أرشيف المقالات

وحدة الوجود. . .

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 كثير من المناحي الفكرية، والمذاهب العقلية، والطرائق الرياضية، ترمي إلى (وحدة الوجود) وكلها تتباين في طرق التفكير، ونهج الفلسفة، ولكنها متفقة مجمعة على حقيقة واحدة، تلك الحقيقة هي أنه بين غير المتناهي والمتناهي علاقة يتأدى بها إلى اتحاد الطرفين. وكما اتفقت تلك الفرق في اختلافها على هذه الحقيقة، اتفقت في وجهة النظر التي سارت بهم على ضوء المقدمات حتى انتهت بهم إلى هذه النتيجة، فهم متحدون في المصدر والمورد مختلفون في الطريق الذي بينهما. فالكثرة الغالبة من فلاسفة الصوفيين في الإسلام يعتبرون أن الحق موجود قبل كل موجود (وهذا صحيح) ثم يقولون وقد وجدت الكائنات بعد أن لم تكن، ولما كان غير معقول أن يوجد شيء من لا شيء لزم بالبداهة أن يكون الوجود هو عين الموجود، وأن ليس وجود إلا وجود الحق يصور أحوال ما هي عليه الكائنات، فالله ظاهر في المظاهر، والمظاهر هو على ما هي عليه. وهذا بعينه هو ما انتهى اليه (هيراكلت) الفيلسوف اليوناني إذ استنتج أن الكائن الإلهي يتخلل صور الأشياء المتناهية، والمتناهي نفسه لا يوجد إلا في الله. وتكاد تكون عين ما وصل اليه (تولاند) أول من أطلق اسم الاتحاد في أوربا.
حيث زعم أن العالم ليس منفصلاً عن الله الأ في وهمنا فقط. وقديما تساءل الناس من اين جاءت الروح، ومم نشأ الجسم؟ ثم قالوا إذا كان واجب الوجود غير متناه وجب إلا يوجد شيء خارجاً عنه، لأن غير المتناهي يستغرق كل موجود. وإذا تقرر أن الأرض وما تتبع ليست إلا مجموعة صغيرة حقيرة من مجاميع لا عدد لها تسير بقانون في فضاء لا يتناهى. إذا تقرر هذا جاء العقل فقال إن شيئين غير متناهيين لا يوجدان معا، فإذا كانت الكائنات غير متناهية، والخالق غير متناه، وجب أن أحدهما هو الأخر. وعلى ضوء هذا الفكر مشى العقل طفلاً يحبو إلى الاتحاد، فلما أن شب واستطاع أن يمشي على ساقي الاعتقاد بافتراض الشك جرى إلى المذهب ما استطاع إلى ذلك سبيلا. سرى هذا المذهب إلى الإسلام في القرن الثالث، ومشت به الفلسفة ممثلة في أساطين الفكر، وكبار الصوفيين، وإذ كانت الفكرة جديدة، وكل جديد (في الغالب الأعم) منظور اليه بنظرات الخوف والحذر، إذ كانت الفكرة كذلك لقى أصحابها الشيء الكثير من الإيذاء فقتل البعض، ومثّل به، وربما حرقت جثث البعض وهرب البعض إما من وجوه أولئك المتفقهين، وإما من النظرية ذاتها، وعمد البعض إلى الرمز في الكتابة يعبر به عما يريد في عبارة مشكلة مطاطة تلين مع التأويل والتخريج، فخرجت في تأليفهم كثير من المعميات، يقول بعضهم: جلست عن ابن سبعين من وجه النهار إلى آخره، فجعل يتكلم بكلام تعقل مفرداته، ولا تعقل مركباته.
وغلبت هذه الدندنة في كتبهم الكبيرة، فأنت إذا قرأت الفتوحات لابن عربي أو الفصوص مشيت في سهل وحزن، ومرت بك مأمن ومجاهل، ومثل هذين فيما قلنا كثير من كتب رجالات التصوف القدامى. وتبدو هذه الظاهرة قوية في أشعارهم، لأن النثر يبنى على البسط والإيضاح الذي لا يقبله كله الشعر، ولهذا عمدوا إلى النظم فألقوا فيه بآرائهم ملفوفة رمزية لتقبل التأويل كلما حزبهم من المتفقهة حازب. لم نستطع ان نتعرف بالضبط متى نشأت (وحدة الوجود) إطلاقا، ولا أين، أما الكيفية فمنطق الصوفيين فيها أبلج.
وقديماً كان لوحدة الوجود أثر كبير في الأديان القديمة (غالبها) فمست خرافات الهند القديمة أطرافها مساً رفيقا وشديدا على اختلاف الأساطير بعدا عنها وقربا منها، وذهب بعض اليونانيين القدماء إلى أن اصل العالم يجب أن يكون مادة لا وصف لها، ولا تقبل الفناء، وأشرنا إلى قولهم أن غير المتناهي يستغرق كل موجود. وتلك هي بعينها فكرة ابن سبعين ومنطقه القائل: أن واجب الوجود كلي وممكنة جزئي، ولا وجود للجزئي إلا في كلي، كما لا يتحقق وجود الكلي إلا بجزئياته. ولابن عربي في الباب تسع وعشرين ومائة في ترك المراقبة؛ لا تراقب فليس في الكون إلا ...
واحد العين، فهو عين الوجود ويسمى في حالة بالَه ...
ويكنى في حالة بالبعيد. وشعر الصوفية طافح بالوحدة الوجودية منغمس فيها في تلميح أو تصريح، ومازال القوم يرددون قول الغزالي، أو ما قيل انه قاله (ليس في الإمكان أبدع مما كان) وقالوا بعيداً عن التأويل نعم.
لأن المخلوق صورة الخالق وليس أكمل منه تعالى. ووقف لهم جماعة بالمرصاد توفروا على تفنيد أقوالهم، ومناقشة آرائهم، ثم التشهير بهم، والنيل منهم، وهذا ابن تيمية يعلن عليهم في الفتاوى حربا شعواء، وقديما قال، ما أظن الله بغفل عن المأمون لأباحته الفلسفة (!!). عرج قوم بالفلسفة في أيام العباسيين على الدين وحاولوا أن يوفقوا بينهما، فرجعوا يحملون عبء الهزيمة ثقيلا، ومشت وراءهم الحكمة القائلة (سلم وأنت أعمى) تلوح لهم ظافرة بهم، ظاهرة عليهم. وجاء صاحب جلاء العين فكان كابن تيمية فيما أراد وقال، ثم جاء صالح المقبلي في كتابه العلم الشامخ فسخر بهم، وفسق كلامهم، وعراه من الحقيقة، وامتدت كلماته إليهم فأصابت منهم مقاتل. أعيا المتصوفون أمرهم فقام الجيلي يقول: (صح لنا هذا كشفاً فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر). وبدهي ان دعوة الجيلي هذه كاذبة، وإلا فما هذا المنطق يقدمونه بين يدي كل قضية؟ وما هذه المقدمات التي تتكئ عليها النتائج؟ على أنهم لم يعدموا نصراء يدافعون عنهم ويدفعون، وهذا القزويني يعقد في كتابه (درر الفرائد) باباً في ذكر مصطلحات القوم.
قال: أتطمعون في فهم كلامهم وهو انما يعرف بالذوق لا بالمنطق؟ (من ذاق طعم شراب القوم يعرفه.
.)
ثم أخذ يفسر رموزهم، ويستدل عليها فناقض نفسه. ويقول غلاة المنتصرين: إذا ظهر كلام الصوفية خارجا عن ظاهر الشريعة فهو مقول في حال سكرهم، والسكران سكرا مباحاً غير مؤاخذ، فان لم يكن كذلك فلابد أن يكون له تأويل ظاهر، فان لم يكن فله تأويل باطن لا يعلمه إلا الله والراسخون. فأنت ترى أنهم يريدون أن يبرئوهم (إذا كان هناك جرماً) على أي حال، ومهما كانوا، ولنا عليهم أن نقول لو كان كلام الصوفيين موافقا للشريعة الظاهرة ففيم الرمز وفيم الإبهام؟ وبعد، فهذا مذهب وحدة الوجود في اظهر مناحيه، ولعلي مستطيع أن أعود اليه فيما بعد؟ طاهر محمد أبو فاشا

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن