أرشيف المقالات

الوازع الديني من نبوة أو دعوة حق

مدة قراءة المادة : 50 دقائق .
2الوازع الديني
- من نبوة أو دعوة حق -
 
الوازع لغة هو الحابس وهو القاسم وهو المُلهِم وكلها تقضي إلى حصر التفكير والتدبير بالمصدر الديني فقط ويجمع العلماء أن من يحمل الوازع الديني أو من يحبسه الدين الذي جاء به نبي أو داع حق يقل إقباله على أمور الدنيا فيذهب التنافس ويقل الخلاف وينمو التعاون والتعاضد ويتسع مجال الكلمة، وبذلك يحصل الاستبصار في كل الأمور كما يقول ابن خلدون فتتخذ الوجهة ويتساوى المطلوب ويستميت المطالب وينتهي ذلك باتساع الاجتماع وعظمة المُلك.
 
والدراسات الميدانية التي أجريت على شرائح متعددة من الأطفال والشباب ومتوسطي الأعمار وبمجتمعات مختلفة ومتباينة أعطت هذه الدراسات نتائج فاقت 98 - 99% من العينات: محصلتها أن سلوك الفرد الديني يتمشى مع اتجاه العقلي نحو الدين وقبوله للقيم الدينية.
فكلما زاد إيمان الفرد الديني كلما زاد نشاطه الديني والعكس صحيح.
ويورد الدكتور عبد الرحمن عيسوي في كتابه المترجم (النمو الروحي والخلقي) دلالات من خلال التجارب الميدانية والدراسات الاجتماعية على شرائح مختلفة وبأعمال مبكرة ومتوسطة وبمشاركة علماء اجتماعيين ونفسانيين آخرين وفي دول مختلفة يؤكد القول على أن الدين لا تقتصر آثاره ووظائفه على مرحلة واحدة من مراحل العمر وإنما يشمل أثره كافة مراحل النمو الإنسان ويدل على أن القيم الدينية والسلوك الديني يؤثران بصورة أو بأخرى في كل جوانب حياة الفرد إلا أن تأثيرهما أكبر في حياة الفرد الانفعالية (خصوصاً) في مرحلة الطفولة والمراهقة حيث مراحل التكوين والصقل.
 
وقد أيد علماء آخرون بتجاربهم العديدة أن الكائن البشري يولد بحالة حيادية (حالة ساكنة) حيال الدين، بل أنه يمتلك الاستعدادات للتكيف والتي تجعل النمو ممكنا نحو التدين أو نحو معارضة الدين.
فالتعاليم الدينية إذا بدأت في فترات السنوات المبكرة من حياة الإنسان فإن اتجاهاته الدينية مع تقدم السن تصبح أقل تمركزا حول ذاته ويصبح وازعه الديني أكثر شمولا وهذا يعني عملية انتقال أو نمو خصوصيات نفسية واجتماعية من الدائرة الأنانية إلى غير الأنانية ومع تقدم السن والتحول تظهر القوى الرادعة من كونها قوى خارجية أي صادرة من الخارج،من الآباء والأمهات المدرسين وغيرهم من المؤثرات إلى أن تصبح قوى ذاتية داخلية هي ضمير أو وازع الإنسان ويتكون هذا الوازع عن طريق امتصاص قيم الآباء واكتسابها، لتصبح معايير الإنسان نفسه، إذا نستطيع أن نتوصل إلى وصف أشبه ما يكون بمركبة لها موضع للقيادة، فالمركبة هي مجموع الأخلاق التي تتكون منها المركبة أو هي المركبة ذاتها ومركز قيادتها أو توجيهها هو الوازع فإذا كان الوازع ديني فإن المركبة ستسير وتتكيف باتجاه هذا الوازع أو هذا الضمير أما إذا كانت طبيعته التي اكتسبها غير ذلك، فاتجاه سيره وحركته ستكون موافقة له تمام (ويؤكد علماء النفس على أن هذا الوازع وظيفته في الكائن البشري في المجال الخلقي حيث يوافق أو يرفض على بعض مظاهر السلوك وهو يشبه في وظائفه وتكوينه (الذات العليا) في نظر التحليل النفسي ويوصف بأنه نظام الفرد في قبول المبادئ الخلقية أو مبادئ السلوك ويوصف الوازع أو الضمير بأنه القاضي الداخلي أو الرقيب أو رجل الشرطة الذي يحاسب صاحبه على ارتكاب (الأخطاء والمعاصي) (جملة الأخلاق معاكسة لتوجيهات الذات العليا) مما يجعله يشعر (بالذنب أو بتأنيب الضمير أو الوازع) أي يجعله في ركاب من ليس عنده وازع ديني (أي وازع آخر غير ديني).
 
سمات الوازع الديني:
من المهم جداً أن نتذكر أن أهم سمة للوازع الديني وتكاد تكون السمة الرئيسة أو السمة الوحيدة هي تطابق وتظافر السلوك للفرد البشري مع معتقده أو تفكيره العقلي أي الانقياد التام لجميع الأخلاقيات أو المكتسبات الباطنية لثنايا النفس لهذا الوازع، وهذه سمة أو خاصة حاضنة لكل من لديه وازع ديني بينما نلحظ وبشكل ميداني محسوس أن من ليس لديه وازع ديني (أي وازع مفتعل آخر) أن سمة التطابق غير مكتملة أو غير موجودة نسبية أو كاملة وقد أيد صحة هذا القول أو هذه السمة‘ وقوع أغلب المدارس أو النظريات التي تعتمد على جانب واحد في تحليل سلوكيات الفرد البشري في الخطأ والفشل فمثلاً: (يعاب على المدرسة التي تعتمد على التحليل النفسي التي تعتمد على المظاهر السلوكية الصرفة في تفسير شخصية الفرد ودوافعه واتجاهاته وعقائده (د.عبد الرحمن العيسوي) بينما المدارس الفكرية الدنيوية الأخرى التي تتبنى نظريات وتحليلات كثيرة ومتشعبة حيث اعتمدت على تنوع المكتسبات العلمية والفكرية كلا على حده أي تجزأت التحليلات تبعا لتفرع العلوم فهناك من ينتهج بعض المدارس السياسية يعبر أصحابها بسلوكيات فعلية مغايرة تماما لاتجاهاتهم العقلية فليس من الضروري أن يعتبر الفرد على اتجاهه العقلي في سلوكه الفعلي وعلى ذلك أمثلة كثيرة في حال كان وازعه غير ديني.
 

مصادر الوازع الديني:
في تجربة حسية على (عينة من الأطفال) أجريت عليها بشكل امتحان كتابي وسمح لفرصة غير مباشرة للغش للوصول إلى الحل ولم يعرف أي منهم أنهم كانوا تحت المراقبة، ثم بعد الانتهاء كشف لهم الأمر وأتضح كما بين ( د/عبد الرحمن عيسوي مترجم كتاب النمو الروحي والخلقي) أن حوالي 15% من الأطفال الذين استعمل آباؤهم المعاقبات البدنية كان لهم وازع أو ضمير قوي أو أكثر من 30% ممن لم ينالوا تلك المعاقبات كان لهم وازع أو ضمير قوي أيضاً.
 
وتبين من تلك التجربة وأمثالها من التجارب أن الشيء الهام لتكون الوازع أو الضمير يبدو أنه ليس في شدة العقاب ولكن في طبيعته وطريقة عرضه وتقديمه.
وقد بات من الواضح في محصلة تلك التجارب والدراسات أن الطفل يتأثر بقوة كبيرة عن طريق القيم الحقيقية للوالدين وهذه حقيقة مؤثرة حيث يكون التقليد هو الآلية الفاعلة.
 
حقيقة الوازع: في دين الإسلام: (مصادرالوازع في دين الاسلام)
قبل أن نبدأ بالحديث عن منابع الوازع في دين الاسلام أو في المجتمع الاسلامي أو في أمة الاسلام وكل هذه التسميات لا حرج لدينا إذا قلنا وبشكل مطلق أنها تعني وتعطي مفهوما ودليلا واحدا على اللفظ والمعنى والغاية قبل ذلك يعترضنا سؤال لا بد من طرحه أولا حتى لا يتشكل لدينا عقبة أو غموض أو ما يشبه المصادرة المسبقة للنتائج وهذا السؤال هو:
لماذا التركيز على الأطفال ومراحل النمو الأخرى في الأعمار من حياة الكائن البشري في معرفة مصادر الوازع الديني ومنابعه: وقد عرفنا بعضا من أوجه الجواب فيما ذكرنا من بعض الدراسات والتحاليل والتجارب التي قام بها علماء النفس وعلماء الاجتماع والتربويون وذوي الاختصاصات التي تهتم بهذا الجانب نعود ونذكر بعضا منها: يقول د.عبد الرحمن عيسوي في كتابه المترجم النمو الروحي والخلقي نقلاً عن(Ingleby.A.Towards maturity .Robert Hale.ltd londonP.37.1966) مايلي (وفي الطفولة المبكرة يكون سلوك الطفل ليس خلقيا أو لا أخلاقيا .ان حاجات الطفل الرضيع تشبه حاجات الحيوان،بمعنى أنها فيزيقية حسية ومباشرة فيحاول أن يحصل على الإشباع المباشر لحاجاته وان يتجنب الألم .وفي محاولاته لإشباع حاجاته يكون الطفل الصغير أنانيا متسلطا ومن خلال شعوره بالدفء والبرد والامتلاء والفراغ يحصل الطفل الصغير على الشعور بالخبرات الجيدة والخبرات الرديئة).
 
ويقول العالم بياجيه (Piaget) (عاش في جنيف وكان يعمل في علم النفس الخاص بالأطفال وصدر له أول مؤلف (1923) هناك نوعان من الأخلاق:النوع الذي يظهر مبكراً وهو ما يطلق عليه اصطلاح (الأخلاق الموضوعية).وهنا تكمن الصحة والخطأ في بعض مظاهر السلوك،ويمكن ادراكهما موضوعيا.
فالطفل الصغير يعتقد أن أي شخص يستطيع أن يدرك خطا أخذ أي شيء يخص الغير أو يخص شخصا آخر،وتبعا للرأي (بياجيه) فإن الأطفال في سن الثمانية سنوات يحكمون على أي سلوك تبعا لنتائجه بصرف النظر عن الدوافع أو النوايا التي تكمن وراء السلوك وبمرور الزمن يصبح الطفل قادرا على استيعاب الأفكار المجردة حول الخير والشر بوجه عام .
واعتقد (بياجيه) أن هناك انتقالا من الضبط الخارجي ومن الواقعية الخلقية إلى النسبية الخلقية .
حيث يصبح حكم الطفل الخلقي نسبيا وليس حرفيا.
يبدأ الطفل في تكوين فكرته عن الخطأ والصواب عن طريق اكتشافه أن إشباع حاجته في الحب والدفء لا يأتي إلا عن طريق إرضاء أمه،وعن طريق الحصول على موافقتها وهذا يضع الأسس الأولى نحو التعامل مع الناس .
فموافقته أو رفض الآباء تمثل الجذور الأولى للمعايير الخلقية.
 
ويقول عالمان آخران هما (هارتشون وماي) من نفس المصدر:
(وجد أن الأطفال من سن تسع سنوات يعملون للخير العام ويتعاونون فيما بينهم وتثيرهم دوافع الإحسان) وعلى الرغم من (الجنوح) يزداد انتشاره في مرحلة المراهقة إلا أن جذوره الأولى ترجع إلى الطفولة المبكرة ولا شك أن النمو الداخلي الخلقي عامل أساسي محدد في إزالة (السلوك الجانح).
وفي الطفولة المبكرة لا يدرك الطفل الصراع بين الأمانة والولاء للأصدقاء مثلا وكلما تقدم الطفل في السن كان أكثر وعيا وإدراكا لهذا الصراع، وكلما تقدم الطفل في سن أيضا كان أكثر قدرة على ادراك المطالب (الثقافية والتوقعات الاجتماعية).
 
وأما عن (تطور) الحكم الخلقي عند الطفل،فهي في مرحلة الطفولة المبكرة تخلو من وجهات نظر متعددة فالأشياء إما بيضاء أو سوداء، صواب أو خطأ وبالتدريج يتعلم أن (القواعد الاخلاقية)التي يضعها (الكبار) ليست مطلقة و بذلك يمكن (تعديلها)لكي تتناسب مع الظروف المحيطة بكل (موقف معين).
وفي المراحل المتقدمة تظهر المرونة في الأحكام الخلقية وعندئذ يدرك الطفل أن (القاعدة الخلقية) يجب أن تتعدل (طبقا للظروف) وانها تكمن في تنفيذ روح (القانون)أكثر من حرفية القانون (القواعد الأخلاقية التي تلقاها والمحيطة في بيئته).
 
هذه رؤيا بانورامية معبرة تمام التعبير عن كل مدارس العلوم التربوية التي أسستها المجتمعات في بدايات القرن العشرين وبدأت تعتمدها كمرتكزات للنهضة العلمية والثقافية وحتى السياسية في مناهج ما يسمى بالعالمين (الأول والثاني) مع الإلحاح الشديد على مؤشرات واضحة المعالم على بدء نشرها وفرضها على بقية مجتمعات العالم الاخرى بغض النظر عن كونها مجتمعات دينية أو لا دينية)
(العلمانية والعولمة).
 
ونعود الآن للحديث عن منابع الوازع الديني في المجتمعات الإسلامية ومرة أخرى يعاودنا ابن خلدون في مقدمته ويقول: (اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الحديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي يبني عليه ما يحصل بعده من الملكات.
وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات.
وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حلال ما يبنى عليه)
.
وقد دعم هذه النظرية العلمية القاضي أبو بكر بن العربي من وجهة نظر تربوية علمية ثانية قائلا:(ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول عمره، يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمر، غيره أهم عليه منه).واتبع يقول: (ثم ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه) ونهى ابن العربي مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم والنشاط.
لكن أهل الولد وهم أملك بالأحوال خشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم فيفوته تعلم القرآن آثروا تقديم دراسة القرآن إيثارا للتبرك ولأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم، فإذا تجاوز الصبي وانحل من ربقة القهر،فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة فتذهب به خلواً منه أو فارغاً منه)
.
 
والحقيقة التي لا مناص من تبيانها وذكرها ونشرها بكل دقائقها وتفاصيلها ولا يمكن لنا اغفال ولو جزء يسير منها هو تلك العلاقة التي تربط بين قانون الزوال أو التغيير وبين الوازع ومهما كانت صبغة الوازع سواء كان ديني ام غير ذلك وسواء طالت سرعة الزوال أم قصرت ومهما كانت اسبابه تغير او زوال ذاتي أم بالعنوة داخلي أو خارجي وهذه هي العلاقة التي ربطت بين المنزلتين اللتان استنبطناهما من سورة الأعراف ونحاول التعرف على ماهية هذه العلاقة.
 

منزلة التغير أو الزوال وعلاقتها بالوازع:

وكما قلنا فإن التغير أو الزوال هو سنة الله في عالم الحياة الدنيا وقد أثبتها وأقرها الإنسان المخلوق الخليفة في الحياة الدنيا على وجه الأرض وصنف هذا الإقرار تحت مصطلح ما يسمى بالقوانين الطبيعية أو العلمية الثابتة والتي لا نقص ولا دحض لها مهما أوتي هذا الإنسان أو مهما ادعى من قوة أو خيال ومهما أوتي من عظمة أو ملك أو سلطان.
ولكن الذي يمكن التحدث به أو الأمر الذي يعيشه الإنسان ويتفاعل معه ويعلو صوته وقوته فيه هو (الزمن) الذي يقضيه فيه (بالسلطان) وسواء طال زمن هذا السلطان أم قصر ومع تسليمنا المطلق كما أقررنا منذ البداية بأن الزمن هو منة من خالق الكون لخليفته الإنسان إلا أننا سوف نأتي ببعض آراء أو تفاسير هذا الإنسان لمعنى الزمن أو الحياة كوجه داعم لقصدنا.
 
فإذا سلمنا بمقولة (الناس على دين الملك) من حيث مقومات السلطان أو الملك الظاهرية فإن الوازع هنا يظهر للعيان جليا لا لبس في تحديده، وإذا كان وازع السلطان غير ديني فإن السلطان هنا وكما أشارت وتحدثت به كل أمثلة أحداث التاريخ يبرع في اتباع الأساليب وسن القوانين والأنظمة لتثبيت أركان السلطان وتقوية دعائمه وفي النهاية لبقاء سلطانه (أطول زمن ممكن) وسوف نسرد الأمثلة الكثيرة على ذلك قديمة وحديثة بائدة وحاضرة.
 
ومن أشهر الأمثلة على السلطان البائد والذي كان ينتهج وازعا غير ديني وهو الذي جاءت به حكايات شعوب ذلك السلطان المنحدرة منه منذ ذلك التاريخ أمثال الإمبراطوريات القديمة ذات الوازع الوثني، البيزنطية والرومانية القديمة والإغريقية والفارسية والفرعونية والتي حكمت الأرض لعصور طويلة تحت تصورات ومعتقدات (ثالوثية) وثنية كانت تعاليم السماء خلال ذلك غائبة كلية أو متغيبة حصرتها (كهنة ) تلك الامبراطوريات بالثالوث ذو الرأٍس الوثن أو (الإله) الموضوع من قبلهم والقاعدة التي عمادها القوة والعقل (العلم ) وكذلك من الأمثلة على الممالك أو السلطان البائدة من العصور القريبة والحديثة والذي نهج نفس النهج لتلك الإمبراطوريات هو ما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي حيث اتخذ ذات الثالوث ذو الرأس الوثني وقاعدة القوة والعقل وقد عمل جاهدا للاستمرار والبقاء والسيطرة بالسلطان بهذا الوازع لكن الزوال كان زمنه قصيرا وسريعا.
 
ولعل من الواجب توفر أوجه المقارنة الحقّة بين تسميات هذه الأمثلة وبين تسميات أمثلة آيات وكلمات الله عز وجل في القرآن العظيم أننا نذكر تسمياتها كما جاءت في بدايات سورة الأعراف قال تعالى ﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾ [الأعراف: 4] ﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 5] (ظالمين= مشركين) = يعبدون غير الله.
والحديث عن الممالك والسلطان التي أخذت بالوازع الديني يسلك عدة أوجه نستقي أمثلة عليها من حياة شعوبها المنحدرة منها ومن أمثلة آيات القرآن.
 
والتسميات التي تعارف عليها الناس في تاريخهم الذي وضعوه من دول وسلطان وممالك وإمبراطوريات وربما حتى الحديثة منها من اتحادات وجمهوريات وإمارات ومقاطعات جاءت التسميات في مفردات القرآن العظيم مغايرة تماما ويمكن حصرها على الشكل التالي:
1- تسميات إلهية صرفة لم يعتاد الناس على تداولها مثل القرون- والأقوام - الجبلة - القرى.
2- تسميات نسبت إما إلى أسماء الأنبياء والرسل مثل: هود صالح وشعيب وإسرائيل ويونس ولوط وآل عمران ويوسف ونوح - أصحاب الكهف وتسميات أطلقت للتدليل على الدعوة المضادة لدعوة الأنبياء.
 
وتوحي هذه المسميات على شكل الدولة وأنظمة السلطان القائمة مثل:عاد وثمود والذي حاج إبراهيم في ربه وأصحاب الفيل وفرعون ذي الأوتاد وغلبت الروم - والروم - وسبأ - بابل - يهود بني إسرائيل - أصحاب الجنة - دعوى الجاهلية - أصحاب السبت - عشيرتك الأقربين.
 
ونلاحظ هنا شدة زحمة وكثرة التسميات التي تبنت وازعا في السلطان غير الوازع الديني ومن كثرة التسميات والمسميات أيضا تولدت كثرة الأساليب في اتباع ذلك الوازع لكن المفارقة الجديرة بتبيانها هي تلك التي ذكرتها الآية الكريمة السابقة من سورة الأعراف:﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ...
[الأعراف: 4] ﴿ .....قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 5].
 
والقاسم المشترك 1 هو: سلطان القرية = دعواهم ..
كنا ظالمين.
والقاسم المشترك 2 هو: جاءها بأسنا = أهلكناها.
 
فالقاسم المشترك رقم1 هو الوازع والقاسم المشترك رقم 2 هو الزوال أو التغير والزمن الفاصل بين الحدثين هو زمن أو حياة ذلك السلطان في تلك الدول والممالك والإمبراطوريات والجمهوريات والاتحادات والإمارات.
وهذا الزمن ليس كما يبدو لنا من خلال هذا السياق زمنا مطاطيا يتحكم به بني البشر بحسب رغباتهم وتمنياتهم فهذا ليس من حكمة تكوين الكون فالزمن كما هو الزوال والوازع يخضع لمشيئة الخالق الأوحد وقد بين وأوضح طبيعته وشروطه في مفردات وكلمات آيات القرآن العظيم.
 
قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34].
وفي سورة الحجر ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ﴾ [الحجر: 2 - 4].
 
وقال تعالى في سورة الإسراء ﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾ [الإسراء: 58].
وقال تعالى في سورة يس ﴿ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴾ [يس: 44].
إذا ها هو الزمن أو السلطان في لغة الاجتماع محدد تمام التحديد له بداية كما له نهاية وليس كما يتوهم أو يحتسب أولئك الذين يقومون على شؤونه.
 
ومن طبيعته: كما بينته الآيات الكريمات أنه هبة من خالق الكون ومدبره وليس من خلق أو صنع الإنسان أبداً.
ومن شروطه: مناهضة العدل والمساواة وانتشار الظلم واتساع مساحة أشكاله وأساليبه وتنوع ممارسته.
ونستدل على اثنين من هذه الخصائص  من سورة آل عمران قال تعالى ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].
 
وأما السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا يهب المولى عز وجل الملك أو السلطان بزمن قد قدر وقد حمل بطياته حكم الزوال؟ ولماذا وكيف يسعى هذا الإنسان جاهدا لمد عمر سلطانه وقد نشر أمامه كتاب زواله؟ والجواب حتما هو الذي يعطينا اليقين البين على سر العلاقة بين الهبة والزوال وبين الوازع والزوال ونستدرك سؤالا آخر قبل أن نكمل الخوض في استكمال الدلائل والقرائن على مفردات العلاقة تلك وهو (هل كل الذين يمتلكون أو يعيشون السلطان يعرفون الزوال أو يعرفون أن لهم زوال هم بالغوه؟).
 
في البداية ذكرنا أن هناك سرا أودعه الله عز وجل في عبده الإنسان عندما خلقه، جعله سببا في اختلافه مع سائر مخلوقات الكون من مخلوقات الملأ الأعلى ومخلوقات الحياة الدنيا وهذا السر هو (التدبر والتبصر) وهاتين الكلمتين من مفردات كلمات الله في قرآنه العظيم تجئ دائما مرتبطتين بالمعنى والدلائل ولغة وشريعة ولا تنفصل إحداها عن الأخرى أبدا وإن جاءت الكلمة الأولى منفصلة فإنها تخل بكل المعاني والدلائل وبالتالي لا تحقق العلاقة بين الهبة والزوال وبين الوازع والزوال وإن جاءت الكلمة الثانية (التبصر) منفصلة وحيدة فإنها كذلك تخل في ماهية تلك العلاقة ويترتب على هذا الخلل جملة من الاختلافات في تثبيت وتحقيق ما سمي فيما ذكرناه سابقا بالقوانين الطبيعية التي اقرها الإنسان ذاته واعترف بديمويتها في الحياة الدنيا فالتدبر هو فعل الأمر عن فكر وروية والنظر في دبره وهو عاقبته وآخره والتبصر والبصيرة هو العلم بالأمر وبصرت بالشيء علمت به وهي مكملة للتدبر وليست مرادفة له وجاء قول الله عز وجل في سورة طه على لسان السامري ﴿ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴾ [طه: 96].
 
فهذا السامري قصته من قصة بني اسرائيل فقد عاش السلطانين سلطان فرعون وسلطان النبوة ورأى وازع النبوة والايمان ورأى ضدهما ومع هذا وذاك لنرى ما اصطفى منهما لنفسه: قال (بصرت) أي رأيت وعملت بمعنى أنه رأى الأثر وعلم ما يفعله ذلك الأثر فتدبر الأمر وقبض قبضه من ذلك الأثر وقبل ذلك كان قد من الله عليه وعلى القوم بسلطان النبوة وليس ذلك فحسب وإنما برؤية ومصاحبة النبي و(مساسه)،فكيف كان وازعه بعدما قبض قبضة من أثر الرسول وهذه اصطفاءة ما قبلها اصطفاءة قال ﴿ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴾ [طه: 96] أي اتجه به وازعه إلى واجهة مضادة لدعوة النبوة فعظم ذاته ولم ينكرها وأراد لها طريقا منافسا ومضادا.و ما أحسن التدبر في العاقبة فكان أن اصطفى لنفسه منزلة أسرعت بزواله قال له النبي ﴿ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ...
[طه: 97].وهذه دعوة نبي مؤيدة من مدبر الكون كله.
 
ومثال السامري: مثال كل إنسان على ظاهر الحياة الدنيا فهو خليفة الله ومثال التدبر والتبصر مثال كل خليفة يمن الله عليه بالسلطان ومثال أثر الرسول مثال كل مُلك أو إمارة أو ربوبية وقبضها يعني تدبرها وتدبرها يعني بما يصطفي لنفسه من وازع يكون أمر زواله.
وعلماء الاجتماع والتاريخ يحاولون بما استجمع لديهم من تدبر وتبصر في تداول الدول والأمم أن يضعوا عدة علامات على الوازع والزوال وعلى مدى ارتباط بعضهما ببعض وهناك فريقان من هؤلاء العلماء فريق يمتلك وازعا دينيا وفريق يمتلك وازعا غير ديني ولا ثالث لهما إطلاقا.
 
والفريق ذي الوازع الديني يشد بدرجة أو بأخرى على أن الزوال آت لا محال وسواء كان سريعا أم متأخرا وسواء كان عاصفا أم رحيما فبنعمة من الله وأنه أولا وأخيرا شهادة على حكم الله ورضائه وأن وازعه من دعوة حق أي أنه اصطفى وازعا يسير به إلى زوال موازيا لمشيئة الله ولا يعتبر زواله في الحياة الدنيا ذا أهمية بل أن الزوال الحقيقي هو زوال الحياة الدنيا باسرها أي بقيام الساعة.
 
وأما الفريق الثاني ذو الوازع غير الديني فإنه يذهب بعلامات الزوال مذهبا فلسفيا وجدليا مغايرا لصفات ومعايير الوازع غير الديني با لرغم من التطابق الباطني غير المعلن لهما ويبعد أو ينكر كل ما يقربه من التفسير الديني أملا منه في اثبات قدرة الإنسان في التحكم في السلطان والزوال كما أسلفنا.ولنتبصر في قول الله عز وجل وهو يلخص لنا هذه العلاقة في سورة البقرة ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].
 
وكذلك في سورة القصص قال: على لسان قارون ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [القصص: 78].
وقال تعالى في سورة الزخرف ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51].
﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [الزخرف: 54].
﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الزخرف: 55].
 
هذه أمثلة جاءت بها مفردات آيات الله في كتابه العظيم عن الفريق ذي الوازع غي الديني وكلا منهم يحاول جاهدا إعطاء اثباتات على أن الملك أو السلطان الذي بين يديه إنما جاء به عن علم من تفكيره وفطنته وقوة يديه وهو الذي يعطيه للناس أو يقصره عنهم أو يكثره أو يقلله وفي كل حالات الأمثلة هذه غابت عن أصحابها حالة واحدة فقط وهي ساعة الزوال وموعدها وكيفيتها وسبحانه وتعالى جعل الزوال هنا زوالا عقابيا ليس لصاحب الملك فقط وإنما للملك جميعاً بشر وحجر وشجر فأصبح أثرا بعد عين أو هشيما تذروه الرياح أو أملاكاً خاوية على عروشها أو صعيداً زلقاً.
 
ونأخذ مثلاً واحداً على الذي دعا ربه أن يأتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده قال تعالى في (سورة ص) على لسان سليمان عليه السلام ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [ص: 35].
ولنرى لماذا كل هذه الرغبة في الملك قال تعالى في سورة النمل على لسان سليمان كذلك ﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [النمل: 17] ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18] ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19].
 
فالذي نراه في المفارقة والمقارنة بين الفريقين أن كلاهما وهبا هبة هي في ظل ما عرفناه من القوانين الطبيعية أنهما زائلة أو بمعنى الإدراك الكوني لحياة الدنيا هما جزءان لا يتجزآن من الملك الكلى لله تعالى مالك الملك أي أنهما أمانتان ولا بد من مجئ الساعة لاسترداد أو لرجوع هذه الأمانة لمالكها أو لصاحبها فالذي يتردد في إرجاعها ويتململ ويتنكر لصاحبها فسوف تؤخذ منه عنوة وبالقوة أما الذي ينتظر تلك الساعة وقد أفنى سنين عمره خائفا قلقلا من ضياعها أو نقصانها أو حتى إصابة جزء منها بالضرر وهو في نفس الوقت فرح بقلبه واحاسيسه من لقاء صاحب الأمانة تلك ويتلهف لشكره وتفضله بالحفاظ على الأمانة وارجاعها زكية كاملة طاهرة كما استلمها أول مرة فهو موعود وعد الحق ولا بد من أن يرى الحق مرة أخرى كما عاش مع الأمانة عيشة حقا ولا لبس في ذلك .فكل من صاحَبَ الأنبياء والرسل ودعاة الحق والرجال الصالحون لمسوا ذلك لمسا حقا وعاشوه بكل جوارحهم ولم يغالط أحدا نفسه حتى في رؤياه بدجى الليالي الحالكة.
 
أما ابن خلدون فيأتي على زوال السلطان وبقائه من جهة نظر تأملية اجتماعية وهو يحافظ على العلاقة بين الوازع والزوال ويرجعه إلى أسباب يخاطب بها أهل الملك والسلطان وهو يرجعها بالنهاية إلى ذات الأسباب التي تشير إليها مفردات القرآن العظيم ولكنه لا يذكرها صريحة وإنما يلبسها ملبسا سياسيا ليبقى غير بعيد من أهل السلطان يقول في مقدمته:(أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها والسبب في ذلك أن الصبغة تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الإستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم وهم مستميتون عليه،وأهل الدولة التي هم طالبوها وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل وتخاذلهم لتقية الموت حاصل،فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعاجلهم الفناء بما فيهم من الترف والذل).
 
ثم يتابع (واعتَبِر من ذلك إذا حالت صبغة الدين،وفسدت، كيف ينتقض الأمر ويصير الغلب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدين،فتغلب الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزائدة القوة عليها الذين غَلَبَتهم بمضاعفة الدين لقوتها،ولو كانوا أكثر عصبية منها وأشد بداوة).
وأما المؤشر المباشر والمؤذن في خراب العمران فيذكره ابن خلدون قائلا: (اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم.
 
وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك .وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها وإن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته .والعمران ووفوره ونفاق اسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين .
فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتقضت الأحوال وابذعرَّ الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها،فخف ساكن القطر،وخلت دياره،وخربت أمصاره واختل باختلاله حال الدولة والسلطان،لما انها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة)
.
ويكمل ابن خلدون: (والمراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لا بد منه لما قدمناه، ووباله عائد على الدول.
 
ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من ذلك .
وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه.
فجباة الأموال بغير حقها ظلمة،والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة،والمانعون لحقوق الناس ظلمة.
وغصّاب الأملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله.
واعلم ان هذه هي الحكمة المقصودة للشارع من تحريم الظلم،وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري،وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة،من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الحظر فيه موجودة،فكان تحريمه مهما.
 
وينتهي ابن خلدون بالقول(إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه،لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان فبولغ في ذمه وتكرير الوعيد فيه هي ان يكون الوازع فيه للقادر عليه نفسه).
 
الوازع والفطرة:
ونصل هنا منعطفا مهما وحساسا عندما نحاول كشف الرؤيا عن تأثير الوازع الديني على الفطرة ومدى أهمية علاقة بعضهما ببعض ودورهما في تشكيل مرتكزات قاعدة الاصطفاء البشري ونذكر قول الله عز وجل في سورة الروم: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30].
فهذه الفطرة هي الأرض المستوية التي لا ارتفاعات ولا انخفاضات تشوب سطحها والتي لا يظهر في طريقها أي اعوجاج،خط واحد في اتجاه تسبيح الله وتوحيده تماما كباقي خلائق الكون كله والإنسان بفطرته هذه يقف بموازاة بقية الأنعام وغيرها من البهائم والحيوانات والطيور والدواب الأخرى السارحة الهائمة تبتغي وجه ربها وكذلك وقف على سوية مع الملائكة في الملأ الأعلى يسبحون بحمد ربهم ليل نهار ولا يستنكفون قال تعالى في سورة الإسراء ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44].
 
فالإنسان بفطرته هذه التي فطره الله عليها لو وضعناه تحت معايير معينة كما حاول كثير من علماء الإنسان الذين برعوا في وضع النظريات والتصورات وحاولوا تصوره في حالة لا ارتباط فيها ولا يخضع إلا لفطرته ونمى وعاش هكذا فكيف يكون شكل اجتماعياته وللحديث عن هذا الأمر هناك افتراضان لا ثالث لهما:
أولهما: رؤية الإنسان على قاعدة انسانيته.
ثانيهما: رؤية الإنسان على قاعدة الحيوان.
 
فلو أنهم تناولوا انسانية الإنسان لما كان لهم أن ينجرفوا أو يظللوا لكنهم أصروا واستكبروا فلنرى ما قالوا:
وكان البادئ فيهم في العصر الحديث هو (داروين) أو ما سمي فيما بعد بالنظرية الداروينية أو نظرية النشوء والارتقاء والتي الغت تماما الجانب الروحي وارجعت الإنسان إلى الأصول الحيوانية وأنه خضع لتأثير البيئة شيئا فشيئا أي أنه أخذ يتطور حتى وصل إلى ما وصل إليه من الشكل المعرف به حالياً وأغفل تدخل الله في خلق الانسان نهائيا.
 
وجاء من يكمل هذه النظرية بالقول:أن الطبيعة هي التي أوجدت اجتماعية الإنسان بقواها المادية أي أن وجود هذا الإنسان هو الذي أوجد شعوره المعروف به حاليا وليس شعوره الذي يعين وجوده، والأطوار التي مرت بها البشرية من أول الشيوعية الأولى،إلى طور الرق إلى طور الإقطاع إلى طور الرأسمالية،إلى طور الشيوعية الثانية أو الأخيرة إنما أوجدتها التغيرات التي طرأت على أساليب انتاج الإنسان وهي القيمة الحقيقية وليس الحق والعدل وهما من القيم الإنسانية التي لا أصالة لها أبدا في حياة الإنسان بل هما وهم مع سائر الأخلاق الأخرى والتقاليد والدين كذلك وهكذا كانت نظرية كارل ماركس في تفسيره لتاريخ الإنسان فلا دين ولا أخلاق ولا مشاعر ولا تقاليد كل شيء منبعث عن الكيان الحيواني للإنسان وطالما الأوضاع المادية في حتمية التطور فلا يمكن الإمساك بها على وضع معين ثابت والقيم تنبعث في كل طور من أطوار التطور المادي والاقتصادي للإنسان فهي متغيرة ولا ثبات في ذلك.
 
وأما فرويد فيصيغ نظريته من حيوانية الإنسان ويرسم تطور المجتمعات الإنسانية من جانب علم النفس واعتبر النفس البشرية هي الميدان الأصيل للحياة ومن تركيبتها تنبثق الأفعال والأفكار والمشاعر وتتحول الى وقائع عملية في واقع الإنسان وأن الحياة النفسية للإنسانية ليست حيوانية فحسب ولكنها تنبع كلها من جانب واحد من جوانب الحيوان ألا وهو الجنس المسيطر على كل أفعال الإنسان حيث يبدأ كما يصوره فرويد في بحثه العلمي في علم النفس يبدأ الجنس مبكرا جدا ثم يتطور بمرحلة الطفولة ثم المراهقة ثم إلى آخر مهلة تنعدم فيها القيم والأخلاق والدين على صعيد الحياة كلها.
 
والثالث من علماء الإنسان في العصر الحديث الذي استلهم من نظرية داروين الأصول الحيوانية للإنسان ومد بها إلى أوسع مدى حتى شمل الحياة كلها كما يقول عنه الأستاذ محمد قطب في كتابه التطور والثبات وهذا العالم هو (دركايم) وتحت ستار من البحث العلمي في علم الاجتماع أخذ عن داروين فكرة التطور الدائم والذي يلغي فكرة الثبات وأخذ عنه كذلك فكرة (القهر الخارجي) الذي يقهر الفرد على غير رغبة ذاتية منه فيطوره .ذلك أن هناك ضروب من السلوك والتفكير الاجتماعيين توجد خارج ضمائر الأفراد الذي يجبرون على الخضوع لها في كل لحظة من لحظات حياتهم وبمعنى أوسع هناك شعور اجتماعي يختلف عن شعور الأفراد وأن الحياة البشرية ذات الصفة الإجتماعية يمكن تفسيرها عن طريق وجود (العقل الجمعي) خارج نطاق الأفراد أي هناك تطور جماعي خارجي ضاغط على عناصر النفس المفردة ويقتحمها )
.
ويلخص محمد قطب ايحاءات هذه النظرية بالقول:(قد عنى دركايم في جولته الواسعة في علم الاجتماع عناية خاصة بقوله أن الدين ليس فطرة والزواج ليس فطرة والأخلاق ليست قيمة ذاتية ولا هي ثابتة على وضع معين .فإنما تأخذ صورتها من المجتمع الذي توجد فيه فإن (المجتمع )هو الأصل في كل الظواهر الإجتماعية وليس الإنسان).
 
وهذا الأخير وبالرغم من معاصرة هؤلاء الثلاثة بعضهم لبعض وبالرغم من عدم صعود أي منهم إلى سدة السلطان سوى نظرية كارل ماركس والتي قيض لها أن تمتلك زمام السلطان بواسطة قميص الاشتراكية التي بهرت أعين البسطاء من الناس ومن ثم فشلت فشلاً ذريعاً بعد انكشاف عجزها وتخلفها في تأمين وتحقيق الوعود التي زينتها سابقاً لهؤلاء البسطاء فقد استطاع هؤلاء الثلاثة وبواسطة الإعلام الذي امتلكوه أن يفعلوا فعلتهم في أغلب بلاد العالم من نشر الانحلال عن كل القيم وإهمال الأخلاق والمثل العليا وجعل مجتمعات كثيرة من شعوب أوربا وأمريكا وروسيا وبلاد أخرى يعيشون حياة الإنسان بفطرته الحيوانية ولكن الحسابات بدأت تطرح على الساحة الإنسانية من جديد وبأسلوب جديد وبجرأة لا مثيل لها في التاريخ وبدل مما كنا نرى ونعيش عدة نظريات وعدة منادين لها بدأ الأفق يلوح بنظرية واحدة وبمناد واحد ولكن بنفس المضمون وبنفس الرؤيا لكل من داروين وماركس وفرويد وبصيغة دركايم (العقل الجمعي أو القهر الخارجي).
 
إذا استفسرنا عن التفاصيل فهي باختصار شديد هي نظرية العولمة بمضمون الدستور العلماني و(برغيف ) منظمة الجات وبالرغبات الجنسية الحيوانية لفرويد وبالمشاركة المتساوية لكل شعوب العالم لاساليب الإنتاج على مبدأ ماركس وبالضغط التراكمي لمجتمعات الدول الصناعية عن طريق مجلس الأمن أومجموعة العشرين أو الثمانية، على مبدأ دركايم فأي اختيار من الاختيارات تلك سيقبلها الإنسان أو يرفضها حتى ولو صرخ بأعلى صوت له أن لي عادات وتقاليد وأخلاق خاصة فالأخلاق الجديدة للمجتمع الدولي أقوى أسرع وأفضل!! وحتى لو صرخ بأعلى صوت له أن لي فطرة أعيش وأقتات بثوبها البسيط! سيأتيه الجواب والرد بأسرع واقوى مما يظن وذلك عن طريق الأقمار الصناعية وبكل الأقنية الفضائية وبالأجهزة الذكية، أنت لا تصلح لهذا الزمان فاختصر وجهة حياتك بأسرع وقت ممكن قبل أن تمثل (متهما)!!؟.
 
وهذا هو الوازع الجديد الذي أدخل قسرا على فطرة الإنسان في نهاية القرن العشرين ومطلع الواحد والعشرين وازع لا يحمل من أخلاقيات الأديان وتعاليمها إلا أساليب مبتكرة للتحكم بالأفراد الذين لا تصل إليهم مؤشرات ودوافع هذا الوازع بسهولة ويسر، وهنا يحضرنا حديث شريف لنبي الخلائق أجمعين ولا بد من ذكره لأنه هو السند الوحيد في هذا المقال لإكمال فكرة الآية 30 من سورة الروم وهو قوله صلى الله عليه وسلم (ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
ويحمل معنى الفطرة هنا التسليم لله فقط أي أنها فطرة إسلامية،جاء في معجم المصباح المنير،(فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أي ينقلانه إلى دينهم،ثم أسند إلى الأبوين توبيخا لهما وتقبيحا عليهما فكأنه قال وإنما أبواه بإقامتهما على الشرك يجعلانه مشرك ويقهم من هذا أنه لو أقام أحدهما على الشرك وأسلم الآخر لا يكون مشركا بل مسلما وقد جعل البيهقي هذا معنى الحديث فقال: وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم الأولاد قبل أن يفصحوا بالكفر وقبل أن يختاروه لأنفسهم حكم الآباء فيما يتعلق بأحكام الدنيا،وأما حمله على الحقيقة فعلى ما بعد البلوغ لوجود الكفر من الأولاد)
.
ولكشف الستر أكثر عن ماهية الفطرة وعما تحمله من ملامح للبحث والتسليم هو ما جاء في سورة الأنعام آية (75-76-77-78-79) تصف كيف خرج ابراهيم عليه السلام بفطرته يبحث عن ربه الذي فطره بفطرة صافية سليمة قبل أن يغوص في شرك أبيه وقومه يبحث متلهفا عمن يلقنه الوازع الذي يحمله و يحميه إلى شاطئ الأمان والاستقرار ويحفظ به نفسه،إنه التدبر والتبصر الذي تميز بهما هذا الفتى عن سائر أفراد أسرته وقومه إنها فطرة تحمل في جبلتها السر الذي يتميز به صاحبها عن بقية الكائنات الأخرى،سر بعلن به الفرد انسانيته لا حيوانيته نعم إن الإنسان بفطرته السليمة الخالصة يسبح الله كباقي كائنات الدنيا وكائنات الملأ الأعلى ولكنه بالتدبر والتبصر المجبولان بفطرته يكون قد تميز بها تميزا حادا كذلك عن سائر الكائنات في الحياة الدنيا وكائنات الملأ الأعلى ويكون بذلك قد تميز عن المخلوقات الحيوانية التي ينعدم بها سر التدبر والتبصر خلقة وخليقة.
 
الفطرة والاصطفاء:
جاء في فاتحة سورة الأعراف قول الله عز وجل: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 3].
 
ونقرأ هنا مفردات الآية بأنها مخاطبة وأمر (اتبعوا) و(لا تتبعوا) .ولو تساءلنا من هم هؤلاء المخاطبون ومن هم المعنيون بالأمر؟ وباعتبار أن هؤلاء معروفون لدينا تاريخيا وهم أولئك الذين نزل هذا الأمر بين أظهرهم وهم الذين اتخذوا وازعا غير ديني (مشركين) و وازعا دينيا هم (أهل الكتاب) والفريقان ليسوا على الفطرة بل أن الوازع أخذ محله في سلوكهما والاختيار عندهما محسوم ومقضي فيه والخطاب والأمر حتما كان موجها إليهما ولا جدال في ذلك .ومحصلة هذا الكلام أن كلا الفريقين ليسا على الفطرة أبدا ومعنى هذا أن كلاً منهما قد اصطفى لنفسه وازعا نراه قد ضبط سلوكه وحسم كثيرا من جوانب حياته الاجتماعية والنفسية وحتى المادية ومن جهة أخرى فإنه لو كان هناك فريق ثالث نفترض أنه موجود أيضا ويعيش بحالة كما فطر عليها من يوم ولادته فإنه يعين أن الأمر والمخاطبة كذلك تكون موجهة إليه وطالما أن هذا الفريق ليس لديه وازع أهل الكتاب ولا وازع أهل الشرك فإن الأمر سيكون لديه حالة (ترقب) وهو الإتباع واصطفاء الوازع الأمثل والأقرب إلى فطرته وهو اتباع ما أنزل وليس اتباع الاشراك من دونه،ولنرى كل فريق من هؤلاء الثلاثة كلاً على حالته الراهنة:
أولاً:
فريق أهل الوازع الديني (أهل الكتاب):
ولديهم سابق معرفة بالأمر والاتباع ولكن لماذا هذا التكرار بالأمر بالاتباع مرة ثانية وثالثة؟ أليس التكرار يحدث دائما للتنبيه في الدرجة الأولى وللتأكيد بالدرجة الثانية وللإنذار بالدرجة الثالثة في حال وقوع مؤشرات على الاغفال أو الخطأ أو الانحراف! .
والآية الكريمة السابقة رقم 3 من سورة الأعراف إذا كان الأمر فيها كان موجها إليهم فإن طبيعة الحال التي كانوا عليها تحثهم باتباع ما انزل إليهم أي اتباع ما جاء بالتوراة في أول الأمر ومن ثم اتباع ما انزل إليهم من الإنجيل ثاني الأمر وثالثا اتباع ما انزل من القرآن، والأمر في الحالات الثلاثة واحد وهو توحيد الله واتباع أوامره ونواهيه وأن لا يتخذوا من دونه آلهة أخرى بمسميات متعددة ولكن وفي الحالات الثلاثة وفي نهاية زمان كل أمر تقول لهم نفس الآية ﴿ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 3] ونسيان الأمر هو عدم التذكر كليا أو قليلا وهم القلة القليلة من أهل الكتاب يظلون على عهدهم الأول محافظين مجددين بالاتباع.
ونلاحظ هنا خطا بيانيا مزدوجا يسير باتجاهين متضادين، أحدهما خط الفطرة والآخر خط الشرك وهما متلازمين باعتبار كونهما واقعان تحت مسمى وازع، فخط الفطرة يظل ملازما لها باصطفائه عبودية الأول والخط الثاني يتجه إلى الابتعاد عن الفطرة وبالتالي عن الله أي باتجاه الشرك به واصطفاء عبوديات أخرى من الأوامر والنواهي، وهنا لا بد من العودة إلى البدء أي إلى نزول أوامر جديدة بالاتباع والتذكر .وهنا نحب أن ننوه بأن هذا الخط المزدوج لا يظهر إلا عند أصحاب الوازع الديني سواء كانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم أو من أهل القرآن.
وأما اذا ظهر في السلوك بشكله الحاد، وان ظهوره هذا   هو ما يطلق على صاحبه (المنافق) وهذا اصطفاء بأخلاقيات وسلوكيات متعاكسة الاتجاه مع حالة الفطرة.
 
ثانياً:
فريق أهل الوازع غير الديني ( المشركين ):
وهؤلاء ليس لديهم سابق معرفة بالأمر والاتباع، ويقولون عن وازعهم هذا الذي يعتقدونه كما جاء في سورة البقرة ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 170].
 
فالوازع عندهم خط واحد وباتجاه واحد وسلوكيات أفراد هذا الفريق متوافقة تماما مع اعتقادهم،أي أنهم يعيشون في حالة اصطفاء لأخلاقيات متناقصة تماما مع أخلاقيات أصحاب فريق الوازع الديني وبصورة حادة مبتعدين ابتعادا كبيرا عن الفطرة وهناك مسافة أو هوة تفصل بين الاثنين،وبالمدلول الشرعي لهذه الحالة أن خاصية التدبر والتبصر منصرفة كليا عن الفطرة وأي محاولة تبذل لايقاظ هذه الخاصية سوف تصطدم بحواجز ليس من السهل تخطيها إلا مع مرور زمن ليس بقليل، وربما تصل هذه المحاولة إلى الفشل المتكرر وربما لاتكون هناك محاولات اطلاقا" وعن هذه المحاولة يقول الله عز وجل فيهم بسورة الروم ﴿ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [النمل: 81].
 
إن هذه المسافة أو الهوة يغمرها ظلام دامس وحالة عدم رؤيا تتكثف ما بين الفطرة وخاصية التدبر والتبصر،وهذا الظلام وعدم الرؤية في حقيقة الأمر هو الوازع بعينه المتراكم عبر السنين وربما أجيال وهو الذي يحول ما بين (المرء وقلبه) ومن هنا جاءت صعوبة وتعثر الهداية والإتباع ولعل من الجدير هنا أن نتساءل إذ كيف اهتدى كثير ممن كانوا يحسبون على هذا الفريق في بداية الدعوة إلى الإسلام والجواب ببساطة هو عدم اكتمال التراكم ما بين التدبر والتبصر من وإلى الفطرة والأمثلة على ذلك كثيرة.
 
ثالثاً:
فريق أهل الفطرة:
وهم الذين يحافظون على صفاء فطرتهم ولا يحاولوا تكديرها بشوائب أو شيء من أخلاقيات وازع أهل الشرك أو أي وازع آخر ولو ضربنا بعض الأمثلة نجد الكثير منها وعلى رأسها وأهمها عدم المشاركة بعبادة الأوثان أو السجود لها مثلاً أو تقديم القرابين أو الدخول في حروب أو مشاركات تؤدي إتباع سلوكيات تؤدي إلى ظلم الآخرين والتشرد والقسوة مع الضعفاء وصغار الناس ولا يقتصر ضرب الأمثلة على اصطفاء السلوكيات مع الآخرين بل يتجه الأمر إلى اصطفاء الأخلاق والسلوكيات التي تحافظ على كيان شخصية أو جبلة نفسه (فطرته) بحيث يبعدها عن كل ما هو متعب ومهلك كالمجون   التي تذهب بالحضور والعقول واللهو المفرط بمتاع الحياة الدنيا بل تتهيأ دائما" بمحاولة الدخول إلى قرارة ذاته (فطرته) وسبر أغوارها والاكثار من التفكير والتدبر في أمور الحياة الدنيا كلها.
 
والحديث بذكر صفات وخصائص وعلامات وسلوكيات أهل الفطرة طويل وطويل جدا لكننا نختصر ذلك بذكر بعض شواهدهم ولعل أهم ما نذكره هنا هو سيد أهل هذا الفريق هو الفتى ابراهيم عليه السلام حيث تدبر وأبصر وأيقن وباشر بفطرته بأول اختيار مادي علني وحطم الأوثان بيديه الغضتين أي باشر بحرب مصدر الوازع .
وثانيهما هو سيد الخلق النذير البشير محمد عليه الصلاة والسلام بتدبره في غار حراء ومحطم الأوثان بعدما ظهرت دعوته على الدنيا وهناك عدد لا بأس به ممن قادتهم فطرتهم السليمة إلى الابتعاد عما يفعله مشركو قريش قبل البعثة بل ولم يكتفوا بالابتعاد عنهم فقط بل ذهبوا إلى مناهضة سلوكياتها الوثنية واصطفاء أخلاقيات اعتنقوها (الحنيفية) قبل أن تتنزل آيات الله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وهذا دليل على عدم تراكم الوازع الوثني الشركي بالقدر الذي يحول بين الفطرة وحالة التدبر والتبصر وهنا في هذه الانعطافة نلاحظ قدرة الانسان على امتلاك ما يسمى دفة الحركة وتحديد الاتجاهات لعدة خصائص كامنة في قرارة فطرته وتنضوي هذه القدرة تحت ضابط التبصر الذي تتحكم به وبدورها عدة عوامل نفسية ومادية تحدد مكانة صاحبها اجتماعيا وماديا بكونه قريب من أهل السلطان والملك أو غيره ومثالاً ابتداء (اسلام حمزة) ومن ثم كما ذكر في السيرة أيضاً اسلام عمر وذلك كله يشكل في طبيعة الحال اركان الوازع ويحضرنا في هذا المقام كذلك عدة أمثلة مثالها (ملك الحبشة النجاشي) وامرأة فرعون ونلاحظ أمثال هؤلاء جميعا وأينما وجدوا ومهما اختلفت انتماءاتهم الاجتماعية والزمانية، نلاحظ سرعة استجابتهم لدعوة الانبياء ودعوات الحق بشكل عام ولا يغيب عن ذكرنا كثير من العلماء والباحثين في شتى الأزمنة والأصقاع الذين انتهى بهم المطاف إلى الهداية وقد كان بالسبر الدائم والمستمر لأغوار النفس.
 
هذا والله أعلم....

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣