أرشيف المقالات

حرمة أكل أموال الناس بالباطل، وبيان شيء من صوره

مدة قراءة المادة : 29 دقائق .
2حرمة أكل أموال الناس بالباطل، وبيان شيء من صوره
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:
فلقد "كان أكل المال بالباطل شنشنة معروفة لأهل الجاهلية، بل كان أكثر أحوالهم المالية؛ فإن اكتسابهم كان من الإغارة، ومن الميسر، ومن غصب القوي مال الضعيف، ومن أكل الأولياء أموال النساء واليتامى، ومن الغرر والمقامرة، ومن الربا ونحو ذلك، وكل ذلك من الباطل"[1].
 
ومن المعلوم أن "المال قوام الحياة المعيشية، وأساس تقدم الدول والجماعات؛ فبه تنهض الأمة، وهو المعوَّل عليه في الحرب والسلم، وبناء النهضات والحضارات؛ لذا صانه الإسلام، وجعل تحرُّكه وانتقاله بين الناس مرهونًا بالحق والعدل، فلا غشَّ ولا غبن، ولا ظلم ولا استغلال ولا اغتصاب، ولا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد إلا بإذنه ورضاه"[2].

ومن هنا - ولما كانت الأموال عزيزة عند أهلها - قال الله عز وجل: ﴿ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ * إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ ﴾ [محمد: 37]، فقوله عز وجل: ﴿ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ﴾، معناه: أي: "ولا يسألكم ربكم أموالكم" كما قال ابن جرير[3]؛ لأنه - عز وجل – لا يريد "أن يكلفكم ما يشق عليكم، ويعنتكم من أخذ أموالكم، وبقائكم بلا مال، أو ينقصكم نقصًا يضركم"[4]، فتأمل كيف حرص الشارع على حفظ الأموال وصيانتها؛ لأن الأموال تقوم بها - كما هو معلوم ومتقرر -: أمور الدين، وأمور الدنيا.


ولعل مما يؤكد حفظ الشارع للأموال وتحريمها، وعدم جواز أخذها إلا بطيب نفس صاحبها: ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب الناس يوم النحر، فقال: ((يا أيها الناس، أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، فأعادها مرارًا))[5].

يقول القرطبي: "وهذا منه صلى الله عليه وآله وسلم مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء، وإغياءٌ في التنفير عن الوقوع فيها؛ لأنَّهم كانوا قد اعتادوا فعلها، واعتقدوا حليتها، كما تقدَّم من بيان أحوالهم، وقبح أفعالهم"[6].

فاشتمل الحديث على جملة من المحرمات؛ وذكر منها النهي عن الأموال، والمراد منه بيان توكيد وغلظ تحريم الأموال.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وفيه -: ((...
كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه))[7].


وعن أبي حرة الرقاشي[8]، عن عمه[9] رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس))[10].


وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((...
بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟!))[11].

ولذلك يعد المال أحد تلك الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية بوجوب حمايتها ودرء المفاسد عنها، وما ذلك إلا لما في التفريط فيها من الفساد العظيم، والإثم الكبير، والشر المستطير، والخطر الأكيد، والعواقب الوخيمة، بل سعى الشارع إلى المحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها، وأعظمها وأنفعها، فمنع أخذه بغير حق شرعي، ووجه معتبر، فنرى - مثلاً - أن الله عز وجل قد نهانا أن نأكل أموال بعضنا بالباطل، وبدون وجه حق، فقال الله عز وجل: ﴿ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ﴾ [البقرة: 188].

وقوله عز وجل: ﴿ بِالْباطِلِ ﴾ في موضع نصب بـ﴿ تَأْكُلُوا ﴾؛ أي: لا تأخذوها بالسبب الباطل، ويجوز أن يكون حالاً من ﴿ أَمْوالَكُمْ ﴾ - أيضًا - وأن يكون حالاً من الفاعل في ﴿ تَأْكُلُوا ﴾ أي: مبطلين[12].

قال ابن العربي المالكي: "قوله تعالى ﴿ بِالْباطِلِ ﴾ يعني: بما لا يحل شرعًا ولا يفيد مقصودًا؛ لأن الشرع نهى عنه، ومنع منه، وحرم تعاطيه، والباطل: ما لا فائدة فيه، ففي المعقول: هو عبارة عن المعدوم، وفي المشروع: عبارة عما لا يفيد مقصودًا"[13].

ولقد أخذ العلماء من هذه الآية: حرمة أكل أموال الناس بالباطل مطلقًا؛ ولعله لذلك قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه في هذه الآية: "إنها لمحكَمة ما نسخت، ولا تنسخ إلى يوم القيامة"[14].

كما عد بعض العلماء هذه الآية الكريمة أصلاً من الأصول التي يقوم عليها إصلاح المعاملات، وأحد أهم الدعائم والمرتكزات التي يبنى عليها الاقتصاد، وما من شك أن تعاليم الإسلام المتقررة والمقررة في جميع أبواب العقود التجارية، بل وفي كتب المعاملات المالية تقوم على هذا المبدأ الإسلامي السامي، والذي أقول - والحق أقول -: إنه لا مثيل له، بل ولا يدانيه، ولا يقرب منه غيره مطلقًا.

قال ابن العربي المالكي: "وهذه الآية من قواعد المعاملات، وأساس المعاوضات ينبني عليها، وهي أربعة:
1) هذه الآية ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [البقرة: 188].

2) وقوله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275].

3) وأحاديث الغرر.

4) واعتبار المقاصد والمصالح"[15].

وهذا الخطاب من الله عز وجل في هذه الآية يعم - من جهة - جميع الأمة، وهو وإن كان كذلك إلا أن من المعلوم أن عناية الله عز وجل بالأموال شِرْعة قديمة، لم يخص بها جيلاً دون جيل، ولا رسالة دون رسالة، ولا أمة دون أخرى؛ ولذلك نرى أن الله عز وجل قد قصَّ علينا في كتابه الكريم أنَّه عز وجل قد عاقب بعض خلقه، ممن عتوا عن أمره، وكانوا يأكلون أموال الناس بالباطل، قال الله عز وجل: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ﴾ [النساء: 160، 161]، كما توعد الأحبار والرهبان الذين كانوا يأكلون أموال الناس بالباطل، فقال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [التوبة: 34].

كما يعم هذا الخطاب - من جهة أخرى - "جميع الأموال، لا يخرج عن ذلك إلا ما ورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه، فإنه مأخوذ بالحق لا بالباطل، ومأكول بالحل لا بالإثم"[16].

تنبيهان:
الأول: لقد ورد الأَكْل في النصوص الشرعية على بضعة أَوجه، وهذا منها هنا، والمراد بالأكل - هنا - مطلق الأخذ بغير وجه حق، وعبر عنه بالأكل - كما قال جماعة من أهل العلم والتفسير - لأن الأكل أهم وسائل الحياة، وفيه تصرف الأموال غالبًا؛ ولأن أظهر مظاهر الانتفاع بالمال الأكل، وهو أشد ما يطلب المال لأجله، فعبر عن الشيء بأهم مسبباته، وذلك من المجاز المرسل السائغ كما يقول البلاغيون.

قال ابن العربي المالكي: "قوله تعالى: ﴿ وَلا تَأْكُلُوا ﴾ معناه: ولا تأخذوا ولا تتعاطوا؛ ولما كان المقصود من أخذ المال: التمتع به في شهوتي البطن والفرج، قال تعالى: ﴿ وَلا تَأْكُلُوا ﴾ فخص شهوة البطن؛ لأنها الأولى المثيرة لشهوة الفرج"[17].

وقال الشاطبي: "وإن كان ذلك محرمًا في غير الأكل؛ لأن أول المقاصد وأعظمها هو الأكل، وما سوى ذلك مما يقصد بالتبع"[18].

وقال الرازي: "قوله: ﴿ وَلا تَأْكُلُوا ﴾ ليس المراد منه الأكل خاصة؛ لأن غير الأكل من التصرفات كالأكل في هذا الباب؛ لكنه لما كان المقصود الأعظم من المال إنما هو: الأكل، وقع التعارف فيمن ينفق ماله أن يقال: إنه أكله؛ فلهذا السبب عبر الله تعالى عنه بالأكل"[19].


فهذا التعبير يعم - في الحقيقة - كل ما ينتفع به من طعام وشراب ولباس ومتاع ومأوى إلى غير ذلك، وكثيرًا ما تطلق العرب الخاص وتريد به العام، وما تطلق العام وتريد به الخاص، ويعرف ذلك بالسياق والقرائن، والله أعلم.

وعلى هذا فالمعنى: لا يأخذ بعضكم مال بعض، ويستولي عليه بغير حق، مستذرعًا ومتذرعًا بالأسباب الباطلة، والحيل الزائفة، وما إلى ذلك من وجوه التعدي والظلم، والله أعلم.

والثاني: أن في قوله عز وجل: ﴿ أَمْوَالَكُمْ ﴾ - مع أن أكل المال يتناول مال الإِنسان ومال غيره - إشعارًا بوحدة الأمة وتكافلها، وتنبيهًا إلى أن احترام مال الغير وحفظه، هو عين الاحترام والحفظ لما لك أنت، فكان في هذه الإضافة البليغة كما يقول بعض أهل العلم: تعليل للنهي، وبيان لحكمة الحكم؛ إذ استحلال الإِنسان لمال غيره يجرئ هذا الغير على استحلال مال ذلك الإِنسان المتعدي، وإذا ما فشا هذا السلوك في أمة من الأمم؛ أدى بها - ولا بد - إلى الضعف والتعادي والتباغض، فيا له من تعبير حكيم، وتصوير جميل! والله أعلم.

قال ابن العربي المالكي: "قوله تعالى: ﴿ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ ﴾، المعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء: 29]، وكقوله تعالى: ﴿ فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ ﴾ [النور: 27]، المعنى: لا يقتل بعضكم بعضًا، وليسلّم بعضكم على بعض.

ووجه هذا الامتزاج: أن أخا المسلم كنفسه في الحرمة؛ والدليل عليه: الأثر والنظر:
أما الأثر؛ فقوله عليه السلام: ((مثل المسلمين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالحمى والسهر))[20].


وأما النظر، فلأن رقة الجنسية تقتضيه، وشفقة الآدمية تستدعيه"[21].

وقال الطبري: "فجعل تعالى ذكره بذلك آكلَ مال أخيه بالباطل كالآكل مالَ نَفسه بالباطل"[22].

وقال محمد رشيد رضا: "واختار لفظ ﴿ أَمْوالَكُمْ ﴾ وهو يصدق بأكل الإنسان مال نفسه؛ للإشعار بوحدة الأمة وتكافلها، وللتنبيه على أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك؛ لأن استحلال التعدي وأخذ المال بغير حق يعرض كل مال للضياع والذهاب، ففي هذه الإضافة البليغة تعليل للنهي، وبيان لحكمة الحكم، كأنه قال: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل؛ لأن ذلك جناية على نفس الآكل، من حيث هو جناية على الأمة التي هو أحد أعضائها، لا بد أن يصيبه سهم من كل جناية تقع عليها، فهو باستحلاله مال غيره يجرئ غيره على استحلال أكل ماله عند الاستطاعة، فما أبلغ هذا الإيجاز! وما أجدر هذه الكلمة بوصف الإعجاز!"[23].

وقد كرر الله عز وجل هذا النهي في كتابه الكريم، فقال عز وجل: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ﴾ [النساء: 29].

قال ابن كثير: "ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضًا بالباطل؛ أي: بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية؛ كأنواع الربا والقمار، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل، وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا"[24].

وقال السعدي: "ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، وهذا يشمل أكلها بالغصوب والسرقات، وأخذها بالقمار والمكاسب الرديئة"[25].

من صور أكل أموال الناس بالباطل:
إن أكل المال بالباطل يأتي على وجوه[26]:
الأول: أن يأكل أموال الناس بطريق التعدي والنهب، والسرقة وقطع الطريق، والظلم، والخداع والحيل.

الثاني: أن يأكله بطريق اللهو كالقمار، والرهان كالمغالبة بعوض، والميسر بأنواعه، والمراهنات المشتملة على المخاطرة والغرر والجهالة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القمار هو المخاطرة الدائرة بين أن يغنم باذل المال أو يغرم أو يسلم"[27].

الثالث: ما كان من طريق الرشوة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي))[28].

الرابع: ما يأخذه الحاكم ونحوه من المحكوم.
 
قال الصنعاني: "وحاصل ما يأخذه القضاة من الأموال على أربعة أقسام: رشوة، وهدية، وأجرة، ورزق.
فالأول: الرشوة إن كانت ليحكم له الحاكم بغير حق، فهي حرام على الآخذ والمعطي، وإن كانت ليحكم له بالحق على غريمه فهي حرام على الحاكم دون المعطي؛ لأنها لاستيفاء حقه فهي كجعل الآبق، وأجرة الوكالة على الخصومة، وقيل: تحرم؛ لأنها توقع الحاكم في الإثم.

وأما الثاني: وهي الهدية؛ فإن كانت ممن يهاديه قبل الولاية فلا تحرم استدامتها، وإن كان لا يُهدى إليه إلا بعد الولاية، فإن كانت ممن لا خصومة بينه وبين أحد عنده جازت وكرهت، وإن كانت ممن بينه وبين غريمه خصومة عنده فهي حرام على الحاكم والمهدي، ويأتي فيه ما سلف في الرشوة على باطل أو حق.

وأما الثالث[29]: وهي الأجرة؛ فإن كان للحاكم جراية من بيت المال ورزق حرمت بالاتفاق؛ لأنه إنما أجري له الرزق لأجل الاشتغال بالحكم فلا وجه للأجر، وإن كان لا جراية له من بيت المال جاز له أخذ الأجرة على قدر عمله غير حاكم، فإن أخذ أكثر مما يستحقه حرم عليه؛ لأنه إنما يعطى الأجرة لكونه عمل عملاً، لا لأجل كونه حاكمًا، فأخذه لما زاد على أجرة مثله غير حاكم إنما أخذها لا في مقابلة شيء بل في مقابلة كونه حاكمًا؛ ولا يستحق لأجل كونه حاكمًا شيئًا من أموال الناس اتفاقًا، فأجرة العمل أجرة مثله، فأخذ الزيادة على أجرة مثله حرام"[30].
 
الخامس: أخذ الغني والقادر القوي المكتسب الزكاة أو الصدقة على كسب يكفيه، وإن تركه حتى نزل به الفقر اعتمادًا على السؤال - على قول بعضهم.

السادس: ما كان من الربا أو من عقوده، والأموال التي تكون منه وتتولد عنه.


السابع: ما أخذ عن طريق الغصب، قال عبدالله بن محمود الحنفي: "والغصب على ضربين:
أحدهما: لا يتعلق به إثم، وهو: ما وقع عن جهل؛ كمن أتلف مال الغير وهو يظن أنه ملكه، أو ملكه ممن هو في يده وتصرف فيه واستهلكه، ثم ظهر أنه لغير ذلك، فلا إثم عليه، قال عليه الصلاة والسلام: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان))[31] الحديث، معناه: الإثم.


والثاني: يتعلق به الإثم، وهو: ما يأخذه على وجه التعدي، فإنه يأثم بأخذه وإمساكه"[32].

الثامن: ما جاء عوضًا لكتم حق وإخفائه أو لإظهار باطل وإعلانه ونحو ذلك من المحرمات، وكل ما أعان على الصد عن طاعة الله عز وجل.

التاسع: القضاء بين الناس بغير إعطاء صاحب الحق حقه المعين له في الشريعة.

العاشر: ما لا تطيب به نفس مالكه، وهذا - كما قال الشوكاني -: "مجمع عليه عند كافة المسلمين، ومتوافق على معناه العقل والشرع، وقد خصص هذا العموم بأشياء؛ منها: أخذ الزكاة كرهًا، والشفعة، وإطعام المضطر، والقريب المعسر، والزوجة، وقضاء الدين، وكثير من الحقوق المالية "[33].

الحادي عشر: أكل أموال اليتامى، وأموال الأوقاف، والصدقات.

الثاني عشر: جحد الحقوق، وما لا تقوم به بينة من الأمانات عن أربابها أو عن ورثتهم، وسائر الأموال التي إذا جحدها، حكم بجحوده فيها؛ كالودائع والعارية ونحوها.

الثالث عشر: الغش والاحتيال من مثل ما يقع من بعض السماسرة فيما يذهبون فيه من مذاهب التلبيس والتدليس؛ إذ يزينون للناس السلع الرديئة، والبضائع المزجاة، ويسولون لهم فيورطونهم، وكل من باع أو اشترى مستعينًا بإيهام الآخر ما لا حقيقة له ولا صحة، بحيث لو عرف الخفايا وانقلب وهمه علمًا لما باع أو لما اشترى، فهو آكل لماله بالباطل.

الرابع عشر: كل أجر يؤخذ على عبادة فهو أكل لأموال الناس بالباطل.

الخامس عشر: قراءة القرآن بالأجرة لأجل الموتى، أو دفع ضرر الجن أو غيره عن الأحياء، وأنها تكون سببًا لنفع الميت أو الحي أو دفع ضرر العذاب في الآخرة أو الجن في الدنيا.

السادس عشر: ما لم يبح الشرع أخذه من مالكه فهو مأكول بالباطل، وإن طابت به نفس مالكه؛ كمهر البغي، وحلوان الكاهن.

السابع عشر: الامتناع عن قضاء الدَّيْن، إذا امتنع منه من هو عليه، وكذا الامتناع عن تسليم ما أوجبه الله من الزكاة ونحوها، وكذا النفقة على من أوجب الشرع نفقته.

الثامن عشر: الخيانة كخيانة الأمانة، قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأمانات إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، بل جعلها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من علامات النفاق الدالة على المنافقين، فقال: ((آية المنافق ثلاث – ومنها -: وإذا ائتمن خان))[34].

التاسع عشر: إخراج النذر الذي لا يعدو أن يكون إضاعة للمال، ولا يعود ما يخرجه بالنفع عليه، ولا يدفع عنه ضررًا، وكذا القابض لهذا النذر فإنه يحرم عليه قبضه؛ لأنه أكل لمال الناذر بالباطل لا في مقابلة شيء، فكيف إذا انضاف إلى ذلك كله قبح اعتقاد أو شرك؟[35].

العشرون: أن يأكل أموال الناس من طريق الملاهي والمنكرات - كأجرة المغني - من فيديوهات وسينمات وتلفزيونات، وكاميرات تصوير ذوات الأرواح، وصور ذوات الأرواح، وكذا من الدخان، وشيش الدخان، وكل ما أعان على إهلاك النفس، ونحو ذلك.

الحادي والعشرون: ثمن كل ما لا قيمة له ولا ينتفع به؛ كالقرد والخنزير والذباب والزنابير، وسائر ما لا منفعة فيه[36].

الثاني والعشرون: أكل أبدال العقود الفاسدة؛ كأثمان البيعات الفاسدة، وكل شيء ما أباحه الله تعالى[37].

الثالث والعشرون: ومن أكل أموال الناس بالباطل أخذ أحد العوضين بدون تسليم العوض الآخر؛ لأن المقصود بالعهود والعقود المالية هو التقابض[38].

الرابع والعشرون: أكل مال نفسك على وجه البطر والإسراف؛ لأن هذا من الباطل وليس من الحق[39].

وبذلك نكون قد ذكرنا جملة من الصور التي يكون فيها المسلم قد أكل أموال الناس بالباطل، وتكون هذه الآية الكريمة قد رسمت لنا طريق الحق في هذا؛ فيجب أن نسير عليه في هذا الباب: ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال: 42].

وحذارِ من المخالفة، فإن الله عز وجل يقول: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [ إبراهيم:42].


وصلى الله وسلم على رسولنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.



[1] تفسير ابن عاشور (2/ 184).


[2] التفسير الوسيط (1/ 92) للزحيلي.


[3] (22/ 190).


[4] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 790).


[5] أخرجه البخاري رقم: (1652)، وأخرج مسلم برقم: (1679)، نحوه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.


[6] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (15/ 128).


[7] أخرجه مسلم رقم: (2564).


[8] اسمه: حنيفة، وقيل: حكيم، انظر: تقريب التهذيب للحافظ.


[9] قال البغوي: " عبدالله بن محمد عم أبي حرة الرقاشي بلغني أن اسمه: حذيم بن حنيفة"؛ إيضاح الإشكال (ص: 72) لمحمد بن طاهر المقدسي.


[10] أخرجه البيهقي في سننه (6/ 100)، وشعب الإيمان (4/ 387)، وأبو يعلى في مسنده (3/ 140)، والحديث فيه ضعف؛ فإن فيه ابن جدعان، لكن لا بأس به في الشواهد، وأخرجه الدارقطني في سننه (3/ 26) عن أنس رضي الله عنه، فهو بمجموع الطريقين حسن إن شاء الله تعالى، كما قال الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (7/ 97)، والله أعلم.



[11] أخرجه مسلم رقم: (1554).


[12] انظر: التبيان في إعراب القرآن (1/ 155) لأبي البقاء العكبري.


[13] أحكام القرآن (1/ 185) لابن العربي.


[14] تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم رقم: (1701) وصححه السيوطي.


[15] أحكام القرآن (1/ 182) لابن العربي، بزيادة يسيرة.


[16] فتحُ البيان في مقاصد القرآن (1/ 380) لمحمد صديق خان.


[17] أحكام القرآن (1/ 184) لابن العربي.


[18] الموافقات (3/ 186).


[19] مفاتيح الغيب (5/ 279- 280) للرازي.


[20] أخرجه مسلم رقم: (1083) من حديث النعمان بن بشير، ولفظه: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))، والبخاري رقم: (5665)، ولفظه: ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى)).


[21] أحكام القرآن (1/ 184) لابن العربي.


[22] (3/ 548).


[23] تفسير المنار (2/ 157).


[24] (1/ 593).


[25] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 175).


[26] انظر: تفسير القرطبي (2/ 331)، لباب التأويل في معاني التنزيل (1/ 119- 120) للخازن، وتفسير البغوي (1/ 210)، وتفسير الثعالبي (1/ 184)، والنكت والعيون (1/ 248) للماوردي، فتحُ البيان في مقاصد القرآن (1/ 380) لمحمد صديق خان، وتفسير المنار (2/ 157).


[27] مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية (1/ 529) للبعلي، وانظر: المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام (4/ 64).


[28] أخرجه الترمذي رقم: (1337)، وأبو داود رقم: (3580)، وابن ماجه رقم: (2313)، وأحمد (2/ 164، 190، 194، 212)، والطيالسي في مسنده رقم: (2276)، والحاكم في المستدرك (4/ 102-103)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وإسناده صحيح.
وأخرجه الترمذي رقم: (1336)، والحاكم (4/ 103)، وابن حبان رقم: (1196- موارد)، عن أبي هريرةرضي الله عنه، وجاء عن أم سلمة – رضي الله عنها - عند الطبراني بلفظ: إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((لعن الراشي والمرتشي في الحكم)).
وإسناده جيد؛ كما في الترغيب والترهيب (3/ 143).
والله أعلم.


[29] وذكر فيها ضمنًا الرابع وهو الرزق كما هو ظاهر، ولم يجعله مستقلًّا ولذا وجب التنبيه.


[30] سبل السلام (4/ 124) بتصرف يسير.


[31] الحديث بهذا اللفظ منكر ولا يصح، وقد صح بلفظ: ((إن الله تجاوز لي عن أمتي ...))، أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 95)، والدارقطني في سننه (4/ 170-171)، والحاكم في المستدرك (2/ 198)، والبيهقي في الكبرى (7/ 356)، وابن حبان في صحيحه رقم: (2045)، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنه، وله طرق، وللحديث شواهد عديدة، وصححه ابن حبان، والضياء المقدسي، والذهبي، والسخاوي في المقاصد (ص:229) وغيرهم، وصححه الألباني لطرقه، وانظر للفائدة: إرواء الغليل (1/ 123) الألباني.


[32] الاختيار لتعليل المختار (3/ 67) للموصلي الحنفي.


[33] نيل الأوطار (6/ 49).


[34]أخرجه البخاري رقم: (23)، ومسلم رقم: (59) عن أبي هريرة رضي الله عنه.


[35] انظر: تطهير الاعتقاد (ص: 19) للصنعاني.


[36]أحكام القرآن (3/ 128) الجصاص.


[37] أحكام القرآن (2/ 438) الكيا هراسي.


[38] مجموع فتاوى ابن تيمية (30/ 264).


[39] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 175).

شارك الخبر

المرئيات-١