أرشيف المقالات

الإنصاف عزيز

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2الإنصاف عزيز
رَوَى يونسُ بن عبدِ الأعلى؛ قال: سَمِعتُ ابنَ وهبٍ، يقول: سمعت مالك بن أنسٍ يقولُ: «ما في زمانِنا شيءٌ أقلُّ مِنَ الإِنْصافِ».
[جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر].   الإنصاف سلعة عزيزة..
غالية، خاصةً عند الاختلاف، و«مَنْ أراد الإِنصاف فليتوهم نفسَه مكان خصمه؛ فإِنَّه يلوح له وجهَ تعسّفِه»، كما قال ابن حزم رحمه الله.
[الأخلاق والسير (ص: 82)].   وقد ذكر الشيخ شهاب الدين البرنسي الفاسي، المعروف بـ زَرُّوق (المتوفى: 899هـ) في كتابه "عُدّة المريد الصادق" من ضمن الشروط في صفة الشيخ المعتبر عند القوم جملة وتفصيلًا: أن يكون له «عقل رجيح يميز به مواضع العلم، ويقي به نفسه عن كل وصف منقص في دينه ودنياه، فيكون تقيًّا نقيًّا، وعلامته في ذلك وجود الإنصاف حيث يكون الحق مع غيره، والوقوف مع الحق، بحيث لا أحد يقابله بلزوم لا أدري فيما لا يدري، والتبرؤ من مواضع التهم قولًا وفعلًا واعتقادًا».   والإنصاف من صفة الكرام ذوي الذمم والهمم، ولبعض القدماء: وَتَرى الكَرِيمَ لِمَنْ يُعاشِرُ مُنْصِفًا *** وَتَرى اللَّئِيمَ مُجانِبَ الإِنْصافِ   وقال الإمام ابن العربي: «..
أما بعد: فإن الداخل في طلب العلم كثير، والسعيد قليل، وعدم الإنصاف خطب جليل»
.
[قانون التأويل: 645-646.
الحاشية]
.   ومن ضمن شواهد الإنصاف العزيز ما وجدناه بخط أحد المخالفين لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث كانت عنده نسخة من كتاب "درء تعارض العقل والنقل" وقد شاع منذ قديمٍ التحذير من ابن تيمية وكتبه، ووذلك لقوة حجته وتأثيره على كل من يقرأه من أرباب الفرق الضالة، فقلما يخلو كتاب من كتب شيخ الإسلام من رد أو دحض لأهل الفرق الأخرى وأدلتهم..
ورغم هذه التحذيرات فقد شرع هذا المخالف في قراءة هذا السفر الجليل لابن تيمية وكتب على ديباجة كتابه ما يلي: «هذا كتاب لابن تيمية - من أعلم علماء الحنابلة، المتفرد فيما بينهم بأقاويل وآراء، وصاحب الوقائع المعروفة في عصره مع الفضلاء والأمراء - وضعه في الموافقة بين المعقول والمنقول، خالف فيه جمهور المتكلمين والأصوليين من أهل السنة[1] وغيرهم من الفرق الإسلامية، موردًا عليهم عجائب إيرادات تدل على كمال تضلعه في العلوم، وغرائب إشكالات تشهد بعلو كعبه في الفنون.
ضلَّل فيه كثيرًا من كبار الأئمة، ونسب جمًا غفيرًا إلى الزندقة من مشاهير عرفاء الأمة.
لكنَّه يظهر للناظر فيه، أن الرجل - على عَلَّاته - كيف كان تبحره في العلوم، واقتداره على إلزام الخصوم، مع ما يستفيد منه من فوائد، لا يستغني عن اقتنائها الطالب، ولا ينثني عن اصطيادها من هو في اقتناص الشوارد راغب..
»
إلى آخر كلامه.   ولعل هذه الكلمات درس عزيز في خُلق الإنصاف، على ما نلمح فيها من تجنٍ على الإمام ابن تيمية رحمه الله، ونرى فيها جانبًا كبيرًا من الاعتراف بالحق والوقوف عنده إذا خاطب العقول والقلوب، قال ابن القيم - رحمه الله -: «وقد ذمَّ الله تعالى من يردُّ الحقَّ إذا جاء به من يُبغِضُه، ويقبَله إذا جاء به من يُحبُّه، فهذا خُلُق الأمة الغضبية».
وهذا القارئ رغم بغضه لابن تيمية لم يمنعه ذلك من الإقرار بما في كتابه من فضل عظيم وحسن استدلال، وكتابته على حواشي نسخته، رحمه الله وجميع علماء المسلمين.


[1] مراده بأهل السنة هنا «الأشاعرة»، فهم يطلقون على أنفسهم أهل السنة.




شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣