلوب ، فلا تميل إليه ، ولا تهتم به، ولا يصبر عليه إلا باحث مضطر ، أو قارئ قمّام لا يعتني بما يقرأ ، ولا يختار ما يدخل عقله. ومنها ما يضع الله تعالى له القبول في الأرض في الأرض ، ويُدخل حبه والرضا عنه إلى قلوب طلاب العلم وعامة الناس وخاصتهم ، فتراهم أحفياء بشراء هذا الكتاب، والاهتمام به ، يدفعهم إلى ذلك نداء قلبي خفي ، كأنما يساقون إلى الكتاب سوقًا .
وأي من العلماء أو طلاب العلم لا يحرص جهده على اقتناء الصحيحين والفتح والمغني ومجموع الفتاوى ورياض الصالحين وصحيح الجامع والسلسلة الصحيحة والطحاوية وفتح المجيد والإحياء - على ما فيه - والقرطبي وابن كثير وفقه السنة والحلال والحرام وغيرها من الكتب القديمة والحديثة ؟‍‍! ومن الكتب المباركة التي رأيت الناس يتخطفونها ، وتطبع منها الطبعة تلو الطبعة ، ويتعلم منها الجيل كتاب : في ظلال القرآن للعلامة سيد قطب عليه رحمات الله ورضوانه ، ذلك الكتاب الذي أشرع أبواب منهج تأمل النص القرآني بكثير من التذوق والشفافية والاستبصار الموفق ، والذي ألمح فيه طرحًا لكثير من الأفكار التي يعيش عليها مفكرون كبار ، يقتاتون منها ، ولا ينسبوها لصاحبها رحمه الله ، وإنما اجتزؤوها اجتزاءً وأضافوا عليها من البهارات ما غير شيئًا من ملامحها ، ثم قالوا إنها من اختراع أنفسهم .
وحين كنت طالباً في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - وكانت تجمع نحو مائة وخمسين جنسية من أرجاء العالم - رأيت الطلاب على اختلاف ألوانهم وميولهم يسألون عن الظلال ، ويحرصون على اقتنائه ، مع تنائي البلدان ، وعجمة الألسنة ، بركةً من الله تعالى ، وقبولاً من الناس . ولعل في ترحم عشاق الظلال وقرائه ضخّـًا في رصيد " السيد " يرفع الله تعالى به درجاته يوم القيامة .
أقول هذا مع علمي أن الشيخ عليه رحمات الله بشر يخطئ ويصيب - وصوابه أكثر بكثير - وأن على الكتاب مآخذ ، وفيه هنات ، ككل كتاب غير كتاب الله عز وجل ؛ بل إن في كتب التفسير السابقة وكتب التربية والتاريخ أشياء شديدة مستفظعة للوهلة الأولى ، إذا لم نتعلم إحسان الظن بها وكتب الله لها البركة والقبول . أقول هذا لأن بعض الناس يطالبون بإحراق الظلال ، ويُعدمون سيد قطب ميّتاً بعد أن أُعدِم حيّاً ، ويريدون أن يكونوا شركاء مالك خازن النار في إحراق الناس مع كتبهم ، والعياذ بالله رب العالمين . ولماذا ؟ لأن في الظلال تأويلا ، وما يوهم الحلول والتعطيل .
وأشهد بالله أن السيد - وإن تأول ككثير غيره من جلة العلماء - ليس حلوليًا ولا معطلا ، بل إنه عالم موفق ومفسر مبارك . ولذلك فإن كل من يسمع بشيء مما يثور حول السيد بين الحين والحين يأخذه العجب والاستياء ممن جعلوا همهم كله في هدم العلماء ، والوقوع في أعراضهم، ومصادرة جهادهم وسعيهم الطويل ؛ لا لشيء إلا لأنهم لم يفهموا كلمة ، وحتى لو أن الشيخ أخطأ . وليتهم يناقشون الشيخ ، أو يقرؤون كتبه كلها ، أو يفكرون بذلك ، فلربما أقلوا اللوم والعتاب . وبعيدًا عن الاستطراد والتلاوم أقول : إن من أسس منهج التلقي عند السلف : إن كل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك - غير رسول صلى الله عليه وسلم ـ لأنه يخطئ ويصيب ، فالعصبية للنفس أو الفكر بشكل مطلق ليست من العدل ، ولا من العقل ، ولا من صالح الدين . وإن من أسس التلقي عند السلف : الحكم على الأقوال لا على الرجال ، وعلى الألفاظ لا على النيات ، فأمر النيات موكول إلى الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى ، فرب قائل كلمة شديدة المعنى قبيحة المدلول ، يملك من حسن النية ما يشفع له عند الله تعالى ، كذلك الذي قال : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك ) وكالذين قالوا : ( اجعل لنا ذات أنواط ) وكالذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ( ما شاء الله وشئت ) فوقع التصحيح ، ولم يقع التلاوم والتكفير . وإن من أسس العمل عند السلف : أن نتأول كلام المسلم ، الذي قد يوهم ما لا يجوز ، ونحمله محامل حسنة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ، هروبًا من تكفير المسلم ، أو إباحة دمه ، أو تعريضه لما يمكن ألا يكون قد قصده .
والخطأ في العفو خيرٌ - ألف مرة ـ من الخطأ في العقوبة وإلا كانت هناك فرصة شيطانية لعرض أمة محمد كلها على النطع والسيف ؛ لأنه لا معصوم منها بعد النبي صلى الله عليه وسلم وإن المناصحة والمناقشة والتحاور ضرورية لتطهير النفوس ، وإزالة الشبهات، فأنت مع أخيك المسلم إما أن تصحح له أو يصحح لك .
أما أن يرى أحدهم نفسه صوابًا مطلقًا ويرى الآخرين جهلاً وخروجًا وانحرافًا مطلقًا ، فهذا منهج تكفيري نعوذ بالله من شره وإن تقنّع بأقنعة الإلتزام ، والغيرة ، والاتباع . وإن منهج اجتزاء سطور أو كلمات موهمة من سياق عام - في كتاب أو في خطبة ـ للحكم على شخص من الأشخاص ـ دون تأمل منهجه كاملا ـ يوقع حتماً في التكفير والظلم .
وهذا من أشنع ما يؤول إليه أمر الأمة ، وهو الذي جرّ عليها في السنين العشرين الأخيرة من الويلات والبلايا ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، مما تقر به عيون أهل الحق ، السالكين على الصراط المستقيم .
وإننا لو أعملنا هذا المنهج ، وشهرنا سيوف التكفير ، وعدنا للكتب القديمة لم نعدم ألفاظًا أو جملاً في كتب علماء كبار كابن حجر والعيني والنووي والذهبي والسيوطي وابن العماد وغيرهم ، هي أشد كثيرًا مما قاله سيد قطب ، فهل نكفرهم؟ إنها - إذن - لإحدى الكبر . لقد أسرتني كثيرًا كلمة كتبها الرجل الموفق د.
أبو بكر زيد عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية مدافعًا عن الشيخ سيد قطب رحمه الله قال فيها : " اعتبر ـ رعاك الله ـ حاله بحال أسلاف مضوا ، أمثال أبي إسماعيل الهروي والجيلاني ، كيف دافع شيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى عنهما مع ما لديهما من الطوام ؛ لأن الأصل في مسلكهما نصرة الإسلام والسنة ، وانظر منازل السائرين للهروي ـ رحمه الله تعالى ـ تر عجائب لا يمكن قبولها ، ومع ذلك فابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ يعتذر عنه أشد الاعتذار ، ولا يجرمه فيها ، وذلك في شرحه : " مدارج السالكين " مع الفارق الكبير بين منهج " السيد " ومنهج الهروي والجيلاني . سرتني هذه الكلمات بقدر ما آذتني كلمات أخرى تصف الرجل ـ رحمه الله ـ بالكفر والمروق والضلال ، والقول بوحدة الوجود وخلق القرآن ، وغير ذلك من السخافات التي لا يقوم عليها دليل ، ولا يؤيدها برهان .
صونوا أعراض العلماء ، وانشغلوا بأدوائكم ، فو الله إن الزاد لقليل ، وإن السفر لطويل ، " وإن عليكم لحاسبين * كراماً كاتبين " . ألا هل بلغت ..
اللهم ف

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير