أرشيف المقالات

التطفيف في الميزان

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2التطفيف في الميزان
قال الله تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [الأنعام: 152] (5)
ذلكم وصاكم به (الوصايا العشر)
 
لا أريدُ أن أتكلم عن موضوع التقليد للبضائع الجيدة، أو انتحال أسماء مشابهة لها، أو قريبة منها، لتغرير المشتري، كما لا أريد أن أذكرَ أسماء بعض الدول التي تعيش على صناعة تقليد المنتجات الشهيرة الموثوقة، فتلبس الأمرَ على كثير من المشهرين، وأذكر أنني كنت في بلدي عند أحد التُّجار، فأتى مندوب من دولة تشتهر بصناعة السمن والزبد، وقال للتاجر: أعطني عينة من سمن بلادكم - وهو من أجود أنواع السمن البلدي - لأصنع لكم مثلَه لونًا ورائحة وطَعمًا، فأعطاه عينة، فكان ذلك، وتهافت الناس البسطاء على هذا السمن ليشتروه؛ لرِخَصه بالنسبة للسمن البلدي، ولطعمه الخادع، هذا ولا أريد أن أبحثه الآن؛ لأنه يقع تحت باب الغش، وهو ليس موضوعنا، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من غشَّنا فليس منَّا)).
 
أما موضوعنا فهو حول الكَيل والميزان..
فقد دخلتْ بعض الحيل في الميزان من شركات خارجية، فعمِلت على محق هذه البركة بما احتالت في الشأن، وسأوضح ما حصل بالضبط:
مثال1: صناديق البرتقال؛ فقد كانت في بداية الأمر كبيرة، لا يقل ما فيها من البرتقال عن اثني عشر كيلو، ثم صغر حجمها قليلاً، بحيث لا تبدو للناظر أنها أصغر من سابقتها، فنقص بالطبع ما فيها من برتقال، فعلى فرض أنه لو كانت أبعاد الصندوق في المرة الأولى 30×30×30سم، لكانت سعته تساوي / 27000 سنتي متر مكعب، فلو أنقص من الأطوال سنتي مترين فقط، لأصبح الحجم 28×28×28= 21952 سنتي متر مكعب، وكان الفارق بين سعة الصندوق الأول والثاني 5048 سنتي متر مكعب، وإذا علمنا أن الليتر يساوي 1000 سنتي متر مكعب، لوجدنا أن الفارقَ لَيزيد عن خمسة ليترات، وهو فارق كبير بين الصندوقين، رغم أن الأبعادَ كانت متقاربة، والفارق بينها سنتي متران فقط.
 
ثم استمرَّ إنقاص أبعاد الصندوق حتى صغر، وكل مدة تصنع صناديق أصغر من سابقتها حتى استقرَّ الآن الوضع على صندوق لا يحوي أكثر من سبعة كيلو غرامات، وقُلْ مثل ذلك في البطاطا التي يجاوز وزن صندوقها الآن الخمسة كيلو جرامات.
 
مثال 2: مساحيق المنظفات، بدأت بعُلَب كبيرة، فيها خمسة كيلو غرامات، ثم أبقي على حجم العلبة، وأنقص الوزن إلى أربعة كيلو غرامات ونصف، وبقي السعر أو زاد قليلاً، وفي الحجم الصغير بدأ الوزن بأكثر من مائتي غرام، ثم أصبح أقلَّ من مائتي غرام، مع الإبقاء على حجم العُلبة.
 
مثال 3: في المعلبات، وليكن مثالنا صلصة الطماطم، بدأت العلب الصغيرة بـ مائة غرام، ثم أصبحت خمسة وثمانين، واستقرت الآن على سبعين، وكذلك بالنسبة للزيوت النباتية؛ حيث بدأت العبوة بسعة (جالون)، وهو أقل من أربعة ليترات، ثم أصبحت ثلاثة ليترات، ثم أصبحت 2.07 ليتر، والحجم في الظاهر متقارب، والسعر ارتفع عما كان.
 
لا أريد أن ضرب أمثلة أكثر، فلعلَّ من فعل هذا يبرر فعلته بأنه كان يكتُب الوزن على العلبة، وفي مثال البرتقال كان يُبقي على العدد نفسه.
 
أقول: ربما بقي العدد نفسُه، ولكن صغُر الحجم وقلَّ الوزن، وهنا يكمن الغرر والخداع، وكذلك في الأوزان على العلب الصغيرة، إنها كتبت ولكن بخط صغير جدًّا، ونحن نعلَمُ أن غالبية الناس في مجتمعِنا لا يفكرون حتى في النظر إلى ما كُتِب على العلب، ولا يُدقِّقون فيها، المهم عندهم وجودُ الصِّنف، وتوفُّر حاجتهم، ولو سألت كثيرًا منهم، كم وزن علبة كذا من منظف كذا، لَمَا عرف، علمًا بأنه يشتريه دومًا؛ فأمانة التاجر يجب أن تمنَعَه من استغلال هذا الوضع في مجتمعنا، فإذا بدأ بوزن معين ووثِق الناس بهذا الصنف، عليه أن يبقيَ على الوزن وإن قلَّ ربحه، فإذا حصلت زيادة كبيرة في الأسعار ولم يعُدْ بإمكانه إلا إنقاصُ الوزن أو رفعُ السعر، فعليه أن ينبهَ إلى الوزن إن اختار إنقاصه، إما بالإعلان، وإما بكتابة ملاحظة بشكل لافتٍ على العلب بأن وزن محتويات العلبة أصبح كذا، فيمتنع الغَرَرُ في هذه الحالة، أما أن يتسابق التجارُ في تقديم عروض أقلَّ على حساب المشتري - وهو لا يدري ما حدَث في وزن البضاعة - فهذا يُعَد من باب تطفيف الكيل والميزان، علمًا بأن البضائع رغم إنقاص وزنها، زاد أيضا سعرُها، لقد احتال بنو إسرائيل على صيدِ السمك في السبت الذي مُنِعوا من الصيد فيه، فحجزوا الأسماك في المياه بالشباك، ثم استخرَجوها في يوم الأحد، فعاقَبهم الله على هذا العمل، رغم أن ظاهرَه يوحي بأنهم صادُوها في غيرِ يوم السبت؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [البقرة: 65]؛ فالتاجر الصدوق مع ربه ومع الناس، له ثوابٌ كبير من الله تعالى؛ فعن أبي سعيد الخدريِّ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((التاجرُ الأمين الصدوقُ مع النَّبيين والصِّدِّيقين والشهداء))[1]، قال الترمذي: حديث حَسَن.
 
وعن رفاعة بن رافع قال: خرجتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلَّى، فرأى الناس يتبايعون فقال: ((يا معشر التجار))، فاستجابوا ورفَعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: ((إن التجارَ لَيُبعثون يوم القيامة فجَّارًا، إلا من اتقى اللهَ وبَرَّ وصدق))[2]، قال الترمذي: حسَن صحيح.
 
لذلك فعلى التاجرِ ألا يسلم تجارته والتصرفَ فيها إلى موظف تعلَّم الحيل التجارية، ولا يستمع له إن زيَّن له شيئًا من هذا بقصد زيادة الأرباح، وكان عمر يقول: (لا يبِعْ في سوقنا إلا من قد تفقَّه في الدين)[3]، حتى يخشى الله، ويعرف ما يجوز وما لا يجوز، وعن أبي هريرة أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: ((نهى عن بيع الغرر))[4]؛ رواه مسلم.
 
والغرر: أن يكون للشيء ظاهرٌ جيِّد يغري المشتري، ثم يكون له باطنٌ مختلف لا يعجب.
 
والمعنى: ألا يكون في البيع شيءٌ يخدع، أو خداع في البيع وأساليبه، وألا يكون فيه كِتمان عن شيء، أو محاولة الكتمان، أو اتِّخاذ أساليب خادعة تضلِّل المشتري، فلا ينتبه إلى التَّدقيق في سلامةِ السلعة، أو التعرُّف على مواصفتها.
 
وفي ختام هذا البحث: على من أراد العمل بالتجارة أن يتصرَّفَ فيها عن علمٍ ديني، ومعرفة بأحكام الشريعة، وألا يكون قدوته في ذلك قوانين غيرِ أهل الإسلام؛ لأنهم ابتدَعوا أمورًا في التعامل والتجارة لا يقرُّها الإسلام، فما وافق أخذناه، وما خالف صححناه.



[1] جامع الأصول 239.


[2] المصدر نفسه 240.


[3] نفسه 260.


[4] جامع الأصول 347.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير