أرشيف المقالات

علو الهمة وقوة العزيمة للداعية

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2علو الهمة وقوة العزيمة للداعية

كان وراء المعاناة القاسية المديدة التي لقيها المسلمون من المشركين، والمعاداة التي كانت بينهم وبين آباءهم وإخوانهم، همم عالية وعزائم قوية ملأت قلوب الصحابة، وشكلت لهم حافزا قويا للصبر في الله، وتقديم أرواحهم رخيصة في سبيله، لنشر الإسلام بين سكان المعمورة، يوم قاموا معلنين المفاصلة الكاملة والمنابذة لكل القيم الجاهلية ومصالحها، ويوم ألبسهم الإسلام ثوب التقوى، فكانوا أعلى الأمم همة، وأقواهم عزيمة، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله، فأقاموا أعمدة الإسلام بسيوفهم، ودعوا إلى الله في سلمهم وحربهم حتى اتسعت رقعة الإسلام، وطبقت الأرض شرائع الإيمان[1].
 
وقد روى الإمام مسلم رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير[2]، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو إني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قَدَر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان))[3].
 
قال الإمام النووي رحمه الله: المراد بالقوة هنا: عزيمة النفس في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداما على العدو في الجهاد، وأسرع خروجا إليه وذهابا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم وسائر العبادات، وأنشط طلبا لها ومحافظة عليها[4].
 
وهذه من أعظم صفات الدعاة المؤثرة في الثبات على طريق الدعوة، فالداعية المسلم أحرى بأن يكون قوي العزيمة، حريص على الطاعة، مستعين بالله، مبتعد عن العجز والكسل، فإن تحققت أهدافه التي ينشدها، فهذه منة من الله، وإن غلبته الأمور وتعسرت عليه - بعد أخذه بالأسباب الملائمة - كان منه حينئذ التسليم لقضاء الله والرضا به، وعدم اليأس والقنوط مما فاته، أو البحث والتنقيب عن حجج يعلق عليها أخطاءه، لأن ذلك طريق للشيطان، يؤدي إلى ضعف العزيمة وانحطاط الهمة.
 
وقد أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ بربه من أسباب الضعف والعجز، فيقول:(( اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات))[5].
 
ومما يدل على أهمية الهمة العلية والعزيمة القوية للدعاة إلى الله ما يلي:
1] أن الناس جميعهم مؤمنهم وكافرهم، لا بد لهم من مراد يقصونه، ويتوجهون إليه، فمنهم من يطلب الأدنى من الأمور، ومنهم بعيد الهمة من لا يرضى بما دون الجنة، ونفس الداعية إلى الله لا بد أن تكون سامية في طلب مرادها، تطلب الأكمل والأفضل[6]، فيكون همه رضا الله تعالى والفوز بالجنة.
 
ومن كانت هذه حاله، زهد في الدنيا وشهواتها، واستصغر ما دون النهاية من معالي الأمور، وترفع عن الدنايا، وتوجه لإصلاح نفسه أولا، وانتقلت صفته هذه إلى نفوس سامعيه[7]، ولا يقر له قرار حتى ينال مراده، ويجد في طلبه حتى ينال بغيته، ويتجاوز العقبات حتى يحقق هدفه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم طيلة سنوات دعوته، حاملا سلاحه، مجاهدا في سبيل الله، مجتهدا في العبادة، حتى آخر أيام حياته.
 
2] كي يصل الداعية إلى أعلى الهمم وأقوى العزائم لا بد من أن يأخذ نفسه بالمجاهدة والصبر على ذلك، فالدعوة تحتاج إلى جهاد دائم وصبر لتمحص المسلم وتجرده من الهوى والشهوة، فالصبر جهاد، والجهاد فريضة، والصبر واحد من ألوان هذا الجهاد[8].
 
وقد جعل الله تعالى الإمامة وهداية الناس جزاء للصبر على مشاق الطاعات، ومقاساة الشدائد في نصرة الدين[9]، كما قال تعالى ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾[10]، والجهاد طريق الهداية كما قال تعالى ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [11].
 
3] أن الهمة العالية والعزيمة القوية لها أثر واضح في سلوك الداعية، ومن ذلك:
• الجرأة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دون خوف أو مجاملة لأحد.
• حب الجهاد والمسارعة في الخروج إليه، والجرأة والإقدام على العدو.
• الصبر على الأذى واحتمال المشاق في ذات الله.
• المحافظة على الشعائر التعبدية، وقوة الصلة بالله[12].
 
فعلى الداعية أن يكون وثيق العزم، مجتمع النية، على إدراك هدفه بالوسائل الصحيحة التي تقربه منه، باذلا قصارى جهده لبلوغ مأربه، وتلك طبيعة الإيمان إذا تغلغل واستمكن، فإنه يضفي على صاحبه قوة تنطبع في سلوكه كله[13]، والداعية إذا أوتي الصبر وقوة العزم رسخت قدمه في طريق الدعوة، واستطاع التأثير على غيره بصورة قوية.
 
وأما إذا خارت عزيمته وفقد الصبر والثبات، تخلى عن منهجه ودعوته لأي عارض كان، فالاستقامة على طريق الدعوة، لها تكاليف وتحتاج إلى إرادة حازمة، تقود صاحبها للتخلي عن داعي شهواته والالتزام بما يأمره الله به، وذلك يشق على أصحاب الإرادات الضعيفة، والشخصيات المهزوزة، ومثل هذا النوع - أي ضعيف الشخصية - يكون غالبا منحط الهمة، سرعان ما يسيطر عليه غيره، ويوجهه، وربما استغل البعض هذا الجانب لديه ليحقق من خلاله مصالحه وأهواءه الشخصية[14].



[1] بتصرف، علو الهمة محمد أحمد إسماعيل المقدم ص 139، مكتبة الكوثر للنشر والتوزيع الرياض، ط:1، 1416هـ 1996م.


[2] يعني أن الخير في كل من القوي والضعيف، لاشتراكهما في الإيمان، مع ما يأتي به الضعيف من العبادات.
بتصرف، صحيح مسلم على شرح النووي 16/ 215.


[3] كتاب القدر باب في الأمر بالقوة، وترك العجز والاستعانة بالله، وتفويض المقادير إليه 4/ 2052 ح 2664، وسنن ابن ماجه كتاب الزهد باب التوكل واليقين 2/ 1395 ح 4168، ومسند الإمام أحمد 2/ 366 عن أبي هريرة.


[4] بتصرف، صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 215.


[5] صحيح البخاري كتاب الدعوات باب التعوذ من فتنة المحيا والممات 7/ 159.


[6] بتصرف، مقاصد المكلفين ص 365.


[7]بتصرف، هداية المرشدين إلى طرق الوعظ والخطابة ص 108.


[8]بتصرف، الدعوة الإسلامية في عهدها المكي ص 266.


[9]بتصرف، تفسير أبو السعود 7/ 87.


[10] سورة السجدة آية 24.


[11] سورة العنكبوت آية 69.


[12] بتصرف، توجيهات نبوية على الطريق: د.
السيد محمد نوح ص 8- 9، دار اليقين للنشر والتوزيع مصر، ط:1، 1418هـ 1998م.


[13] بتصرف، خلق المسلم: الشيخ محمد الغزالي ص 107- 109.


[14] بتصرف، الحور بعد الكور: محمد بن عبدالله الدويش ص 45، دار الوطن الرياض ط:1، 1416هـ.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير