أرشيف المقالات

إحسان من النظرة الأولى!

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
2إحسان..
من النظرة الأولى!


يقول الإمام البستي في قصيدته النافعة والمفيدة (عنوان الحِكم):






أقبِل على النَّفس واستكمِل فضائلَها
فأنت بالرُّوحِ لا بالجسم إنسانُ


أحسِن إلى النَّاس تستعبد قلوبَهمُ
لطالما استعبَدَ الإنسانَ إحسانُ






 
فما أعظمَ أن تمتلك قلبًا بمبادرتك وإحسانك! وما أجلَّ أن تستميل روحًا بسرعة بديهتك ولطف بيانك! وما أصدقَ قولَ القائل:
"إنَّك تستطيع أن تشتري ظهرًا تحمل عليه؛ لكنَّك لا تستطيع أن تشتري قلبًا يحبك!".
 
فهل ذلك الإحسان الذي ترقُّ له الأفئدة، ويقيم في القلوب للمحبَّة أعمدة؟ هل يحتاج منَّا إلى تفكير طويل، أو ضجيج مثير؟! أم هل يتطلَّب وقتًا للتخطيط المحكم ثمَّ التنفيذ المبرم؟!
 
وهل تعتقدون - قرَّاءنا الأفاضل - أنَّ هناك ما يسمَّى بـ (سرعة البديهة) في تقديم العون للمحتاجين، دون خرْق جدار الصَّمت، والالتزام بعدَم رفع الصَّوت؟!
 
تعالوا بنا إلى قصَّة بعنوان: (سرعة البديهة في الإحسان)، لعلَّنا نجِد فيها إجابات على تساؤلاتنا؛ تطبيقًا لمقولة الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله: (إذا أتتك معضِلة، فاجعل جوابها منها).
 
زار سيركٌ مشهور قريةً نائية في الريف، فأسرع أكثر سكَّانها مع أطفالهم ليزوروه، وكان من بين أفراد الصفِّ الطويل الذي تشكَّل أمام نافذة بطاقات الدخول مُزارع متواضع المظهر، بسيط الحال.
 
وقف ذلك المزارع يَنتظر دوره مفتخرًا بعائلته الكبيرة؛ زوجة وأربعة أطفال، فيما بدَت على وجوههم الفرحة، وكادوا يطيرون تشوُّقًا لحضور عروض هذا السيرك.
 
بعد طول انتظار، وصَل المزارع إلى شباك التذاكر، طلَب له ولعائلته بطاقات للدخول، فعاجله البائع بطلَب مبلغ كبير يفوق استعداداته؛ ثمنًا لستِّ بطاقات!
 
تجمَّد الرجل مكانه حائرًا في أمره، يده تتحسس النقود التي لا تكفي في جيبه، والعرق يتصبَّب من جبينه، فيما تخفض زوجتُه رأسَها خجلًا من الموقف، وعيون أولاده تسأله ألفَ سؤال بجزع وخوف!
 
لاحَظ رجل كان يقِف وراء المزارع ما يجري، وعلى الرغم من أنَّه لم يكن يبدو أيسر حالًا من المزارع، فإنه أخرج - بخفَّة وبديهة حاضرة - بعضَ النقود من جيبه ورماها على الأرض دون أن يُشعِر بذلك أحدًا، ثم ربت على كتف المزارع قائلًا له بابتسامة تشي بإحسانه وعونه:
(عفوًا سيدي، لقد وقع منك مبلغٌ من المال على الأرض)، ثم انحنى ليلتقط المبلغ ويعطيه للمزارع.
 
نظر المزارع إلى الرجل نظرةً حملَت كلَّ معاني الامتنان والتقدير، وقال للرجل والدمعة تلمع في عينيه: (شكرًا يا سيدي، شكرًا جزيلًا، لن أنسى فضلك هذا ما دمتُ على قيد الحياة).
 
ألا يا أمَّة الإيمان والإسلام والإحسان، يا أمَّة تديم مراقبة الحق جلَّ وعلا في معاملة الخلق، يا خير أمَّة أُخرجَت للناس، أجيبوا السائل:
إلام نَحتاج حتى نوقِظ هذه البديهة في فهم احتياجات الناس، والمبادرة إلى مساعدتهم وبصمت؟! إلام نحتاج؟!
 
إنه حبُّ الخير وإعفاف المحتاجين، فكلَّما ارتفع منسوبه في القلوب سهل الطريق إلى المطلوب.
 
وكما أنَّ الأواني الفارغة تحدِث ضجيجًا وقرقعةً أكثر من الأواني الممتلئة، فكذلك البشر؛ إذا خلَت نفوسهم من سرعة البديهة في الإحسان ورفع الحرمان.
 
كقصة الأرملة الشابَّة التي ذهبَت تستعطي أحدَ الأمراء، فلمَّا وقفَت ببابه وطلبَت منه بضعةَ دنانير، ما كان من الأمير إلَّا أن نادى خازن بيت المال، وأمر لها بألف درهم، فاعترض عليه وزيرُه قائلًا: (لقد أكثرتَ يا مولاي)، فأجاب ببديهة محبَّة للخير: (لقد رأينا من جمال الأرملة وشبابها، فأحببتُ أن أزيدها بالعطاء؛ لعلَّ أحدًا يرغب بها وبمالها فيتزوجها).
 
قرَّاءنا الكرام، إنَّ فعل الخير يجب أن يتميَّز عندنا بدقَّة الملاحظة، وسرعةِ البديهة، وسرعة المبادرة، والتزام الصمت، والشهامة...، وما ضرَّ أحدًا أنه لم يجلجل بأعماله، فمن ابتغى رضاه، يعلم حتمًا ما قدَّمَت يداه، وسيُشكر لكلٍّ مسعاه.
 
وطالما أنَّنا سننهي مقالتنا هنا، بعد أن بدأناها هناك، فاسمحوا لي أن أبحث معكم في ختامها عن زمرة طيِّبة مباركة، وأن أسأل عن مصيرها، لعلَّ الله يحييها ويبارك لنا فيها:
 






أين الذين حكى التاريخ مجدَهمُ؟
كانت شهامتهم تزهو بها الشُّهُبُ


إن صاحَ محتاج في الشَّرق: أدرِكني
لبَّى نداه بأقصى الغرب محتسبُ


ماذا جرى؟ أتراهم غاض مَنهلهم
أم أنَّ زورقهم قد ناله العطبُ؟


هلَّا أفقتم فإنَّ الله سائلكم
عن كلِّ نفس، ولن ينفعكمُ الهربُ؟!

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣