أرشيف المقالات

مشروعية المداومة على الأعمال الصالحة

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2مشروعية المداومة على الأعمال الصالحة
 
أولًا: مشروعية المداومة على الأعمال الصالحة:
ثبت عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل".
متفق عليه[1].
 
وقال علقمة: سألت أم المؤمنين عائشة قلت: يا أم المؤمنين، كيف كان عمل النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ هل كان يخص شيئًا من الأيام؟ قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستطيع.
متفق عليه[2].
 
وقال مسروق: سألت عائشة - رضي الله عنها -: أي العمل كان أحب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: الدائم.
رواه البخاري[3].
 
وفي رواية له عن عروة عنها قالت: كان أحب العمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يداوم عليه صاحبه[4].
 
ولمسلم عنها قالت: وكان آل محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا عملوا عملًا أثبتوه[5].
 
ولمسلم عن القاسم بن محمد قال: وكانت عائشة - رضي الله عنها - إذا عملت العمل لزمته[6].
 
وهذا الحديث يدل على محبة الله تعالى للمداومة على الأعمال الصالحة، وهذا ما يدل على فضلها، إذ محبة الله تعالى للعمل دليل فضله، والمسلم يحب ما يحبه لله تعالى ويحرص عليه، لأن الواجب على كل مسلم أن تكون محبوباته موافقة لمحبوبات الله تعالى.
 
وليعلم المسلم أن من رحمة الله تعالى به أن يوفقه للأعمال الصالحة، ثم أن يوفقه للمداومة عليها، وهذه المداومة علامة على قبول العمل الصالح، وهي جزء من ثوابه، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ﴾ [الشورى: 23] أي: ومن يعمل حسنة نؤته أجرًا وثوابًا، قال بعض السلف كسعيد بن جبير وغيره: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن جزاء السيئة السيئة بعدها[7].
 
ولقد تعودنا في رمضان على أعمال كثيرة من البر فهل نتركها بعد رمضان؟ لا ينبغي هذا للمؤمن، فرمضان مدرسة ننطلق بعدها محافظين على ما تعلمناه فيه، لقد تعودنا على صلاة الفجر مع الجماعة في بيوت الله تعالى، ولا يجوز أن نتركها بعد رمضان، لقد تعودنا على قراءة القرآن يوميًا تعالى، فهل نهجره بعد رمضان فندخل فيمن اشتكى منهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنهم يهجرون القرآن الكريم؟ كلا، لا ينبغي لنا هجره بعد رمضان، بل ينبغي لنا أن نحافظ على قراءته دائمًا فإنه لا يختص برمضان، ولا يعجز أحدنا عن تخصيص دقيقة أو دقيقتين أو ثلاث يقرأ فيها شيئًا من القرآن الكريم، ولعلنا نضيع كثيرًا من أوقاتنا في قراءة ما لا ينفع، فهل يثقل علينا عدة دقائق نجعلها لزيادة إيماننا بقراءة كلام ربنا، فتطمئن به قلوبنا وتنشرح به صدورنا، ولقد تعودنا في رمضان على صلاة الليل وصلاة الوتر، فلا ينبغي أن ندعها بل ينبغي لنا أن نحافظ عليها دائمًا فإنها لا تختص برمضان فنصليها ولو ركعة أو ثلاث ركعات ولا نتركها، فإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، وهكذا جميع الأعمال من الصدقة والذكر وغيرهما.
 

ثانيًا: سر محبة الله تعالى للمداومة على الأعمال الصالحة
سر محبة الله تعالى للمداومة على الأعمال الصالحة تتلخص في أمور منها ما يلي:
أولًا: أن العمل الصالح يحبه الله تعالى، فلذلك يحب المداومة عليه، وفي الحديث القدسي أن الله تعالى قال: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" رواه البخاري[8].
 
ثانيًا: أن المداومة على العمل الصالح دليل الرغبة فيه ومحبته، وعدم كراهيته، وهذا مما يحبه الله تعالى، بخلاف تركه والتجافي عنه فهي مشعرة بالتكاسل عنه واستثقاله، كما أخبر الله تعالى عن المنافقين بقوله: ﴿ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54]، وقال عنهم: ﴿ إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142].
 
ثالثًا: أنه يشعر بقوة الإيمان وصدقه بحلاف الذي ينقطع عن العمل ويتركه، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن".
رواه أحمد وابن ماجه[9].
 
رابعًا: أن الأصل فيما أمر الله به أن يفعل على الدوام ويحافظ عليه، ففي المحافظة تطبيق للأوامر وعمل بالنصوص وتعظيم لها وتعظيم لشريعة الله، قال تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238]، وقال: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
 
خامسًا: في المداومة على العمل الصالح إغاظة للشيطان، لأن عدو الله تعالى يحب تثبيط المسلم عن العمل الصالح، فإذا رآه يداوم عليه ويستمر فيه كان ذلك سببًا لغيظه، فمن قطع العمل كان موافقًا لما يحبه إبليس، ومن داوم عليه كان موافقا لما يحبه الله تعالى ويغيظ الشيطان.
 

ثالثًا: أسباب المداومة على الأعمال الصالحة:
من أسباب المداومة على الأعمال الصالحة ما يلي:
أولًا: معرفة أن الله تعالى يحب العمل الصالح، فلا تتركه وإن كان قليلًا فإن الله تعالى يحب معنى المداومة على أصل العمل وإن قل، فالقليل من قيام الليل أحب إلى الله تعالى وهو أولى من تركه، والقليل من الصدقة أحب إلى الله تعالى وأولى من تركها، وهكذا.
 
ثانيًا: عدم الإثقال على النفس بالعمل بل يعمل الإنسان ما في قدرته، فإن الإثقال من أسباب الترك.
 
ثالثًا: محاسبة النفس ومراقبتها دائمًا، ولومها على ترك العمل الصالح، ثم معاودته والمحافظة عليه.
 
رابعًا: صحبة الصالحين، فبهم يقوى الإيمان، ويزداد التمسك بالأعمال الصالحة، وهذه الصحبة منها الواقعية، ومغها ما يكون عبر الكتب والأشرطة ونحوها التي تنقل أخبارهم وتذكر عباداتهم، فتنشط النفوس للاقتداء بهم.
 
خامسًا: إدراك فضل العمل الصالح، سواء أكان الفضل الخاص أو الفضل العام للطاعة والعبادة.
 
سادسًا: قوة العزيمة، مع التوكل على الله تعالى والالتجاء إليه، والإكثار من دعائه لطلب الإعانة والتوفيق، وليحرص على الدعاء الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - حيث قال له: "أوصيك يا معاذ: لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والنووي، وقال الحافظ: سنده قوي[10].
 
سابعًا: الاستشعار بأن المداومة على العمل الصالح طريق لحسن الخاتمة بإذن الله تعالى.



[1] رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل 5/2373 (6099)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره 1/541 (783)، وهذا لفظه.


[2] رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل 5/2373 (6101)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره 1/541 (783).


[3] رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل 5/2372 (6096).


[4] رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل 5/2373 (6097).


[5] رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره 1/540 (782).


[6] رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره 1/541 (783).


[7] تفسير ابن كثير (7/204)، والتحفة العراقية في الأعمال القلبية لابن تيمية ص6.


[8] جزء من حديث رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع 5/2384 (6137).


[9] رواه أحمد بن حنبل 5/276، وابن ماجه 1/101 (277)، والدارمي 1/174 (655)، وصححه ابن حبان 3/311 (1037)، وقال الحاكم في المستدرك على الصحيحين 1/221:صحيح على شرط اشليخين، وقال العقيلي في الضعفاء 4/168: إسناده ثابت عن ثوبان، وقال المنذري (الترغيب والترهيب 1/97): رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، وصححه الألباني في إرواء الغليل 2/135 (412) وصحيح الجامع (952).


[10] رواه أحمد 5/244، وأبوداود في أبواب قراءة القرآن وتحزيبه ونرنيله، باب في الاستغفار 2/86 (1522)، والنسائي 3/53 (1303) ولفظه فيها: "أن تقول في كل صلاة"، ورواه أيضًا في السنن الكبرى 6/32 (9937)، والبخاري في الأدب المفرد 1/239 (690)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين 1/407، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، وفي 3/307 وقال: صحيح الإسناد، وصححه ابن خزيمة 1/369 (751)، وابن حبان 5/364 (2020) وقال النووي (خلاصة الأحكام 1/468، ورياض الصالحين 1/88): إسناده صحيح، وقال الحافظ ابن حجر في البلوع (سبل السلام 1/200): سنده قوي.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن