أرشيف المقالات

كراهة السعي وراء سفساف الأمور

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2كراهة السعي وراء سفساف الأمور
 



السَّفْسافُ: ضد المعالي والمكارم، وأصلُه: ما يطير من غبار الدقيق إذا نُخِل، والتراب إذا أثير، وهو الرديء من كلِّ شيء، والأمر الحقير، وسَفْساف الأخلاق رديئُها، وقد أَسف الرجل؛ أي: تتبع مداق الأمور، والمسفسف: اللَّئِيم الطبيعة، ومنه قيل للئيم العطية: مُسفْسِف، وكلُّ عمل دون الإحكام فهو سفساف[1].
 
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن محبة الله تعالى لمعالي الأمور ومكارم الأخلاق، وكراهته وبغضه لسَفْسافها؛ فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله كريمٌ يحبُّ الكرم، ويحب معاليَ الأخلاق، ويكره سَفْسافَها))[2]، وفي رواية: ((إن الله عزَّ وجل كريم يحبُّ الكرماء، ويحب معاليَ الأمور، ويكره سَفْسافَها)) [3].
 
ويقصد بمعالي الأمور الأخلاق الشريفة، والخِصال النبيلة، لا حب العُلوِّ والفساد في الأرض، فمن اتَّصف بهذه الأخلاق الزكيَّة، حَظِي بمحبة الله تعالى ورضاه، أما سفساف الأخلاق فهو حقيرُها ورديئُها، ومن اتَّصف بها كرهه اللهُ وأبغضه، ولم يرضَ عنه[4].
 
وشرف النفس صونها عن الرذائل والدَّنايا والمطامع القاطعة لأعناق الرجال، فيربأ بنفسه أن يلقيها في ذلك، والعبد إنما يكون في صفات الإنسانية التي فارق بها غيره من الحيوان والنبات والجماد بارتقائه عن صفاتها إلى معالي الأمور وأشرافها، التي هي صفات الملائكة، فحينئذٍ ترفع همتُه إلى العالم الرضواني، وتنساق إلى الملأ الروحاني[5].
 
والإنسان يشابه الملَك بقوة التفكر وحسن الإدراك والتمييز، ويشابه البهيمةَ بما رُكِّب فيه من الشهوة والدناءة، فمن صرف همَّته إلى اكتساب معالي الأخلاق، أحبَّه الله، ومن صرفها إلى السفساف ورذائل الأخلاق، التحق بالبهائم؛ فيصير إما ضاريًا كالكلب، أو شَرِهًا كالخنزير، أو حقودًا كالجمل، أو متكبِّرًا كالنمر، أو رواغًا كالثعلب، أو جامعًا لذلك كله كالشيطان[6].
 
وأما أولئك الذين تتعلَّق هممهم بزينة الحياة الدنيا، ويغرقون في التمتع بلذاتها المادية، فلا عظمة لهم؛ كهؤلاء الذين يُسرفون في الملابس المنمَّقة، والمطعومات الفاخرة، والمباني الشاهقة، فإن الزينة واللذائذ المادية لا تُعدُّ فيما تتسابق فيه الهمم من معالي الأمور[7].
 
وليس من خلقٍ حسَنٍ إلا وقد أمر الله تعالى به، ولا خلق سيِّئ إلا وقد نهى الله عنه، ومن ذلك سفاسف الأخلاق ومذامها، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90][8].

 
وقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه على تخيُّر معالي الأمور في كل شيء، سواء كان ذلك في الأفعال أو الأقوال، وسواء كان في الدين أو الدنيا.
 
من ذلك: حثُّه لأصحابه أن يتقدَّموا الصفوف، فيكونوا في أوَّلِها، وكراهته التأخر، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخُّرًا، فقال لهم: ((تقدَّموا فأْتَمُّوا بي، وليَأْتمَّ بكم مَن بعدكم، لا يزال قوم يتأخَّرون حتى يؤخِّرهم الله))[9]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال قومٌ يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخِّرهم الله عز وجل في النار))[10].
 
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال قومٌ يتأخرون...))؛ أي: عن الصفوف الأُوَل؛ حتى يؤخِّرهم الله تعالى عن رحمته، أو عظيم فضله، ورفع المنزلة وعن العلم، أو يتأخرون عن اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل، ففي الحديث آكدُ حثٍّ على التسابق إلى معالي الأمور والأخلاق، وأبلغ زجرٍ عن الميل إلى الدَّعَة والرفاهية، وأبلغ تنبيه إلى أن ذلك يؤدي إلى تجرُّع غصص البعد والغضب[11]، وفيه توهين أمر المتأخرين وتسفيهُ رأيهم، حيث وضعوا أنفسهم من أعالي الأمور إلى سفسافها، والله يحب تلك ويكره هذه[12].
 
قال الزهري: العلم ذَكَر، لا يحبُّه إلا ذكور الرجال؛ أي: الذين يحبُّون معالي الأمور، ويتنزهون عن سفسافها[13].
 
ومن ذلك: حثُّه صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بأن يصونوا ألسنتَهم عن هَذْر الكلام وفضوله؛ فإن ذلك من كمال الإيمان، وتمام المروءة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فَلْيقُلْ خيرًا، أو ليصمت))[14]، والمروءة: صيانةُ النفس عن كل خلق رديء، والسَّمْتُ الحسن، وحفظ اللسان، وتجنُّب السخف والمجون[15]، وقال بعضُهم: ألَّا يأتي الإنسان ما يعتذر منه مما يحط مرتبتَه عند أهل الفضل[16].
 
ومن ذلك: حثُّه صلى الله عليه وسلم لأمته أن يسألوا الله تعالى أعاليَ الدرجات من الجنة في دعائهم، ولا يكتفوا بالدُّون من ذلك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سألتم الله، فسَلُوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقَه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة))[17].
 
وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أمتَه من التعرُّض لما فيه إذلال للنفس وإهانة لها، مما يحط المسلم عن معالي الأمور ويوقعه في سفسافها، فعن حذيفةَ بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينبغي للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه))، قالوا: وكيف يذلُّ نفسه؟ قال: ((يتعرَّض من البلاء لما لا يطيق))[18].
 
فاللهم وفقنا لمحابك من معالي الأمور وكريم الأخلاق، وجنبنا سفسافها، والحمد لله رب العالمين.



[1] انظر: الصحاح 6: 64، القاموس المحيط 1: 1059، لسان العرب 9: 152، مادة: سفف.


[2] أخرجه عبدالرزاق في مصنفه 11: 143 عن طلحة بن كريز، والطبراني في الكبير 6: 181، والحاكم في المستدرك 1: 48، وقال: هذا حديث صحيح الإسنادين جميعًا ولم يخرِّجاه، وسكت عنه الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى 10: 191.


[3] ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 344، وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط بنحوه، إلا أنه قال: "يحب معاليَ الأخلاق"، ورجال الكبير ثقات.


[4] انظر: التيسير شرح الجامع الصغير 1: 548 - 549، التنوير؛ للصنعاني 3: 389.


[5] انظر: فيض القدير؛ للمناوي 2: 295.


[6] المصادر السابقة.


[7] رسائل الإصلاح؛ للشيخ محمد خضر حسين ص: 42.


[8] انظر: تفسير ابن كثير 4: 596.


[9] أخرجه مسلم برقم 438.


[10] أخرجه أبو داود في سننه برقم 679.


[11] انظر: شرح مسلم؛ للنووي 4: 159، دليل الفالحين 6: 417.


[12] انظر: فيض القدير؛ للمناوي 1: 194.


[13] شرح المشكاة؛ للطيبي 2: 711.


[14] أخرجه البخاري برقم 5672، ومسلم في الإيمان برقم 47.


[15] رسائل الإصلاح، ص: 8.


[16] رسائل الإصلاح، ص: 8.


[17] أخرجه البخاري في التوحيد برقم 6987.


[18] أخرجه أحمد في المسند 5: 405 برقم 23491، والترمذي برقم 2254، وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجه برقم 4016، وأبو يعلى في مسنده 2: 536 برقم 1411، والطبراني في الكبير 12: 408 برقم 13541.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢