أرشيف المقالات

المداراة ضرورة وليست منهج حياة!

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
2المداراة ضرورة، وليست منهج حياة!
 

من المفاهيم الملتبسة عند البعض: مفهوم المداراة، وهو يعني التصنُّع في إظهار حسْن العِشرة لمن يُخشى شرُّه، ولا يؤمن ضررُه.
 
ولأنَّ المسلم إنسان واضِح، ظاهره كباطنه، وسلوكه كاعتقاده؛ كان مفهوم المُداراة ضرورة من الضرورات الشرعية والاجتماعية المُلجئة؛ لأنها خِلاف الأصل في طبيعة المسلم التي لا تَعرف الازدواجية في التعامل، والضرورة إنما تقدَّر بقدرها، وهذا يعني أن المداراة المطلوبة إنما تكون بإلانة القول، وطلاقة الوجه، ونحو هذا، مما يدخل في حسن العشرة، وهذا شأن المسلم الذي وصفه نبيُّه بأنه ((مَن سلمَ الناس من لسانه ويده))، وبأنه ((ليس بطعَّان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء)).
 
ولكن بعض الناس جعلوا من المداراة منهج حياة، يتوسَّلون به إلى نَيل مآربهم، على حساب المبادئ والقيم الدينية والخلُقية، فيتجاوَزون القدر المسموح به شرعًا إلى المدح الكاذب، والنفاق المكشوف، وقد جعلوا شعار هذا المنهج: "دارِهم ما دمتَ في دارهم، وأرضِهم ما دمتَ في أرضهم".
 
يعني: افعل ما يُرضيهم ولو أغضبتَ ربك، وأذهبتَ دينك، ما دمت مقيمًا بينهم!
 
وهذا - لعمري - ليس من المداراة في شيء، بل هي المداهنة المحرَّمة شرعًا، المُذهبة للدين والمروءة، والفرق بينهما - كما يقول أهل العلم - أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين، أو هما معًا، والمداهنة بذْل الدِّين لصلاح الدنيا!
 
وهذه بعض المعاني المستفادة مما رواه الشيخان من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ((بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة))، فلما جلس تطلَّق النبي صلى الله  عليه وسلم في وجهه، وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت عائشة: يا رسول الله، حين رأيتَ الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلَّقت في وجهه، وانبسطت إليه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة، متى عهدتني فاحشًا؟ إنَّ شرَّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة منْ تركه الناس اتِّقاء شرِّه))، وفي رواية: ((اتِّقاء فُحشهِ)).
 
إن سؤال السيدة عائشة رضي الله عنها هذا السؤال الموحي بالتعجب والدهشة من ذم النبي صلى الله عليه وسلم للرجل، وتلطفه معه في آنٍ واحد - ليدلُّ بوضوح على ما تقرَّر في النفوس مِن أنَّ المسلم ليس له إلا وجه واحد يَلقى به الناس، لكنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعلَمها أنَّ واحدية وجه المؤمن لا تَمنعُه من التلطُّف مع مَن يُخشى شرُّه من الناس، لكن بشرط ألا يكون ذلك على حساب دينه، وقد وفى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرضين معًا، فأبان عن حال الرجل، لا في وجهه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يواجه أحدًا بما يكره، وكان الرجل من المنافقين، ثم عامَلَه بلطفٍ، وألان له القول، دون أن يمدحه أو يُثني عليه، أو يقدم له تنازلاً دينيًّا، وهذا مِن حسْن سياسته، وكريم عشرته صلى الله عليه وسلم، فهلا اقتدينا به!

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢