أرشيف المقالات

تحريم الغناء

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
تحريم الغناء

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
 
وبعد:
قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [لقمان: 6].
 
صح عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - أنهما فسرا ﴿ لَهْوَ الْحَدِيثِ ﴾ بالغناء، وحلف ابن مسعود ثلاث مرات، فقال: "والله الذي لا إله إلا هو ﴿ لَهْوَ الْحَدِيثِ ﴾ هو الغناء"[1].
 
وقال أيضًا: "الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع"[2].
 
قال ابن القيم - رحمه الله - معلقًا على تفسير ابن مسعود وغيره للآية السابقة بأن المراد بها الغناء:
فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم فهم أعلم الأمة بمراد الله عز وجل من كتابه فعليهم نزل وهم أول من خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول - صلى الله عليه وسلم - علمًا وعملًا، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل[3].
 
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر[4] والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم[5] يروح عليهم بسارحة[6] لهم، يأتيهم - يعني: الفقير - لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فيبيتهم الله[7] ليلًا، ويضع العلم[8] عليهم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة"[9].
 
فهذا الحديث يخبر عن أمر عظيم، وهو إهلاك بعض الأمة بأنواع من الهلاك، بسبب ما يرتكبون من الأمور ظاهرة التحريم، ومنها استحلالهم لآلات الملاهي المحرمة شرعًا، وهي في وقتنا المعاصر مثل: الكمنجا، والعود، والطبل، والبيانو، والربابة، والمزمار، وغيرها من المعازف، ودلالة الحديث على التحريم من وجهين:
الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: "يستحلونها" أي يصيرونها حلالًا بعد حرمتها، ففيه التصريح بأن المذكورات في الحديث محرمة، ومنها المعازف.
 
الثاني: قرن المعازف مع الشيء المقطوع بحرمته بإجماع المسلمين، وهو الزنا وشرب الخمر، ولبس الحرير، وهو دليل على حرمتها.
 
روى الترمذي في سننه من حديث عمران بن حصين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل من المسلمين: "في هذه الأمة قذف وخسف ومسخ" فقال رجل من المسلمين: متى ذاك يا رسول الله؟ قال: "إذا ظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور"[10].
 
قال ابن القيم - رحمه الله -:
"وقد توعد الله سبحانه مستحلي المعازف بأن يخسف الله بهم الأرض، ويمسخهم قردة وخنازير، وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال، فلكل واحد قسط في الذم والوعيد".
اهـ[11].
 
قال الشاعر:

فهذا الحقُّ ليس به خفاء
فدعني عن بنيَّات الطَّريق

 
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ما خلاصته:
"وإنما ذلك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة، فإنهم لو استحلوها مع اعتقاد أن الرسول حرمها كانوا كفارًا، ولم يكونوا من أمته"[12].
اهـ.
 
وقد اتفق الأئمة الأربعة على تحريم المعازف، ولو أتلفها متلف عندهم لم يضمن صورة التالف، بل يحرم عندهم اتخاذها.
ولما سئل الإمام مالك عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ قال: إنما يفعله عندنا الفساق[13].
 
ولما سئل الإمام أحمد - رحمه الله - عنه قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب"[14].
 
وأما مذهب أبي حنيفة، فهو من أشد المذاهب، فقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقصب، وصرحوا بأنه معصية، يوجب الفسق وترد به الشهادة[15].
 
وقد انتشر الغناء وللأسف في مجتمعنا، فالأغاني في التلفاز والقنوات الفضائية والمسجل والراديو، وغيرها من آلات اللهو.
 
قال يزيد بن الوليد:
"إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل المسكر، وقال: فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنا، أو رقية الزنا"[16].
 
قال ابن القيم - رحمه الله -:
"ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب، ومن طرَّق أهله إلى سماع رقية الزنا فهو أعلم بالإثم الذي يستحقه، ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استعصت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذ تعطي الليان، فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حر أصبح به عبدًا للصبيان أو الصبايا، وكم من غيور تبدل به اسمًا قبيحًا بين البرايا، وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلت به أنواع من البلايا، وكم جرع من غصة، وأزال من نعمة، وجلب من نقمة، وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة، وغموم متوقعة، وهموم مستقبلة؟!"[17].
 
قال ابن القيم - رحمه الله -:

فدع صاحب المزمار والدف والغنا
وما اختاره عن طاعة الله مذهبا

ودعه يعش في غيه وضلاله
على تاتِنَا يحيا ويبعث أشيبا

وفي تَنْتِنَا يوم المعاد نجاته
إلى الجنة الحمراء يدعى مقربا

سيعلم يوم العرض أي بضاعة
أضاع وعند الوزن ما خف أو ربا

ويعلم ما قد كان فيه حياته
إذا حصلت أعماله كلها هبا

 
ومما تقدم من الآيات الكريمات والأحاديث الشريفة، وأقوال أهل العلم، يتبين تحريم الغناء، وأنه من كبائر الذنوب، فيجب على المؤمن أن ينأى بنفسه عنه، فإنه لا يجتمع كلام الرحمن، ومزمار الشيطان في قلب امرئ أبدًا.
 
تنبيه:
انتشر في هذا الزمان ما يسميه أصحاب التسجيلات "الأناشيد الإسلامية"، قال الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله - في كتابه تحريم آلات اللهو، بعد أن ذكر الأدلة على تحريم الغناء: "ويتبين أنه لا يجوز التقرب إلى الله إلا بما شرع، فكيف يجوز التقرب إليه بما حرم، وأنه من أجل ذلك حرم العلماء الغناء الصوفي، واشتد إنكارهم على مستحله، فإذا استحضر القارئ في باله هذه الأصول القوية، تبين له بكل وضوح أنه لا فرق في الحكم بين الغناء الصوفي، والأناشيد الدينية، بل قد تكون في هذه آفة أخرى، وهي أنها قد تلحن على ألحان الأغاني الماجنة، وتوقع على القوانين الموسيقية الشرقية أو الغربية التي تطرب السامعين وترقصهم، وتخرجهم عن طورهم، فيكون المقصود هو اللحن والطرب، وليس النشيد بالذات، وهذه مخالفة جديدة، وهي التشبه بالكفار والمجان، وقد ينتج من وراء ذلك مخالفة أخرى، وهي التشبه بهم في إعراضهم عن القرآن، وهجرهم إياه، فيدخلون في عموم شكوى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قومه كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30][18].
 
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] تفسير ابن كثير (11/46) طبع وزارة الشؤون الإسلامية.

[2] إغاثة اللهفان (1/368).

[3] إغاثة اللهفان (1/359).

[4] الحر: أي الزنا.

[5] علم: أي جبل.

[6] بسارحة: أي ماشية لهم.

[7] فيبيتهم الله: أي يهلكهم ليلًا.

[8] ويضع العلم: أي يسقط الجبل عليهم.

[9] برقم (٥٥٩٠).

[10] برقم (٢٢١٢)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/242) برقم (١٨٠١).

[11] انظر: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1/283).

[12] إغاثة اللهفان (1/478).

[13] إغاثة اللهفان (1/344).

[14] المصدر السابق (1/348).

[15] إغاثة اللهفان (1/345).

[16] إغاثة اللهفان (1/365).

[17] إغاثة اللهفان من وساوس الشيطان (1/366-367).

[18] (ص ١٨١).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢