أرشيف المقالات

أثر مظاهر ثواب المؤمنين على المجتمع

مدة قراءة المادة : 23 دقائق .
أثر مظاهر ثواب المؤمنين على المجتمع


1- التحاكم بشرع الله تعالى:
إن مجتمعاً يسود بين أهله الإيمان بالله تعالى واليقين بالآخرة والجزاء الحسن في الجنة، لا شك أنه مجتمع تسوده المحبة ويعمه السلام؛ لأن تعظيم الله تعالى سيجعل هذه النفوس لا ترضى بغير شرع الله تعالى بديلاً، ولا تقبل الاستسلام إلا لحكمه، وهذا بدوره سيضفي الأمن والأمان على مثل هذه المجتمعات، لأن أهلها يخافون الله ويخافون يوم الفصل والجزاء، ويخامون من حرمان الجنة، وما أعد الله تعالى لهم فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، إذاً لفلا تحاكم إلا لشرع الله، اقتضاء بقوله تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [1]، ولا تعامل إلا بأخلاق الإسلام الفاضلة، فلا خيانة ولا غش ولا ظلم، ولا يعني هذا أنه لا يوجد في المجتمعات المسلمة من يظلم أو يخون أو يغش، فهذا لم يسلم منه عصر النبوة ولا الخلافة الراشدة، لكن هذه المعاصي تبقى فردية، يؤدّب أفرادها بحكم الله تعالى وحدوده، إذا لم يردعهم وازع الدين والخوف من الله، والحالات الفردية تلك ليست عامة، أما عندما يقل الوازع الديني والخوف من الآخرة، ويكون التحاكم إلى أهواء البشر وحكمهم فهذا هو البلاء العظيم والفساد الكبير، حيث تداس القيم والحرمات، ويأكل القوي الضعيف، وبالتالي، لا يأمن الناس على أديانهم ولا أنفسهم ولا أموالهم ولا أعراضهم، وكفى بذلك سبباً في عدم الأمن والاستقرار، وانتشار الخوف، واختلال حياة الناس.
 
2- الاندفاع لمرضاة الله تعالى:
إن التصور البديع للجنان والاعتقاد الجازم له أثر كبير في حياة المجتمع الإسلامي، ولأهمية هذا الركن من أركان الإيمان نجد أن السياق القرآن يقرن كثيراً بين الآيات التي تتحدث عن الإيمان بالله والآيات التي تتحدث عن اليوم الآخر، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [2]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [3].
لذلك إن التصور البديع للجنان مهم في نهضة الأمة، فعندما تحيا صورة الجنان في نفوس أفراد الأمة يندفعون لمرضاة الله تعالى ويقدمون الغالي والنفيس ويتخلصون من الوهن وكراهة الموت وتتفجر في نفوسهم طاقات هائلة تمدهم بعزيمة وإصرار ومثابرة على إعزاز دين الله.
 
«ولعل من حكمة الاهتمام البالغ بالتذكير باليوم الآخر، كثره نسيان العباد له وغفلتهم عنه، بسبب تثاقلهم إلى الأرض، وحبهم لمتاع الدنيا، فيكون الإيمان به وبما فيه من نعيم مقيم مخففا من الغلو في حب الدنيا، فيعلم العباد أن شهوات الدنيا كلها لا تستحق منهم الطلب والجهد التنافس فيها، وأن الذي يستحق ذلك منهم إنما هو ما أعد الله لهم في ذلك اليوم العظيم»[4]، كما قال تعالى ﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [5].
 
لذلك إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يربي أصحابه على السعي لمرضات الله تعالى حتى يدخلهم جناته العظيمة، فكان لهم يصف لهم الجنات من خلال المنهج القرآني، حتى لكأن الصحابي يرأى الجنة معروضة أمامه في تلك اللحظة، وينفعل بها كأنه يراها في عالم العيان بالفعل، وليست أمراً يتصور حدوثه في المستقبل، وتصبح الآخرة كأنها الحاضر الذي يعيشه الإنسان، ويصبح الحاضر الذي يعيشه بالفعل كأنه ماض سحيق تفصله عن الإنسان آماد، وأبعاد[6].
 
3- عدم الندم واليأس:
أن المسلم العامل لدين الله لا يندم على كل عمل عمله ولو لم ير ثمرة عمله في الدنيا.
إن الذين يريدون إقامة منهج الله في الأرض، ويشتغلون بالدعوة إلى الله والتربية على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الناس الذين اصطفاهم الله من بين البشر للقيام بهذه المهمة، قد لا يأتي عليهم اليوم الذين يرون يه ثمرات أعمالهم، أو يرون فيه قيام المنهج الصحيح كما أراده رب العالمين على الأرض، وقد لا يأتي عليهم اليوم الذي يرون فيه سراج الدين وهاجاً، وقد لا يأتي عليهم اليوم الذي يرون الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، ولكنهم بسبب إيمانهم أن هذه الأعمال لن تضيع، وأن أجرها عند رب العالمين فهم لذلك يعملون مع طول الليل الحالك، ولو لم يروا بزوغ الفجر؛ اقتضاء بقوله تعالى: اقتضاء بقوله تعالى: ﴿ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [7]، لأنهم يعلمون أين الفجر الحقيقي، ولأنهم يعلمون أن كل هذه الأعمال لن تذهب سدىً أبداً، وأنهم سيجزون بها عند الله الجزاء الأوفى؛ فيهون على هذا المسلم الصادق طول الطريق والمشقات والعقبات المجودة في هذا الطريق؛ لأنه يعلم متى وأين سيلقى هذا الجزاء عند رب العالمين.
ولا يقلق على الأجر وإن كان العمل صغيراً، فهو يعلم أن هناك رجلاً دخل الجنة بسبب جذع أزاحه من الطريق كان يؤذي المسلمين، يعلم هذا فهو لا يتهاون بأي عمل: «اتقوا النار ولو بشق تمرة»[8]، وعندما يعلم الإنسان أنه حتى شق التمرة يأخذ عليها أجرا، فإنه لن يتهاون بالأعمال الصالحة ولو كانت قليلة.
«والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه ونفي القلق والسخط والقنوط، إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض، الجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة، إن الحساب الختامي هناك، والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب.
فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاؤه، ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس، فسوف يوفاه بميزان الله[9].
 
4- أثر مظاهر العقاب الأخروي على الفرد والمجتمع:
آثار فردية:
1- الإخلاص لله عز وجل والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم:
إن الموقن بلقاء الله عز وجل يوم الفزع الأكبر، لا تلقاه إلا حريصاً على أعماله، خائفاً من كل ما يحبطها من أنواع الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر، حيث إن الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، فتصير هباءً منثوراً، والشرك الأصغر يحبط العمل الذي حصل فيه هذا النوع من الشرك كيسير الرياء، والعجب، والمن، وطلب الجاه والشرف في الدنيا، فكلما كان العبد موقتاً بلقاء ربه كان منه الحرص الشديد على ألا تضيع منه أعماله الصالحة في موقف القيامة، يوم أن يكون في أشد الأوقات حاجة إليها؛ ولذلك فهو يجاهد نفسه بحماية أعماله في الدنيا بالإخلاص فيها لله تعالى لعل الله عز وجل أن ينفعه بها، كمنا أن اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل يجعل العبد في أعماله كلها متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم غير مبتدع ولا مبدل؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً صواباً، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [10].
 
2- تربية الشعور الحقيقي بالمسؤولية:
وأول ما ينعكس من مظاهر العقاب الأخروي على الفرد هو تربية الشعور الحقيقي بالمسؤولية، وهذا الإيمان بالعقاب الأخروي هو الدافع الحقيقي الذي يكون وراء الشعور بالمسؤولية، ولا يمكن أن يتحقق هذا الشعور بالمسؤولية بدون هذا الإيمان، ولذلك لاحظنا أن ميزة التشريع الإسلامي تكمن في تقبيل الناس له، ودون أي تهرب أو احتيال على هذا القانون الإلهي، ما دام الملائكة الحفظة يكتبون، كما قال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [11] وقال تعالى: ﴿ كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾ [12]، وما دام يوم الحساب والجزاء ينتظرنا بالمرصاد، فكل من ربي تربية إسلامية يشعر بتمام المسؤولية عن كل أعماله، خوفا من الوقوف للحساب بين يدي الخالق في يوم تشخص فيه الأبصار[13].
 
3- تقصير الأمل وطرد الغفلة:
إن من أخطر الأبواب التي يدخل منها الشيطان على العبد، طول الأمل، والأماني الخادعة التي تجعل صاحبها في غفلة شديدة عن الآخرة، واغترار بزينة الحياة الدنيا، وتضييع ساعات العمر النفيسة في اللهث وراءها حتى يأتي الأجل الذي يقطع هذه الآمال، وتذهب النفس حسرات على ما فرطت في عمرها، وأضاعت من أوقاتها.
كما قال تعالى: ﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾ [14]، ولكن اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل والتذكر الدائم ليوم الحساب، يومئذ لا يخفى شيئ من نوايا البشر وأعمالهم، حيث تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وينشغل كل امرئ بنفسه ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [15]، هو العلاج الناجع لطول الأمل وضياع الأوقات.
 
ولما كانت الغفلة قد استولت على الكثيرين في هذا الزمان فهم غارقون في أنواع الملذات والالتهاء والألعاب، والمنكرات وإضافة الأوقات كان لا بد من تهذيب النفوس وترقيتها لتشاهد ما أعد الله الواحد القهار للكافرين، إنها تطرد الغفلة، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [16]، وقال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [17]، لذلك يكثر القرآن الكريم من ذكر يوم القيامة والنار، حتى لا تكاد تمر على سورة من سور القرآن إلا وتجد فيها حديثا تفصيل ذلك اليوم وما فيها من الأحداث والأحوال، بأساليب كثيرة متنوعة وذلك لطرد الغفلة وتقصير الأمل.
 
آثار اجتماعية:
1- التكافل الاجتماعي:
إن الإيمان بما في الجنة والنار هو المحرك للإنسان في عمل الخيرات، وفي الانتهاء عن المنكرات.
وينشئ من هذه المظاهر العقاب في الآخرة وحدة وتماسكاً بين أفراده، فالمجتمع العابد لا يكون إفراده سائبين مبعثرين لا شأن لأحدهم بما يجري للآخر من أحوال وظروف، بل هم يرتبطون برباط معين متين هو رباط الأخوة التي عقدها الله تعالى بينهم، لذلك نرى بأن الله تعالى ربط أمر طعام إطعام المسكين بالإيمان بالآخرة، قال تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾ [18] فالأمر عندنا أسمى من أن يكون في الجهات الأخلاقية، وأسمى من أن يكون أوامر قسرية تنهب الأغنياء لتعغطي الفقراء، إنما الأمر عندنا مرتبط بالآخرة، ومرتبط بأصل الإيمان، قال تعالى: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ﴾ [19]، وانظروا كيف يحض هذا الدين على المسكين ويربطه بالرحمة؛ فيكون إطعام المسكين مما يحض عليه من الرحمة، كما قال تعالى: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴾ [20]، وقس على هذا بقية الأمور بين أفراد المجتمع، ومن هنا ينشئ التكافل في المجتمع ويعم الخبر.
 
2- اجتناب الظلم بشتى صوره:
نظراً لكثرة الظلم والشحناء بين المسلمين في عصرنا الحاضر، أنه لا شيء يمنع النفس من ظلم غيرها في نفس أو مال أو عرض، كاليقين بالرجوع إلى الله عز وجل،.
وإعطاء كل ذي حق حقه، وإنصاف المظلوم ممن ظلمه، فإذا تذكر العبد هذا الموقف العصيب الرهيب، وأنه لا يضيع عند الله شيء، كما قال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾[21] وقوله تعالى: ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ﴾ [22]، إذا تذكر العبد هذه المواقف واتعظ بهذه الآيات، وأيقن بتحققها فلا شك أن ذلك سيمنعه من التهاون في حقوق الخلق، والحذر من ظلمهم في دم أو مال أو عرض، خاصة وأن حقوق العباد مبنية على المشاحة والحرص على استيفاء الحق من الخصم، وبالذات في يوم الهول الأعظم الذي يتمنى العبد فيه أن يكون له مظلمة عند أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فضلاً عن غيرهم من الأباعد، ومعلوم أن التقاضي هنالك ليس بالدينار والدرهم ولكن بالحسنات والسيئات.
 
فيا ليتنا نتذكر دائماً يوم الفصل العظيم، يوم يفصل الحكم العدل بين الناس، ويقضي بين الخصماء بحكمه وهو أحكم الحاكمين، ليتنا لا نغفل عن هذا المشهد العظيم، حتى لا يجور بعضنا على بعض، ولا يأكل بعضنا لحوم بعض، ولا نتكلم إلا بعلم وعدل، إنه لا شيء يمنع من ذلك كله إلا الخوف من الله عز وجل وخوف الوقوف بين يديه، واليقين الحق بأن ذلك كائن في يوم لا ريب فيه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ [23].
 
3- علاج مرتكبي المحرمات:
إن من أهم الآثار المترتبة للعقوبات الأخروية على المجتمع هي علاج مرتكبي المحرمات.
نحن نرى في عصرنا الحاضر غرق الناس بالشهوات والمحرمات، انتهكت المحرمات والأعراض، وعمت المنكرات، إذاً ما هو العلاج الإيماني للذين يقعون في الفواحش والرذائل، والتطفيف في المكيال والميزان، والغش والسرقة، والغصب، وأكل أموال الناس بالباطل، ومنع الزكاة، وترك الصلوات، وعدم إنكار المنكر، وترك معالي الأمور والطاعات وغير ذلك؟.
 
والجواب أن المتأمل في القرآن الكريم يرى بأن الله تعالى عالج هذه المحرمات بربطها بعقوبات في النار، فنرى أن الله تعالى ربط الشرك بالخلود في النار في قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ﴾ [24]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار»[25].
 
وقال عن الربا: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [26]، وكما قال عن الشرك والقتل والزنا بأنهم يعذبون في واد في جهنم في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ﴾ [27]، كما حذر الذين يتساهلون في الصلوات بقوله تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [28].
وكما أننا نجد أوصاف الأشياء في النار بالتفصيل حتى الطعام والشراب والملبس، وألواناً وصوراً من العذاب، وكيف يعذب أهل النار بالشدة؟ وغير ذلك، وكل ذلك لعلاج مرتكبي المحرمات والمنكرات.
 
الخاتمة:
الحمد لله الذي وفقني برحمته وامتنانه إلى خاتمة الرسالة ونتائجها، والصلاة والسلام على خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فبعد شوط قصير الذي قضيناه في رحاب الرسالة من أبوابها وفصولها وأبحاثها قد توصلت إلى عدة نتائج وهي عبارة عن النقاط التالية:
1- إن المسؤولية في الإسلام جامعة تشمل كل نواحي الحياة.
2- إن مصدر إلزام المسؤولية على الإنسان هو الله تعالى وحده.
3- إن المرأة تساوي الرجل في المسؤولية إلا في بعض الأمور التي لا تتناسب أنوثتها وعزتها.
4- إن الإنسان ينال جزاءه عمله في الدنيا والآخرة.
5- إن الجزاء هو الدافع الأساسي للإنسان للشعور بالمسؤولية.
6- إن الحياة جسر يعبره الإنسان إلى الحياة الأبدية فإما إلى الجنة أو النار.
7- إن من أهم ميزات الجزاء الإلهي العدل والرحمة العامة الشاملة.
8- الدنيا دار الابتلاء والآخرة دار القرار.
9- رحمة الله واسعة حيث يثيب المؤمن والكافر في هذه الدنيا لأن الله لا يضيع أجر المحسنين.
10- تتميز المسؤولية في الإسلام بالمسؤولية الفردية فلا يسأل الإنسان إلا عما باشر أو تسبب فيه من أعمال.
11- إن الشعور بالمسؤولية يغير سلوكيات الإنسان ومعاملاته في الحياة.
12- إن الإنسان محاسب لنفسه يوم القيامة لقوله تعالى: ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ (14) سورة الإسراء.
13- فضل الله تعالى بعباده حيث جعل جزاء السيئة سيئة مثلها والحسنة بعشر أمثالها.
14- إن الجزاء الأوفى في الدار الآخرة.
15- أن ما فصله القرآن الكريم من أحوال الآخرة ومنازلها وما ذكر من أوصاف الجنة وألوان نعيمها ومن أوصاف النار وأهوالها يغرس في قلب المؤمن الخوف من عذاب الله تعالى والطمع والرجاء في رحمته وثوابه، مما يدفع الإنسان إلى الالتزام بشرع الله التمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
16- إن الترغيب الترهيب يقوي في الإنسان الشعور بالآخرة وما فيها من نعيم وعذاب مقيم.
17- المسؤولية في الإسلام حددت مهمة الإنسان في هذا الكون، وبينت الحكمة من خلقه وإنشائه، وان له وقتاً وأجلاً محدداً، ثم يؤول إلى الجزاء الأبدي إما نعيم أو جحيم.
 
وأخيرا هذا ما تيسر لي من ذكر نتائج البحث فله الفضل والمنة، وهذا جهد بشري عرضة للنقص والخطأ فما كان فيه من الصواب فمن الله وما كان فيه من الخطأ فمني ومن الشيطان والله أسأل أن يرينا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

[1] سورة المائدة.
آية 45.

[2] سورة التوبة.
آية 18.


[3] سورة الطلاق.
آية 2.

[4] الإيمان.
أركانه، حقيقته، د.
محمد نعيم ياسين، ص: 60.

[5] سورة التوبة.
آية 41.


[6] دراسات قرآنية، محمد قطب، ص: 81، ط: الخامسة 1408ه، 1988م، دار الشروق.


[7] سورة يوسف.
آية 90.


[8] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، رقم الحديث: 1417، ص: 229.


[9] اليوم الآخر في ظلال القرآن أحمد فائز، ص: 17.

[10] سورة الكهف.
آية 110.


[11] سورة ق.
آية 18.


[12] سورة الانفطار.
11، 12.

[13] راجع أصول التربية الإسلامية وأساليبها، عبد الرحمن النحلاوي، ص: 90، ط: الأولى 1979م، دار الفكر، بدمشق.


[14] سورة الزمر.
آية 56.


[15] سورة عبس.
آية 34 – 37.


[16] سورة مريم.
آية 39.


[17] سورة الأنبياء.
آية 1، 2.

[18] سورة الماعون.
آية 1 – 3.


[19] سورة المدثر.
آية 42 – 44.


[20] سورة البلد.
آية 11 – 14.


[21] سورة الأنبياء.
آية 47.


[22] سورة طه.
آية 111.

[23] سورة الزمر.
آية 30، 31.

[24] سورة المائدة.
آية 72.


[25] رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، رقم الحديث: 1238، ص: 198.


[26] سورة البقرة.
275.


[27] سورة الفرقان.
آية 68، 69.


[28] سورة الماعون.
آية 4، 5.

شارك الخبر

المرئيات-١