أرشيف المقالات

عبر مستقاة من مدرسة الحياة

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
2عبر مستقاة من مدرسة الحياة

• يظنُّ بعض الناس أنهم قادرون أن يُمرِّروا على الآخرين ما يريدون تمريره من الحرام أو الشر، أو سوء الخلُق، أو أي أمر ضد الفضيلة، وقد ينجَحون في ذلك بنسبة معينة بالظلم المُعلَن تارة، أو بالغش والخديعة تارة أخرى.
 
فالإنسان مخلوق ضعيف، ولن نحتاج لكثير جهدٍ لنخدَعه ونُضلِّله ونشوِّش عليه، ولكن هؤلاء لن يستطيعوا مطلقًا أن يُمرِّروا أي شيء مهما كان صغيرًا على الله تعالى، ولن يستطيعوا خداع خالقهم، فالله تعالى أجلُّ وأعظم وأعلم؛ فهو يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.
 
ثم إنه من المخجِل ومن المعيب، بل مِن المُخزي أننا نقابل بالجحود والتمرُّد مَن خلقنا وأغدق علينا نعمه، فرعانا صغارًا، وأرشدنا كبارًا؛ وذلك بعصيان أوامره، واقتراف نواهيه.
 
الصحيح الذي ينبغي أن نكون عليه ويكون عليه الناس كافة هو أننا نبحث عن المواضع التي يحب أن يَرانا فيها الله تعالى، فنكون فيها، ونبحث عن المواضِع التي لا يحب الله تعالى أن يَرانا فيها فنبتعدَ عنها، ونَهرب منها فرارنا من الذئب، نفعل كل ذلك ونحن تَغمُرنا الفرحة، ونفعل ذلك بحبٍّ ورضا، فهو سبيل رضا الله تعالى.
 
• رأينا في حياتنا مَن سعى طوال حياته لجَمع المال، وكان (المال) هو الهدف الوحيد الذي وضعه على جدول أعماله، (وهذا ما يفعله معظم الناس اليوم وللأسف)، وتطلَّب ذلك منه التعب والسهر والجدَّ والمثابرة، وأحيانًا تطلب منه الكذب والخداع والخيانة والغش والتدليس، فجمع الثروة التي تمنَّاها قلبه وسعتْ لها جوارحه بعد أن بلغ من العمر عتيًّا، وقبل أن يهنأ بالمال يكتشف أن المرض العضال يداهمه، فيركض من أجل أن يشفى ويُعيد صحته إلى ما كانت عليه، حتى يستمتع بما جمع قبل أن يفوته الأوان، فيُنفق من المال ما جمع وزيادةً عليه، ولكن لا فائدة ولا رجاء في أن يشفى، فيَخسر صحَّته ويخسر المال.
 
• نلتقي في مشوار العمر بأناس كثيرين، ونستعجِل ونقول: فلان (صديقي)، ثم بعد فترة أكتشف أنه ليس بصديقي؛ ذلك أني لم أضع معيارًا للصداقة، أراعي فيها ما أريد أنا، وما يريد هو، فالتقينا بمن نظن أنهم أصدقاؤنا ولم يكونوا سوى (تجار علاقات)، ونحن بالنسبة لهم صفقة تجارية، ومنهم من لم نكن بالنسبة لهم سوى محطة استراحة يقضون معنا أوقاتًا جميلة متى ما احتاجوا لذلك، ومن الأصدقاء من لا يصادق الآخر إلا طامعًا في علاقة غير شرعية مع أخته، والأمثلة كثيرة لا تُعدُّ ولا تُحصى، والصديق الحقيقي من (صَدَقَني وليس من صَدَّقني)، والذي يصدُقني وهو من يسير بي بل ويجرُّني جرًّا إلى طريق الله تعالى.
 
قصص الغدر تملأ الدنيا؛ فالأصدقاء يشتكون لأن من صحبوهم قد خانوهم، وما حدث لم يكن بسبب ذلك الخائن المخطئ فحسب، فالمشتكي يتحمل جزءًا من السبب؛ إنه لم يكن صديقه يومًا ما، كان على الآخر أن ينتبه في طريق المسيرة إلى من يرافقه، فالخيانة لا تأتي مرة واحدة، إن لها الكثير من المقدمات، فمَن لم يَنتبه لها فلا يلومنَّ إلا نفسه.
 
الحل لكل المشاكل مع الأصدقاء وغيرهم هو في أن تكون تلك العلاقة لله تعالى، فإن كانت كذلك فلا تنظر كيف انتهت؟ وإلامَ آلت؟ فأنت لا تعلق نتائج ما فعلت على إنسان مثلك لا يملك لنفسه ولا لك ضرًّا ولا نفعًا، ولكن علِّقها بالله تعالى؛ فهو وليُّك، وهو المحيي والمميت وسيرضيك.
 
• لن يستطيع أحد أن يعرف حقيقة نفسه بمُجرَّد النظر إليها من الخارج، فالشكل نتحكَّم به بأيدينا، فطريقة تصفيف شعر رأسِنا، وطول لحيتنا، ونوع ملبسنا ولونه، نحن مَن نُقرِّره، ولكن علينا أن نمعن النظر إلى الداخل (القلب)، حتى نعرف أين نحن؟ عند تلك النظرة نكون قد رأينا أنفسنا بشكل واضح وغير مشوش، ثم ننطلق للتصحيح، فإذا صحَّحنا مسار قلبنا وربطناه بالله تعالى، سنَكتشِف أن مظهرنا الخارجي ارتبط بقلبنا من غير أن نشعر.
 
فذلك الشاب الذي يرفض أن يقصَّ شعره على طريقة (السبايكي) أو (المارينز)، فهذا قلبه مرتبط بالله تعالى، وتلك الفتاة التي تلبس لباسًا لا يوافق قيَمها وقيَمَ أهلها، بل لا يوافق كونها إنسانةً عاقلة، فهي تحمل قلبًا إن لم يكن مريضًا فهو قلب مشوَّش وملبَّس عليه.
 
الداعية الأمريكي يوسف أستس كان كاهنًا نصرانيًّا، أسلم عام 1991م، يقول هذا الرجل بعد أن نظَّف قلبه من كل خزعبِلات وأوساخ وشبهات العقائد الشركية، وقبل أن يُسْلم شعَر برغبه غريبة أنه يريد أن يضع جبهته على الأرض، ولما سجد لله سجدة تليق بالحالة التي هو فيها، دعا الله تعالى وهو في سجوده أن يهديَه إلى الحق، يقول: فلما رفعت رأسي وجدت أن العيب فيَّ أنا، ليس العيب في العالم، فلما سلَّم هذا الرجل قلبه لربه وتفرَّغ له، هداه الله - سبحانه وتعالى - إلى طريق الحق، لقد أسلم على يدَي يوسف أستس الآلاف من الناس، وهو إلى اليوم ومنذ 23 سنة يدعو إلى الله تعالى لا يكلُّ ولا يملُّ من ذلك.
 
وهكذا حالنا نحن، إن كنا صادقين ومخلصين في نيّاتنا في أن نكون مع الله تعالى، ونبحث بصدق عن طريق الهداية، فإن الله تعالى سيهدينا يقينًا.
 
• ليس أجمل وأثمن من العمل الصالح والفضيلة في الدنيا والآخرة، ولا يُمكننا أن نفعل هذه الأشياء إلا بفطرة سليمة، وروح نقيّة، فاعمل صالحًا بهذا المفهوم لوجه الله تعالى، ولا تنتظر المكافأة عليه، فسيأتي اليوم الذي تجده وتَقطف فيه ثمرة عملك الخالص لوجه الله حين تكون بأمسِّ الحاجة له، فقط لا تستعجِل.
 
نحن نحب الأشياء التي قضيناها في أيام الطفولة، ونتذكَّرها بحسرة، ونتمنَّى لو عادت، من منا لا يحبُّ أن يجلس على الأرض ويكسر الجوز؟
 
أشياء كثيرة نحن نحبها لأننا فعلناها يومًا ما، فإذا تمعنا جيدًا نجد أننا ربما لا نشتاق لتكسير الجوز بعينه، ولكننا نشتاق للأيام الجميلة التي كنا نفعل فيها تلك الأشياء، أيام كُنا على الفطرة فنتذكر كل الأفعال التي كنا نقوم بها ونراها جميلة.
 
إن التقدُّم العِلمي والتطور المتسارع الذي حصل في العالم، وتسارُع الزمن، وكثرة الحاجات الحياتية، وأمور أخرى كثيرة - تسبَّبت في تغيير سلبي في فطرتنا، فعلينا أن نصحِّح ونعود بها إلى ما كانت عليه يوم كنا صغارًا، فهل نستطيع ذلك؟

• إذا وجدت نفسك غريبًا، لا تشابه أكثر الناس في سلوكهم، وردود أفعالهم تجاه الأشياء، فاعلم أنك نسيب (الحق)، فهذا حاله، ليس له صديق إلا مَن رحمَ الله؛ يقول الشاعر:






لقد كنتُ في دربٍ ببغداد ماشيًا
وبغداد فيها للمُشاة دروبُ


فصادفت شيخًا قد حنى الدهرُ ظهره
له فوق مستنِّ الطريق دبيبُ


عليه ثيابٌ رثَّة، غير أنها
نِظاف فلم تدنَس لهن جيوبُ


تدلُّ غضون في وسيع جبينه
على أنه بين الشيوخ كئيبُ


يسير الهُوينى والجماهير خلفَه
يسبُّونه والشيخ ليس يجيبُ


له وقفة يقوى بها ثم شهقة
تكاد لها نفس الشَّفيقِ تَذوبُ


فساءلت: من هذا؟ فقال مجاوب:
هو الحق جاء اليوم فهْو غريبُ


فجئت إليه ناصرًا ومؤازِرًا
ودمعي لإشفاقي عليه صبيبُ


وقلت له: إنا غريبان هَهُنا
وكل غريب للغريب نسيبُ






 
فإن كان هذا حالَك، فاعلم أنك على خير، وإن الأوان لم يفتْك، وأنك في مندوحة من الوقت من أجل تقديم المزيد للنجاة والفوز.
 
• لا تترجَّل عن فرسك وأنت تجاهد من أجل الخير والفضيلة، لا تكل ولا تَمل ولا تتراجَع، فقد يخذلك الصديق، ويَحسدك القريب، ويكيد لك البعيد، فلا تقف حيث أنت، وتذكَّر رجالاً عظماء قبلك قدَّموا ما قدموا، تذكَّر أن أبا بكر رضي الله عنه انخلع من ماله مرات عديدة في حياته من أجل قضيته، وأن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم قدَّموا حياتهم من أجل ما يؤمنون به.
 
• أستغرب وأنا أرى الكثير ممن نعيش بين ظهرانيهم يَضعون أنفسهم في مقامات تجعلهم صغارًا، ويسعون في كل أمر صغير وحقير، فهذا شابٌّ ما مِن نعمة إلا وقد وهبها له الله تعالى، يدخن السيجارة من أجل أن يشعر أنه رجل، وهي تجعله صغيرًا وهو لا يعلم، وآخر يدخنها لأنها تُشعره بالراحة، وهي تهري بعض أحشائه، في حين ينبغي لكل منا أن يسعى ليكون كبيرًا عظيمًا، فتلك هي المكانة التي خلَقَنا الله تعالى لها.
 
وأن تكون عظيمًا يعني أن تقدم الكثير من أجل ما تؤمن به، وربما قدمت حياتك من أجله، فلقد كان نبي الله يوسف عليه السلام عظيمًا حين تخلى عن ما كان عليه من المكانة الرفيعة والعزِّ والجاه، مقابل ألا يتنازل عن مبادئه وثوابته، ورضي عليه السلام أن يلبث في السجن الذي كان يراه أحب إليه من اقتراف ما يُغضب الله - سبحانه وتعالى.
 
وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما عظيمًا حين رضي أن يتنازل عن حقه في الخلافة (الملك)؛ من أجل أن يَحقن دماء أبناء أمته الإسلامية التي ينتمي إليها، فلو لم يتنازل ورغب في القتال من أجل ذلك لكان محقًّا، ولوجد رضي الله عنه عشرات الآلاف من الجنود ممن سيُقاتلون معه، ولكنه ترك كل ذلك من أجل ما يؤمن به مِن حَقنِ الدماء.
 
ولقد كان صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - عظيمًا لأنه حقَّق حُلمين لأبناء أمّته وليس حلمًا واحدًا؛ فقد حقق لهم وَحدتهم وجمع كلمتهم على طاعة الله تعالى قبل أن يُحقِّقوا معه حلمهم الكبير في إعادة تحرير بيت المقدس من براثن الظلم والبدع.
 
• وأخيرًا وقبل فوات الأوان، اغْتَنِم الفرصة واستَثْمِر أشياءَ مهمَّة في حياتك، ولعلَّ أهمها ما جاء في الحديث الشريف، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابَكَ قبل هرمك، وصحتَكَ قبل سقمك، وغناءَك قبل فقرك، وفراغَك قبل شُغْلك، وحياتك قبل موتك))[1].
 
فقدِّم شيئًا في شبابك ما دمت قويًّا تتحمل الجهد والضغط، صلِّ ركعات في الثلث الأخير من الليل، أَطِل الركوع والسجود قبل أن يتصلب ظهرك فلا تستطيعها.
 
وما دمتَ صحيحًا - شفاك الله مِن الأمراض - فاغتنم هذه النعمة العظيمة التي حباك بها الله تعالى دون بقية البشر، وامشِ في طاعة الله تعالى؛ بل اركض في طاعته، ولعلَّ مِن أهمِّ الأعمال بعد توحيد الخالق برَّ الوالدين.
 
وإذا كنت ممن رزقهم الله تعالى المال ووسَّع عليك، فأنفق مما أغناك الله به، وليكن إنفاقك إنفاق الجواد وليس إنفاق المتردِّد الضنين بماله، أنفق يُنفَق عليك، واعلم أن الذي منحك هذا المال قادر على أن يُذهبه بلمح البصر كما حدث للكثير من الناس.
 
وإذا شعرت أنك تمتلك وقت فراغ، فإياك أن تطيع هوى نفسك، حين تخدعك باستثماره في المعاصي والشهوات والملذَّات، والجلوس أمام التلفزيون لمشاهدة ما يغضب الرب - تبارك وتعالى - فإن الفراغ من النعم التي أنت محسود عليها، فاستثمرها في طاعة الله.
 
• وقفت عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأحاديثه كلها ينبغي الوقوف عندها - فهو يقول: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمنَ خان))[2]، والحديث يتكلم عن النفاق الاجتماعي، والذي يرتبط ارتباطًا أخلاقيًّا وثيقًا بالنفاق العقائدي، الذي هو إظهار الإيمان وإضمار الكفر، ولكن حتى حديث النفاق الاجتماعي، فلو أخذنا الحديث في العلاقة مع الله تعالى وليس مع البشر، فسنتوصل إلى استنتاجات عظيمة.
 
فهل نحن صادقون في حديثنا مع الله تعالى، فحين نكرِّر يوميًّا قولنا: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، فهل نقولها بحجم معناها وقيمتها، أم أنها تخرج من أفواهنا فحسب، وحين نقول: "لا إله إلا الله" كلَّ يوم، فهل نقولها ونحن موقنون بها، عاملين بمقتضاها؟
 
وكم من وعد وعدناه لله تعالى بأن نفعل كذا، أو نترك كذا، ثم ما إن منحنا سبحانه النعماء وتفيَّأنا ظلالها، وذُقنا حلاوتها، نكثْنا تلك العهود التي قطعناها لخالقنا تعالى، فكم من العهود قطعها البشر لخالقهم ونكثوها! ولعلَّ أهمها ذلك العهد الوثيق، يوم أخذه منا خالقنا تعالى بقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172].
 
فالبشر جميعًا أقرُّوا يوم قدَّر الله تعالى أن يُخلقوا ولمَّا يولدوا بعْدُ بأن ربهم هو الله - سبحانه وتعالى - ولكن نكثوا ذلك الإقرار فأشركوا به تعالى.
 
والأمانة التي جعلها الله تعالى بين أيدينا - وهي أمانة الدين وتأليه الله تعالى، وأمانة الاستخلاف في الأرض - خانها البشر أيضًا، فحين رضي الإنسان بها كان ينبغي أن يعطيها حقها؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
 
وأخيرًا: إن الحياة دار امتحان، فمن ذاكر فيها جيدًا، وعمل صالحًا، فسينجح في الاختبار لاحقًا، ويفوز بأعلى الدرجات، وأما من اتخذها مغنمًا ولهوًا ولعبًا، فذلك هو الخسران المبين.



[1] "المستدرك على الصحيحين"؛ للحاكم، كتاب الرقاق.


[2] "صحيح البخاري"، كتاب الإيمان، باب: علامة المنافق.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن