مقاصد سورة الأنبياء
مدة
قراءة المادة :
37 دقائق
.
"سلسلة منبريّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم".
(21) سورة الأنبياء
الحمد لله ربّ العالمين، الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد، نحمده سبحانه وتعالى أن كان واحدًا أحدا، لم يتخذ شريكةً ولا صاحبة ولا ولدا، نحمده ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل إلى البشرية دينًا واحدا، بعث بشرائعه جميع الأنبياء إلى كل الأمم، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، بلغ الرسالة وأدى أمانته، ونصح للأمة، وكشفت الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهادٍ حتى أتاه اليقين، وقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: "الأنبياء إخوة لعَلات"، يعني يشبهون الإخوة لأمهات، "الأنبياء إخوةً لعَلات؛ دينهم واحد وأمهاتهم شتى"[1]، أي أن الأنبياء كالإخوة لأمهات، يكون أبوهم واحدًا، ومصدر وجودهم واحدًا، فالأنبياء كذلك مصدر نبوتهم ورسالتهم جميعًا هو واحدٌ فقط وهو الله، وأمهاتهم شتى أي شرائعهم مختلفة، متنوعة حسب كل أمةٍ ورحمة الله بها، وإرادة الله فيها، صلي يا ربنا وسلم على من علمنا الخير صلاةً وسلامًا دائمين أبدًا ما دامت السموات والأرضون.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون، هذا لقاءنا مع تلكم السورة المباركة وهي سورة الأنبياء، تحمل هذا الاسم العظيم، اسمٌ يشمل سلسلةً مباركةً وصفوةً مختارةً من البشر، الأنبياء، والأنبياء جمع نبي والنبي بشرٌ أرسل الله إليه وأوحى إليه ليدعو إلى الله بوحي من الله معصوم، فهو إنسانٌ بشر ولكنه نبا عن غيره من البشر، نبا عن أمثاله من البشر، أي ارتفع وعلا، ففي لغة العرب نبا، أي ارتفع وعلى ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴾، هو بشرٌ مثلنا عليه الصلاة والسلام ولكنه ارتقى وكذلك إخوانه الأنبياء والمرسلون جميعًا ارتقوا وارتفعوا بأن الله يكلمهم، بأن الله يوحي إليهم، بأن الله عصمهم، بأن الله ائتمنهم على رسالته، وائتمنهم على بلاغ أمانته للناس.
فسورتنا المباركة سماها ربنا سبحانه وتعالى عندما أنزلها بسورة الأنبياء، وهي بهذا الاسم إلى الآن وإلى أن تقوم الساعة، ولم يذكر العلماء لها اسمًا آخر، لا من عند الله ولا باجتهادٍ من العلماء، وهي سورةٌ مكيةٌ نزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة[2]، وبالتالي فقد حفظنا وثبت في قلوبنا والحمد لله أن كل السور المكية إنما تتحدث عن العقيدة، وعن تثبيتها في النفس، وعن تصحيحها عند البشر، وكثر هذا كما استمعنا عبر واحد وعشرين هذه هي الواحدة والعشرون، من خلالها سورٌ مكيةٌ كثيرة ويأتي أكثر إن شاء الله، كثر الكلام عن العقيدة، وكثرت السور المكية لأن الكافرين كانوا أهل جدال وأهل مراء، والله تعالى يريد أن يوفي لهم بالحجة، وأن يبين لهم كلّ بينة لئلا يكون للناس على الله حجةٌ ولا شيءٌ يدافعون به عن أنفسهم أو يقومون به في وجه الله مساءلين يوم القيامة بعد هذا البيان العظيم، فيوفي الله لكل مدعوٍ بحاجته في الدعوى، فيعطيه كلّ ما ينبغي أن يُعطى وربما يزيد، فلذلك كثر الحديث في القرآن الكريم عن العقيدة لأنها هي الأساس، ويركز القرآن دائمًا كما قلنا أكثر من مرة، يركز على هذه الأركان الأربعة أو تجعلها ثلاثًا اختصارًا، على معرفة الإله ووحدانيته، الإله الحق، من الذي يستحق عبادتنا؟ وما أسماؤه وما صفاته التي تؤهله لذلك وتجعلنا بقناعة نصرف كل عبادتنا له؟ وماذا يريد ذلكم الإله منا، لا شك أن له تكليف علينا، وله برنامج معين يريد أن نعيش به حياتنا، وأن نعبده به، فأرسل الرسالات، فيؤكد الله تعالى على صدق الرسالة، وعلى ربانية القرآن وأنه من عند الله وليس حديثًا يُفترى.
وإذا كان أمر الرسالة كذلك فلابد أن نتعرف على الرسول الذي جاء بالرسالة، وقد واجهه الناس بغير حقيقته ووصفوه بغير صفته، فقالوا عنه شاعرٌ ومجنونٌ وكذاب ومفترٍ إلى غير ذلك، فالله تعالى يحقق هذا، واحتجوا كيف يكون الرسول بشرًا، الله يبين لهم هذا، أنه لا يصلح أن يكون الرسول إليكم يا بشر إلا بشرًا، ما يصلح أن يكون إلا بشرًا، ثم ما الغاية من وجود الإله ثم وجودنا، وما الغاية من بعث الرسل وإرسال الرسالات، الحساب عليها يوم القيامة، فيوم القيامة هو الحياة الحقيقية ولكن يفرز الله الناس في الدنيا أولًا، يميز الله الخبيث من الطيب في الدنيا أولًا، بعرض رسالاته وبعث رسله عليهم الصلاة والسلام وأنبيائه ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ عرف وكفر عرف الحق وكفر به فمات على كفره، فهذا هلك وهو يعلم أنه على باطل، هلك بعد أن بلغه العلم ووصلته الدعوى، وقامت عليه الحجة، ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾، الذي يدخل الجنة ويبقى حيًا كريمًا في قبره يُنعَّم فتعتبر فترة موته في القبر حياة لأنه ينعم، ويوم القيامة يعيش في الجنة حياةً كريمةً عالية، هذا أيضًا يكون قد حيَّ وعاش في الدنيا والقبر والآخرة على بيِّنة كذلك، ثم يوم القيامة يحاسبهم الله تعالى، فيأخذ كلٌ جزاءه وحسابه ولا يملك حجة، ولا يملك عند الله عذرًا ﴿ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾.
السور المكية عادةً تركز على هذه النقاط الأربعة، ولو ضممت الرسل والرسالات في عنصر واحد صاروا ثلاثة، الألوهية والنبوة والأنبياء ويوم القيامة، فسورتنا مكيةٌ من هذا النوع، ولذلك فهي تبسط هذا الأمر بسطًا عظيمًا، ومن بلاغة القرآن ومن حكمة الرحمن سبحانه وتعالى أنك تجد كل سورة مكية تعرض هذا الأمر عرضًا جديدًا، عرضًا يختلف عن عرضه في السورة الأخرى، وما أكثر هذه السورة، ومع كثرتها لم تتشابه أساليبها، ولم تتكرر كلماتها، إنما هناك تجديدٌ دائمًا في الحديث وفي الخطاب، فالخطاب الديني مجددًا تلقائيًا لا يحتاج إلى تجديد ولا يحتاج إلى تعديل، طالما الدعوة بالقرآن والسنة فإنه خطابٌ جديدٌ دائمًا في كل مرة.
أحبتنا الكرام، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وحدث في بعض أحاديثه عن هذه السورة وعن الإسراء والكهف وطه ومريم والأنبياء، قال: "هن من العِتاق الأُول وهن من تلادي"[3]، من العتاق الأول أي من السور المكية التي نزلت قديمًا من السور الأوائل في النزول، وهن من تلادي أي من الأشياء التي أداوم عليها، ومن السور التي أحبها وأكثر قراءتها وأعاهدها بالقراءة والتلاوة، فكانت لها مكانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض السور المكية الأخرى.
هذه السورة تبدأ حديثها حول العقيدة في أربعة موضوعات اختصارًا، بدايةً جولةٌ عظيمةٌ من السورة يستفتحها الله تعالى بهذا الخبر الشديد المفزع المروع ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾، ثم تكلم عن الكافرين ﴿ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ استطرق الحديث واستطرد إلى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال الكافرون عنه: إنه بشر، وإنه مفترٍ ﴿ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ﴾، أهو بشرٌ، أو شاعرٌ أو كذابٌ، أو ساحرٌ، أو كاهن، أوصافٌ تتعارض مع بعضها وتختلف مع بعضها، أي واحدٍ هو من هؤلاء؟ تنوعت كلماتهم فيه عليه الصلات والسلام، وذلك مما يدل على تخبطهم وعدم يقينهم بالباطل الذي لزموه وقاموا عليه، لذلك في آيةٍ أخرى الله تبارك وتعالى يُعجِّب من حالهم، ﴿ انظُرْ ﴾ أي انظر وتعجب يا محمد عليه الصلاة والسلام، يا نبي الله الكريم تعجب من حال هؤلاء الناس ﴿ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ ﴾ أي الأمثال الكثيرة، والأمثال هنا معناها الأوصاف، أي وضعوا لك أوصافًا كثيرة لينفروا عنك وليصدوا عن سبيلك ﴿ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ﴾، لا يهتدون إلى طريقٍ حق، مرةً يقولون هكذا، ومرةً يقولون هكذا، وهذه الأوصاف تتعارض مع بعضها وتختلف عن بعضها، الله تبارك وتعالى يحاورهم في هذا الإطار ويُبيّن لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول حقٍ، هو واحدٌ ختم الله به سلسلةً مباركة ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ اسألوا أهل الذكر هل بعث الله قبل ذلك رسولًا من غير البشر، هل بعث الله رسولًا امرأة من البشر، أو بعث رسولًا من غير البشر من الجن أو الملائكة فجاء يكلم الناس برسالة الله، ما حصل هذا أبدًا عبر الدنيا كلها، كل رسولٍ يبعثه الله إنما هو بشرٌ مثلكم، ولكنه ملك وبلغ الكمال البشري، فهو صفوةٌ من قومه عليهم جميعًا وعلى نبينا الصلاة والسلام، ثم تطرق الأمر إلى جانبٍ آخر من جوانب الكفر عند هؤلاء الكافرين، كما أنكروا الرسالة وكذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يقف شرهم عند ذلك الحد وإنما تعدوا على الله تبارك وتعالى، فنسبوا إليه الولد وقالوا ﴿ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ ﴾ نسبوا لله الولد وعبدوا آلهةً أخرى من دونه، جرائم متعددة في جانب الألوهية وفي جانب الوحدانية، فجعلوا آلهةً مع الله، ونسبوا الولد لله وعبدوا أولاد الله - إن كان لله أولاد -، وهكذا باطلٌ في باطل، الله أيضًا يبين لهم ويناقشهم في هذا المجال، وكان من خبث ما قالوا، ومن أخبث ما ادعوا أن الله تعالى - تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا - حصلت بينه وبين الجن معاشرة زوجية فأنتجوا الملائكة، إذًا بالملائكة بنات الله فلنعبد بنات الله، وبنات الله لا ينزلون إلينا إلى الأرض إنما تحل أرواحهم في هذه الأحجار، وفي هذه الأصنام، خَيّلوا لأنفسهم هذا الخيال الواسع المقيت الذميم، وعبدوا الأصنام على أن فيها أرواح الملائكة الذين هم بنات الله، الله تعالى يرد كل هذا ويقول ﴿ سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ﴾ تكلم عن الملائكة وبين موقفهم ﴿ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ﴾، الملائكة لا يملك أحدهم أن يقول إني إله ولا ابن للإله إنهم يخافون الله ويعظمون الله، إنهم يقومون بأمره، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، الله يعلم كل شيءٍ عنهم وهم لا يعلمون شيئًا عن الله، صفاتهم صفات الخلق، والله يعاملهم معاملة الخلق، ولو كانوا بناتٍ لله لكانت مكانتهم أعظم من ذلك، ولماذا يخبئ الله عنا أن له ولدًا؟ أيخاف منا؟ أيحرج منا؟! كلا والله، لو كان لقال وأعلن سبحانه وتعالى، ولكن وجود الولد في حياة الأب والأم يكون لحاجةٍ وعلة، نحتاج إلى أولادنا، إذًا فينا نقصٌ لن يسده إلا أولادنا، وأقل شيء أن يحملوا ذكرنا بعد موتنا، هذا أقرب شيء، أو يعنوننا في حياتنا على المعاش ونحوه، وهذا كله نقص، وكل نقصً محالٌ على الله، فالله تعالى هو الذي وجبت له الكمالات كلها، ولا كمال إلا لله تبارك وتعالى، فيناقشهم الله تعالى في هذه القضية أيضًا.
إلى أن يأتي يوم الحساب بعد الموت ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ وهذه بوابة الدار الآخرة، الموت، نسأل الله أن يقبضنا إليه وأن يدخلنا من هذه البوابة على خير وصلاح، اللهم آمين.
فيكلمهم الله تعالى عن يوم القيامة وما يكون فيه في طرفٍ قصير من باب التذكرة، ثم بعد ذلك يعرض الله تعالى عرضًا جليلًا لستة عشر نبيًا وامرأة قيل إنها نبية والصحيح أنها ليست من الأنبياء، هي مريم ولكنها كانت أمًا لنبيٍ كان معجزةً وآيةً في الأنبياء وهو سيدنا عيسى عليه السلام، الذي جاء من طهر ولا يعرف الخبث طريقًا إليه، جاء من عند الله آيةً وكلمة ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، جاء من غير نكاحٍ ولا سِفاح، جاء بغير أب، من أم فقط، فكان آيةً على كمال قدرة الله تبارك وتعالى الذي خلق قبل ذلك من غير أب ولا أم، وخلق حواء من آدم فكان لها كالأب ولا أم لها، وخلق الخلق جميعًا من ذكرٍ وأنثى فكان هناك أب وأم، بقيت الصورة الرابعة التي تدل على كمال قدرة الله وأن الله لا يعجز عن شيء أبدا، وهو أن يخلق من أم بدون أب، فكانت في عيسى عليه السلام.
ستة عشر نبيًا يذكر الله خبرهم في هذه السورة، وإن أطال في بعضهم وقصَّر أو أوجز في قصة بعضهم فإنها تذكرة، ولم يكن هذا في سورةٍ أخرى، لم تجمع هذه الكوكبة من الأنبياء في سورةٍ أخرى غير سورة الأنعام، ذكر الله فيها ثمانية عشر نبيًا، ولكن قال العلماء: لما نزلت سورة الأنبياء قبل سورة الأنعام فازت بهذا الاسم وسميت سورة الأنبياء، ففيها كوكبةٌ عظيمة من الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ويذكر الله الأنبياء هنا مع أقوامهم من خلال منظورٍ معين، ويعرض مشهدًا خاصًا من حياة الأنبياء مع أقوامهم، وهو كيف أن الأنبياء كانوا على هدىً وأن الكافرين كانوا على ضلال، هذا هو المشهد فقط الذي يُعرض من خلال قصص الأنبياء في هذه السورة، ولذلك يقدم الله تعالى بقصة إبراهيم بقوله ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾، فيعرض الله تعالى رشاد الأنبياء في دينهم وفي دعوتهم، وأنهم كانوا راشدين، ومن تبعهم رشد معهم، أما من خالفهم وعارضهم فقد سفه نفسه، وقد ضل ضلالًا مبينا، وظهر هذا واضحًا جليًا من خلال موقف سيدنا إبراهيم عليه السلام حين كسَّر أصنام قومه، ودار الحوار بينهم ﴿ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ ﴾، فكانت صدمةً صدم بها إبراهيم قومه في كلمةٍ قصيرة، وكان ذلك قبل نبوته ﴿ فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ ﴾ فأفاق الناس ورجعوا إلى أنفسهم، قالوا إنكم أنتم الظالمون، إبراهيم على حق فالآلهة لا تتكلم ولا تنطق، كيف تكون آلهة، إبراهيم على حق والحق معه ﴿ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ ﴾، رجعوا إلى الوضع الذي كانوا عليه قبل ذلك من لحظات، فكانت رؤوسهم تحت وأرجلهم إلى أعلى كأنهم كانوا يمشون هكذا، الله يصورهم بهذه الصورة الذميمة، إنسانٌ يمشي على رأسه ويرفع قدميه، فينحسر ثوبه عن عورته وتظهر سوءته، ورأسه إلى أسفل ورجلاه إلى أعلى، فهو بأي شيء يفكر، يفكر بقدميه ولا يفكر برأسه وقلبه، فهذا إنسانٌ منكوس معكوس وبالتالي أفكاره معكوسة، المشاهد التي يراها معكوسة، الرأي الذي يراه معكوس، حياته كلها منتكسة، فهو في انتكاسة خطيرة ﴿ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ ﴾.
انتهى الأمر إلى أن أعدوا له نارًا عظيمة تحرق كل ما يقع فيها، تحرق بلدًا، كانوا يتقربون إلى آلهتهم بجمع الحطب لهذه النار، يريدون أن يقتلوا إبراهيم قربى إلى الآلهة المزعومة، حتى ذُكر أن المرأة الحامل والتي تريد ساعةً سهلةً في الميلاد وهي تلد ولدها كانت تقدم قربانًا إلى الآلهة جمعًا من الحطب تضعه على هذه النار، وكل هذا الكيد، وكل هذا المكر لم ينفع بشيء، كان ضلالًا، في النار قال حسبي الله ونعم الوكيل، قال الله ﴿ نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ ﴾، وفي سورة الصافات ﴿ فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ ﴾ فكانوا الأخسرين وكانوا الأسفلين، من الخسران ومن السَفَل والانحطاط، مع من تريد أن تكون أيها الإنسان في هذه الأمة، مع أهل الرشد والرشاد، أو مع أهل السَفَل والانحطاط، هذا منظر يعرضه الله تعالى أمام هذه الأمة ليعقل الناس.
وتُختم السورة بموضوعٌ وجولةٌ رابعة وهي عرض المصائر، عرض النهايات، يوم القيامة يسير خلقٌ إلى النار ويسير خلقٌ إلى الجنة جعلنا الله تعالى من أهل الجنة، إذ يقول الله تعالى قولةً عظيمة مفزِّعة، قولةً مستفزة للآلهة وعبادها لو كانوا على حق لقاموا في وجهها، فسكوتهم أثبت عجزهم وأثبت أنهم على باطل، الله تعالى يقول لهم ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ ليس فقط يحترقون بجهنم، بل هم وقود النار، ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ﴾ أنتم وآلهتكم التي أشركتموها منع الله حصب أي وقود وحطب جهنم، ﴿ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، هذا مصيرٌ مشئوم نعوذ بالله منه، مصير المشركين مع شركائهم، أما مصير المؤمنين جعلنا الله تعالى بفضله منهم ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾، ما شاء الله، مصيرٌ عظيمٌ هائلٌ رائع، مصيرٌ جميل، مصيرٌ مطمئن، ما شاء الله.
وبهذا تنتهي السورة بعد تعليقٍ صغير كالنتيجة والخلاصة من هذه السورة ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ عليه الصلاة والسلام، يعني يا هذه الأمة بعد هذا البيان الطويل أخلُص إليكم لأقول لكم إن رسولكم محمدًا صلى الله عليه وسلم ليس كما تقولون، ليس مُلكًا ولا سلطانًا ولا قلبًا لنظام حكمٍ ولا غير ذلك في مكة وفي المدينة ولا في العرب ولا في العجم، بل إنه جاء رحمة، لمن؟ للعالمين، ليس لكم فقط بل لكل العالمين، والعالمين تشمل عالم الإنسان، وعالم الجان، وعالم الحيوان، وعالم الحشرات، وعالم النبات، فإن الله تعالى حينما أهلك قوم نوحٍ قبل ذلك بالطوفان، أو أهلك قوم عادٍ بالريح الدبور، أو أهلك قوم صالحٍ بالصيحة، وقوم لوطٍ بالرفع والقلب، وغيرهم كذلك، حينما أهلك أمةً وسلط عليها عذابه، إنما أهلك الأمة بمن فيها، جاء الطوفان فأخذ الكل، ولذلك أمر الله نوحًا أن يحمل معه في السفينة من كلٍ - من كل خلق - من كلٍ زوجين اثنين لتستأنف الحياة بعد الطوفان من كل نوعٍ في الخلق، فجاء الطوفان فأخذ كل شيء، النبات، والحشرات، والحيوان، والكلاب، والحمير، ماتت كل هذه المخلوقات البريئة ودُمرت الأكوان بشؤم الكفر والشرك والعياذ بالله، وبسبب هذا الإنسان الجاهل الضال.
هذه هي سورتنا فكأن هدفها بهذا الاسم - الأنبياء - كأن الله تعالى يقول للناس الأنبياء رحمةٌ من الله لكم فوقِّروهم واعرفوا قدرهم واتبعوا هديهم تفلحوا بإذن الله، كن مع الأنبياء، ذهب الأنبياء وليس في عصرنا أنبياء، كن مع ورثة الأنبياء فلهم ورثة وهم العلماء، كن مع أهل القرآن، كن مع أهل الدين، كن مع صحبة الخير، كن مع أهل العلم، فإنهم هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وهذه شهادة الله لهم في أحاديثه القدسية: "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم"[4]، من جالسهم مجرد مجالسة لا ليتعلم ولا ليذكر ولا لشيء إلا أنه يحب هؤلاء الناس فجالسهم، أو استطاب الجلوس عندهم فجالسهم، "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم".
سورتنا الأنبياء ترتبط بآخر سورة طه رباطًا عظيمًا وارتباطًا وثيقًا كأنهما سورةٌ ممتدة، ففي آخر أو أواخر سورة الأنبياء قبل الآخر بقليل يقول الله تعالى تهديدًا لهذه الأمة ﴿ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴾ يعني لولا أن الله أجل عذاب هذه الأمة وكفارها إلى أجل مسمىً ومحدد لعجل الله لهم بالعذاب كما استعجلوه، ولكان العذاب لزامًا عليهم، وحالًا بهم الآن قبل غد، ﴿ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴾ أي لكان العذاب لزامًا أي لازمًا لهم ومتعجلًا لهم، ﴿ وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴾.
وفي آخرها - آخر آية - يقول الله تعالى ﴿ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ ﴾ أي منتظر ﴿ فَتَرَبَّصُوا ﴾ فانتظروا ﴿ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ﴾، وبهذا تختم سورة طه فستعملون يا كفار هذه الأمة ستعلمون، وعيد ﴿ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ﴾ سيأتي يومٌ تظهر فيه هذه الحقيقة وتُعلن، متى؟ ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ يوم أن يأتي الحساب كلٌ سيعلم حسابه، وكلٌ سيرى من كان ضالًا ومن كان مهتديًا، وقد اقترب هذا الموعد جدًا ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾.
وبما أن السورتين مكيتان فيستمر الموضوع أيضًا الأساس وهو الحديث عن العقيدة، ولكن بشكل يختلف عما عرضت به في سورة طه، فالسورتان متصلتان ببعضهما آخذتان بأعناق بعضهما اتخاذًا عظيمًا وأخذًا شديدًا، وبهذا يتناسب كلام الله تبارك وتعالى ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ﴾.
نحمد الله على نعمة القرآن ونسأله أن يبارك لنا فيها، وأن يتوفنا عليها، وأن يجعلنا من أهلها، والأحق بها، إن ربنا هو الرحمن الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
♦♦ ♦♦ ♦♦
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فأوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي عن عصيانه تعالى ومخالفة أمره، فهو القائل سبحانه وتعالى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
أيها الأحبة الكرام، فهذه سورة الأنبياء المكية التي تحمل الاسم الجامع لكل من أرسله الله تبارك وتعالى عنوانًا عليها، وتشريفًا للأنبياء أن يكون ذكرهم في كلام الله تبارك وتعالى، وتنبيهًا للأمة أن هؤلاء الأنبياء هم صفوة الله من خلقه في كل زمان، وفي كل مكان، وأنهم هم القوم الراشدون، فمن أفلح تبعهم، ومن أصلح عمل بعملهم، فترجم يا مسلم حبك للنبي صلى الله عليه وسلم بالعمل بسنته وباتباع هديه عليه الصلاة والسلام، وبكثرة الصلاة عليه، اللهم صل وسلم وبارك عليه كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون، اللهم آمين.
هناك نقطتان صغيرتان، الأولى لاحظت في هذه السورة مسألة التوحيد والوحدانية، إذ ينبه الله تبارك وتعالى على مصدر هذا الوجود، وهذه الكائنات كلها، مصدر الأحياء مصدرٌ واحد ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾، أي أن كل مخلوقٍ دخل الماء عنصرًا أساسًا في خلقه وفي تكوينه، وهذا يعتبر دعوةً للعلماء الذين يبحثون في الماء وفي الأرض وفي الفلك وفي السموات والآفاق وهنا وهنا، ابحثوا عن الماء كيف كان سببًا لكل حيٍ ليحيا بإذن الله تعالى، هذا إعجاز علمي عظيم يبلغه العلماء أو يقصرون عنه، كله بإذن الله، لكن ابحثوا لتعلموا أن القرآن حقٌ وأنه من عند الله فعلًا.
كما ينبه الله تعالى على وحدة النهاية للأحياء ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾، وما لا نفس له فقد قال الله فيها في آيةٍ أخرى ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾، ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾، ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ إذًا كل حيٍ مهما كان عنده من الماء الذي هو سبب الحياة فالله تعالى يميته ولو في البحر، فقد أهلك قوم نوحٍ في الطوفان، في ماءٍ موجه كالجبال، وأهلك فرعون وجنده في البحر ﴿ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾، فماء الحياة موجود ولكنه يموت به، وهذا من كمال قدرة الله العلي سبحانه وتعالى.
كما نبه الله تعالى إلى وحدة المصير والنهاية، الكل ينتهي إلى نهاية واحدة ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾، نبه الله تبارك وتعالى على وحدة العقيدة، وأن كل الأنبياء هؤلاء إنما أُرسلوا من عند الله برسالة واحدة، أي بدينٍ واحد، قال تعالى ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾، كل رسول جاء بلغ هذه الرسالة المختصرة، أرأيت كيف أن الدين سهل؟ كيف أن الدين يسر؟ أمران اثنان، قل وحقق في حياتك لا إله إلا الله، وحققها بالعبادة لله وحده لا شريك له، تقولها بلسانك وتحققها بالعبادة، ﴿ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ رسالة كل نبي إلى قومه ما خالفها أحد، ولذلك ليس صحيحًا ما يقال الأديان السماوية، إنما هو دينٌ سماويٌ واحد بعث الله به جميع الأنبياء هو دين التوحيد، إنما نقول الشرائع السماوية، فقد بعث الله كل نبي بشريعة، أو كل رسول بشريعة، والشريعة هذه تختلف عن الشريعة الأخرى بما يتناسب مع حال هذه الأمة وحال تلك الأمة، وهذا من رحمة الله ما أرسل الله الرسل إلى رحمةً للعالمين في زمانهم.
كما نبه الله تبارك وتعالى إلى وحدة القانون والسنة في معركة الوجود، الوجود هذا يقوم على معركة منذ بداية الدنيا، من أول ما خلق الله آدم وأبى إبليس أن يسجد له، فنشأ الشر وبدأت المعركة، لأزينن لهم، لأفعلن بهم، لآتينهم، لأغوينهم، كل هذا، بدأت المعركة بين الحق والباطل، وهذا هو الابتلاء والاختبار، أن تعيش بدين الله وتحارب الشيطان وتجاهده وتخالفه، هذه المعركة قامت على سنة واحدة، من آمن وأيقن بها وصدقها من خلال الوقائع الكثيرة المتكررة في الحياة، فإنه يؤمن لا محالة، ويثبت على إيمانه مهما كانت الظروف حالكةً ومظلمةً، وذلك أن الله تعالى أخبر أن الباطل دائمًا مهزوم، إن لم يهزم اليوم ففي الغد، وإن لم يكن في الغد ففي بعد الغد، في النهاية سيهزم الباطل، قال تعالى مبينًا قوة هذا القانون ومضي هذه السنة وأنها لا تتخلف أبدًا ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ لكم الويل يعني يا أهل الباطل حينما يهزم باطلكم فلكم الويل بما وصفتم به الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ووحيه وكتابه ودينه من أوصاف لا تليق ولا ينبغي أن تقال، والله تعالى في هذه الآية القصيرة يصور لك الحق والباطل وكأنهما رجلان يتصارعان في حلبة مصارعة، رجلان نازل أحدهما الآخر بالضرب، فجاء الحق وضرب الباطل ضربةً برأسه في دماغه فدمغه، دمغه أي ضربه على دماغه ضربة مات بها الباطل وزهق ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ ﴾ والحق، حتى لا تغتر يا صاحب الحق، حتى لا تأخذك النشوة يا مسلم، اعلم أن لا نصرة لك إلا من عند الله ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾، فيقول الله تعالى: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ ﴾ الله تعالى هو الذي يدفع الحق دفعًا على الباطل فيدمغه بدماغه، أو ضربةً على دماغه فيزهق بها، ويجملها الله تعالى من بدايتها إلى نهايتها ويمثل سرعة هذه المعركة في آية أخرى شبيهة يقول ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ﴾ وكأن الحق بمجرد ما يدخل المكان الباطل يزهق، ولكن في آيتنا هذه في سورة الأنبياء يبين الله تعالى طبيعة المعركة أن الباطل يقف ويقاوم أحيانًا، يقاوم الحق في بعض الأحيان لفترة، لكنها مقاومةٌ ضعيفة، فيقوم الحق بقوة الله ويدمغ الباطل على دماغة دمغةً فيزهق بها ﴿ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾، وأن الأنبياء ومن تبعهم من أهل الصلاح دائمًا هم المنصورون، كما قالها في سورةٌ أخرى ﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾، ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ﴾، وهنا في سورة الأنبياء يقول الله تعالى ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا ﴾ كتب الله أي قرر وقضى قضاءً مبرمًا لا ينفصم أبدًا، ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ﴾ تفسير الآية أي كتبنا في زبور داود والكتب السابقة من بعد الذكر أي من بعد القرآن، ومن بعد هنا بمعنى من قبل، وهذا يجوز في لغة العرب أن توضع من قبل مكان من بعد، وكأن الله يصور لنا أنها دائرةٌ دوارة لا تنتهي، ألها كآخرها وآخرها كأولها، فمن بعد الذكر من قبل الذكر هذه سنةٌ ثابتة، قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾، طالما أنتم صالحون فالأرض لكم إن شاء الله، ليست أرض سيناء ولا أرض فلسطين ولا أرض كذا، لا بل الأرض، الأرض كلها في العالم للمسلمين، لأهل الصلاح، وإن لم يكن المسلمون أهل صلاح فليس لهم شيءٌ في الأرض، لن يأخذوها، لن ينالوها، الله يورث الأرض أي أرض الدنيا لعباده الصالحين، ﴿ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا ﴾ بلاغ من الله سبحانه وتعالى يبلغ به عباده، أن الأرض لهم بمعنى أن الاستخلاف والاستبقاء والخلافة في الأرض والرياسة والسيادة والزعامة لعبادي الصالحين ﴿ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ هكذا قرر الله تعالى.
وهكذا يذكر الله جملةً من الأنبياء، ستة عشر نبيًا بستة عشر أمة أو نحوها، كلهم شيءٌ واحد، مصدرٌ واحدٌ بُعثوا منه، دينٌ واحد لا إله إلا الله، أو لا إله إلا أنا فاعبدون، بُعثوا بها جميعًا، كلهم يدعون إلى الفضائل وينهون عن الرذائل، كلهم يدعون إلى التي هي أقوم في هذه الحياة، وفي النهاية يدعونا إلى الجنة والبعد من النار، فالسورة كلها تشير إلى توحد هذا الوجود، وارتباط وحدته هذه بوحدة الدين والعقيدة، ومن خلال ما ذكر الله من بعض قصص الأمم في هذه السورة يبين ارتباط الدين بالحياة، فمن صلح دينه صحت حياته، ومن ضاع دينه فسدت حياته، وذلك المعنى كان سابقًا في سورة طه إذ يقول ربنا ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾، معيشة ضنكا ضيقة ﴿ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾.
هذه الأولى، والثانية أقصر منها بكثير حول قول الله تعالى ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾، فهمها المشركون قديمًا على أن كل من عُبَد من دون الله فهو في جهنم، فقالوا مرحبًا بدارٍ فيها عيسى وفيها الملائكة نارٌ نار لا حجر طالما عيسى معنا والملائكة معنا في النار فمرحبًا بهذه النار، لا، لا يُدخل الله عيسى النار أبدًا، ولا يدخل الله أحدًا من ملائكته النار وليس لهم جنة ولا نار، وبعض الملائكة خَزَنةٌ في النار ولا يعذبون بها، يقومون عليها وعلى تعذيب من فيها ولا يتأثرون بحرها ولا ببردها، إنما معنى الآية، المعنى الصحيح لها، إنكم وما تعبدون من دون الله ممن رضي أن يُعبد من دون الله، فرح بذلك، رضي بذلك، كفرعون، والنمرود وغيرهما، علموا أن الناس يقدسونهم ويعبدونهم وفرحوا بهذا ورضوا به، حصب جهنم، لك الإله الذي رضي بهذا، أو ذلك الشيء الذي رضي بالألوهية من دون الله وفرح بها هو ومن عَبَده يجمعهم الله في النار ليقول لهم هذا إلهكم الذي استعبدكم، كفرعون هو الذي استعبد قومه، هذا إلهكم الذي استعبدكم وصدقتموه أنه إله حين قال أنا ربكم الأعلى ما علمت لكم من إله غيري، إنه معكم يحترق معكم بالنار، وهذه آلهتكم أيضًا التي اتخذتموها من دون الله كالحجارة، وإن لم تكن راضية فإنها لا تُعذب الحجارة ولا تشعر بألم إنما يحشرها الله مع عبَّادها في النار حجةً على الناس، هذه آلهتكم فاجعلوها تدفع عنكم أو تدفع عن نفسها، فيكون هناك تعذيبٌ جسدي وتعذيبٌ نفسيٌ أيضًا أننا ضيعنا حياةً طويلة في عبادة الأحجار والأصنام وبان أنها ليست آلهة فيا حسرتنا على حياتنا، وعلى ما فرطنا في جنب الله.
هذا تنبيهٌ على هذه الآية لئلا يشبَّه علينا بها، فمعناها إنكم وما تعبدون من دون الله ممن رضي أن يكون إلهًا مع الله أو من دون الله، أنتم جميعًا حصب جهنم، أما من رفض أن يُعبد من دون الله كعيسى عليه السلام لو يعلم بذلك لتبرأ منه كما سيتبرأ يوم القيامة ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ ﴾ يقول المفسرون: يُسمع لعظم عيسى عليه السلام يومها صوت، يعني عظمه يطقطق من شدة السؤال ومن هيبة الموقف ﴿ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ اللهم يعلم أنه قال هذا، وشهد له بهذا في سورة مريم، أول ما أنطقه الله وهو طفلٌ مولودٌ صغير ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ كيف إله يصلي لإله، ويزكي من أجل إله، كيف إله يقول: إني عبد الله؟! هذا ينقض الأمر الذي يزعمه الناس فيه، والملائكة لم ترض بعبادة أحد وتتبرأ يوم القيامة من عبَّادها كذلك، وهكذا ينفرد الله تعالى بالألوهية في الدنيا حقًا، وينفرد بالملك يوم القيامة فلا إله غيره.
ونسأل الله تعالى أن يجعلنا في عباده الموحدين، وأن يرزقنا اتباع النبيين والمرسلين، وأن يحشرنا معهم يوم الدين، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، نسألك القبول منا والمغفرة لنا والرضا عنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم انصر الدين وأعز الإسلام والمسلمين، اللهم رفع راية الدين، اللهم ارفع راية الدين ومكِّن لنا ديننا الذي ارتضيت لنا يا رب العالمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ورافع الدرجات، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أعمالنا أواخرها، وأوسع أرزاقنا عند كبر سننا، وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، اللهم اشف مرضانا، اللهم اشف مرضانا، اللهم اشف مرضانا، وارحم أمواتنا، اللهم ارحم أمواتنا، اللهم ارحم أمواتنا برحمتك الواسعة يا رب العالمين.
عباد الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾، اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم..
وأقم الصلاة.
[1] أخرجه البخاري (3187)، ومسلم (4362).
[2] هي مكية بالاتفاق، وحكى ابن عطية والقرطبي الإجماع على ذلك، ونقل السيوطي في الإتقان استثناء قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الأنبياء: 44]، ولم يعزه إلى قائل.
ولعله أخذه من رواية عن مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن المعنى ننقصها بفتح البلدان، أي بناء على أن المراد من الرؤية في الآية الرؤية البصرية، وأن المراد من الأرض أرض الحجاز، وأن المراد من النقص نقص سلطان الشرك منها.
وكل ذلك ليس بالمتعين ولا بالراجح.
وسيأتي بيانه في موضعه.
وقد تقدم بيانه في نظيرها من سورة الرعد التي هي أيضا مكية، فالأرجح أن سورة الأنبياء مكية كلها.
أهـ التحرير والتنوير (18/6).
[3] هذا الحديث ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أخرجه البخاري (4994)، موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري (6045)، ومسلم (2689).