أرشيف المقالات

مناسبة الأربعين

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
8 حزن المليك الطفل هذا اليوم هو الأربعون لمصرع الملك الشهيد غازي الأول.
واليوم الأربعون هو في عرف الناس أو الناسين آخر الخطوات في تشييع الحي للميت! فهل آن للجوانح الحرار أن تبرد على سلوان ابن فيصل ونسيان أبي فيصل؟! كل حي إلى حين؛ وكل ذكرى إلى نسيان؛ وكل أثر إلى طُموس؛ ولكن أمثال غازي من ملوك الأرض وشباب الملوك وأزيان الشباب هم ملء السمع والبصر والقلب والتاريخ، فلا يملك الدهر أن يمحو ما لهم في صحيفة الخلود من ذكر وأثر.
وإذا استحال على الزمن أن ينسى دولة العراق، استحال على العراق أن ينسى أسرة فيصل.
لأن أسرة فيصل هي الأساس المكين لبنيان العراق الحديث: قام على جهادها استقلاله، وورفت على رِيّ دمائها ظلاله، وسارت على نور هداها نهضته. كان الملك فيصل الأول برد الله بالرحمة ثراه، مثال الرجولة العليا التي يتيحها القدر المديل لإحداث ثورة وإنشاء دولة وإقامة عرش.
وكان هو وصحبه البهاليل من أبطال الثورة العربية رموز الحيوية الثائرة والخبرة القادرة والإرادة الحكيمة.
جاهدوا حتى تحرر الوطن، ونادوا حتى استيقظ المجد، وأسسوا حتى بني الشباب.
ثم قضى وقضوا شهداء في سبيل العراق الخالد، ولا تزال أرواحهم الطاهرة تشرق في جوه، ودماؤهم الزكية تعبق في صعيده. وكان الملك غازي الأول سقى الله بالرضوان ضريحه، قائد الجيل الذي نشأ معه على قوادم الصقر القرشي الجبار؛ فكان من طبعه الموروث - مهما أبطأ نمو الريش أو أرعد عليه الأفق - أن يرتفع بشعبه الطموح الناهض.
وكان بشبابه الفتيان الواعد عنوان الأمل المعقود على فتوة العروبة في توثيق العقدة وتحقيق الوحدة، ثم كان بأريحيته العربية وسماحته الهاشمية نموذج الحكم الرضيِّ الرفيق الذي تسود في عهده الشورى، ويخصب في ظله الفكر، وتعز في كنفه الديمقراطية.
فلما صرعه القدر هذه الصرعة القاسية ارفضَّ لهولها صبر الشباب والكهول من العرب، لأنه كان في رأي هؤلاء سر الماضي وذكرى يقظته، وكان في نظر أولئك رجاء المستقبل وروح نهضته. نعم كان فيصل الرجل، وكان غازي الشباب! وما آلم الإخبارَ بالكون الناقص عن الكو التام! ولقد كان الظن بالأيام أن تُبقي على فرع الحسين النابت على دجلة حتى يستغيل ويتشعب؛ ولكن أعاصير الخطوب كانت أقوى من منى القلوب وأصدق من أحاديث الأنفس؛ فلم يبق من أرومة فيصل الحرة إلا غُصنَةٌ غضَّة النبات تميل حزينة على الجذع المحطم، كما تهوِّم الزهرة الوحيدة على القبر الموحش! وا رحمتا للوليد المليك! كان له بالأمس صديق لا يخلق الله من نوعه غير واحد لكل.
وكان هذا الصديق يقبس نور عينه من نوره، وسرور قلبه من سروره، وغبطة حياته من غبطته؛ ثم لا يرى وجوده كاملاً إلا به، ولا عيشه سعيداً إلا معه.
فهما متلازمان كطيفي الجمال والحب، يتجولان يداً في يد بين رياض القصر، أو يتنزهان جنباً إلى جنب في أرباض المدينة، ويوزعان هنا وهناك البسمات الحلوة والتحيات الطيبة على حواشي الطريق أو في مماشي الحديقة، ثم يعودان إلى الأسرة الملكية بالرخاء الطلق والأنس الشامل، فتشرق غرقاتُ القصر السعيد بسناً باهر من جلال الملك، وجمال الطفولة، وعطف الأبوة، وحنان الأمومة، وأمان القدرة، ضمان الغد بالسطوة والثروة والولد! وا رحمتا للمليك الطفل! أصبح اليوم وحيداً في القصر المظلم والعراق الحزين كأنه بصّة الأمل في القلب اليائس، أو ومضة المنارة في البحر المضطرب؛ ينظر فلا يرى الوجه المتهلل الذي كان يهش له، ويصغي فلا يسمع الصوت الحنون الذي كان يهتف به، ويمشي فلا يجد اليد الرفيقة التي كانت تمسكه، ويسأل فلا يجد اللسان الحلو الذي كان يجيبه، ويجلس على المائدة فلا يرى الفم الباسم الذي كان ينادمه! أين أبي يا أماه؟ لقد خرج في الصباح من غير أن يسلم على وليده، ولم يعُد في المساء ليقبّل وجنة وحيده! أين ملكي يا خالاه؟ لقد اختفت السيارة والموكب، وذهب الأمناء والحرس، وغاب الوزراء والقادة! ما لي لا أرى الناس إلا من وراء السواد؟ وما لهم لا ينظرون إليّ إلا من خلال الدموع؟ فهل غيبة أبي هذه الفترة القصيرة تجعل الناس غير الناس، والدنيا غير الدنيا؟ ثم وقف المليك الطفل ساهم الوجه حالم النظر، يسأل فلا يجاب، ويفكر فلا يدرك، ويبحث فلا يجد، وينتظر فلا يلقي، حتى أعياه الأمر فأستسلم لشواغل الطفولة، واستنام لوعود الحاشية، وراح ينشد أُنسه الوقتي في صحبه خاله، ريثما يعود إليه أُنسه الدائم بعودة أبيه! ولكن أربعين صباحاً وأربعين مساء مضت ثقيلة الأطراف موحشة العشايا مظلمة البُكَر، والصديق لما يعد إلى الصديق، والوالد لما يسأل عن الولد! واستيقظ فيصل الصغير الكبير من نومه القلق وحلمه المزعج، فوجد ظهره يبهظه عبء فادح، وجبينه يعلوه تاج ثقيل؛ وأبصر حواليه فوجد مهده الذي كان ينام فيه قد عظم حتى عاد عرشاً، وقصره الذي كان يلعب به قد أتسع حتى أصبح وطناً، وأباه الذي كان ينتظره قد تعدد حتى صار أمة! احمد حسين الزيات

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢