أرشيف المقالات

نصيحة للمظلوم

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2نصيحة للمظلوم
 
لا تشغل نفسك بسبِّ أحد، وفوض الأمر لله، وإذا دعوت على الظالم، فاحذر أن تزيد في دعائك على حد الاستيفاء؛ فإن الرجل إذا دعا على ظالمه استوفى حقه، فإن زاد أصبح للظالم لديه حق[1].
 
• وجاء في "شعب الإيمان"(5/ 287) عن الهيثم بن عبيد الصيدلاني قال: "سمع ابن سيرين رجلًا يسب الحجاج، فقال: مه أيها الرجل! إنك لو وافيت الآخرة، كان أصغر ذنب عملته قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج، واعلم أن الله عز وجل حَكَمٌ عدل، إن أخذ من الحجاج لمن ظلمه شيئًا فشيئًا، أخذ للحجاج ممن ظلمه، فلا تشغلن نفسك بسب أحد"؛ اهـ.
 
• فالمسموح به في حالة التعرض للظلم أن يقول المظلوم: "ظلمني فلان حقي، أكل مالي."، وليس الدعاء على الظالم، وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: ﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 148].
 
وانظر حينما أوذي نوح عليه السلام، فإنه دعا قائلًا: ﴿ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴾ [القمر: 10]، فكان من ثمرة هذا الدعاء المهذب ما حكاه القرآن: ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ [القمر: 11، 12].
 
فليكن توجهنا إلى الله، وشكوانا إليه؛ فإنه يسمع ويرى.
 
• ولله در القائل:






أحبُّ مكارمَ الأخلاق جهدي
وأكره أن أَعِيبَ وأن أُعابا


وأصفَحُ عن سِبابِ الناس حِلْمًا
وشرُّ الناسِ مَن يهوى السِّبابا






(أدب الدنيا والدين: ص303).
 
الصبر على المظلمة طلبًا لثواب الله أفضل من الانتصار من الظالم:
ويدل على هذا قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126].
 
فأذن للمظلوم في الانتصار بقدر مظلمته، والصبر على المظلمة أفضل؛ طلبًا لثواب الله.
 
وقد روي في الحديث الذي أخرجه الحاكم من حديث أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: إنك إن ذهبت تدعو على آخر أنه ظلمك، وإن آخر يدعو عليك أنك ظلمته، فإن شئت استجبنا لك وعليك، وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة فأوسعكما عفوي)).
 
ومعنى الحديث: أن الإنسان ربما يكون له حق وعليه حق، فإذا دعا على ظالم استوفى حقه، وبقي الذي عليه، لكن إن لم يدع هو على من ظلمه، ولم يدع عليه أحد قد ظلمه هو، فالله سبحانه وتعالى يعفو عنهما يوم القيامة، وقد جاء في حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارحموا تُرحَموا، واغفِروا يُغفَر لكم)).
 
• أضف لهذا أن الله تعالى يزيده عزًّا بهذا الصبر.
 
ففي "مسند الإمام أحمد" من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ثلاثٌ أقسم عليهن، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه، قال: ما نقص مال عبدٍ من صدقة، ولا ظلم عبدٌ مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزًّا، ولا فتح باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر [أو كلمة نحوها]))؛ (صحيح الجامع: 3024).
 
الخلاصة:
أنه من ظلم وانتصر من ظالمه بقدر مظلمته، فما عليه من سبيل، ولكن الأفضل له ولدينه أن يصبر ويحتسب، وهناك درجة أعلى وأفضل من هذا كله، وهي: أن يعفو عن الظالم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [الشورى: 41]، ثم قال تعالى: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43].
 
• وهناك من الآيات والأحاديث التي تدل على هذا الأصل الأصيل، والمعنى العظيم.
 
منها قول رب العالمين: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].
 
قال العلماء: "جعل الله المؤمنين صنفين: صنف يعفو عن الظالم، فبدأ بذكرهم في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ [الشورى: 37]، وصنف ينتصرون من ظالمهم، ثم بين حد الانتصار، بقوله: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40]، فينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي"؛ (الجامع لأحكام القرآن: 16/ 40).
 
وقال تعالى: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]، وقال تعالى: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22].
 
• فالله تعالى لا يزيد هذا العبد الذي يعفو إلا عزًّا؛ فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله)) - وفي رواية عند الإمام أحمد: ((ولا يعفو عبدٌ عن مظلمة، إلا زاده الله بها عزًّا يوم القيامة.)).
 
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم:
• في حديث أخرجه أبو داود وابن حبان عن أبي جري جابر بن سليم رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، اعهد إلي، قال: ((لا تسبن أحدًا))، قال: فما سببت بعده حرًّا ولا عبدًا، ولا بعيرًا ولا شاة، قال: ((ولا تحقرن شيئًا من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسطٌ إليه وجهك، إن ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار[2]؛ فإنها من المَخِيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيَّرك بما يعلم فيك، فلا تعيره بما تعلم فيه؛ فإنما وبال ذلك عليه[3]))؛ (صحيح الجامع: 7309)، (الصحيحة: 1109، 1352).
 
• وفي رواية عند الطبراني وأبي نعيم في "الحلية":
((.
وإن امرؤ سبك بما يعلم فيك، فلا تسبه بما تعلم فيه؛ فإن أجره لك، ووباله على من قاله)
)
؛ (صححه الألباني في الصحيحة: 2340).
 
فالنبي صلى الله عليه وسلم ينصح ويوصي المسلم أن يتجنب السب؛ رجاء أن يسلم من عقاب الله تعالى، وينظر لأخيه بعين الحسن والأدب؛ رجاء الثواب من الله تعالى، ولا يذكر لصاحبه عيبًا، ولا يذكره بأقبح ما فيه؛ خشية عذاب الله، فكل شيء يصدر من العبد محاسب عليه؛ فالكَيِّس من كظم غيظه، وصبر وترك ميدان التطاحن والسباب، وعوَّد لسانه على الألفاظ الحميدة، وطيب القول.



[1] ذكر الغزالي خبر في كتاب "الإحياء"(3/ 169) وفيه: "أن المظلوم ليدعو على الظالم حتى يكافئه، ثم يبقى للظالم عنده فضلة يوم القيامة، وهذا الحديث ليس له أصل، وهناك حديث رواه الترمذي بسند ضعيف عن عائشة iمرفوعا: "مَن دعا على مَن ظلمه فقد انتصر"


[2] إسبال الإزار: إطالته.


[3] وبال ذلك عليه: أي إثمه وذنبه عليه، أو بمعنى آخر: أن ضرر سبه يعود عليه بالعقاب.

شارك الخبر

المرئيات-١