أرشيف المقالات

أصول النبوغ العلمي عند الإمام الشعبي رحمه الله

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
1
ليس النبوغ، - وهو الكلمة اليانعة الساحرة، المدعاة في مشوار سهل- بل هو السلالم الشاقة ، وليس هو عبقرية منفصلة عن وهج ذاتها، أو منزل الراحة المألوف ، أو حديقة الزائرين، أو رصيف كل من هب ودب، دون التعاطي الجاد، والمجاهدة المستدامة ...!! وليس هو مماسح المتعالمين ، الكامنة وراء حملان الكتاب بلا تقليب، أو لبس النظارة بلا حاجة، أو قلم وقصاصة، دون وعي وفقاهة..!! ولكنه مسار شاق، وعمل دؤوب، وعزائم خارقة، تنتهي إلى عبقرية فذة، ذات تفرد وتميز،،،! إن لم يعشها الإنسان في حياته العلمية، فما ذاق طعومتها، ولا علاقة له بالنبوغ، وفتق العلوم ...!!تمنيتَ أن تغدو فقيها مناظرا...بغير عناء فالجنون فنونُ
فليس اكتساب المال دون مشقةٍ...
تلقيتها فالعلمُ كيف يكونُ..؟!
واسمع كيف يفسّر الإمام عامر بن شَراحيل الشعبي (١٠٣) رحمه الله، ويؤصل شرائط النبوغ وأصوله ، عبر تقعيده الشهير، وفيه قال الإمام الذهبي رحمه الله في سير الأعلام: ( الإمام ، علامة العصر ، أبو عمرو الهمداني ثم الشعبي ) .
قال حينما سئل: كيف نلت هذا العلم ؟! فقال : ( بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وبكور كبكور الغراب، وصبر كصبر الحمار ) .
فهذه أربعة أصول، تُشترط للنبوغ، والوصول إلى المأمول، كما في عقلية الإمام الشعبي رحمه الله، وسنعلق عليها بما يجلّيها ويبسطها بسطا مريحا ومليحا للطلاب، الحرصاء على العلم وجمعه، قال تعالى( وقل رب زدني علما ) سورة طه .
وعملية الاستزادة تتطلب بعد التوفيق الإلهي المزيد من التعب والبذل، والجهد والصبر، وامتلاك التلاميذ لأدوات مساعدة تحفز للوصول، وتقرب المأمول، وتخترق الحدود والفصول...!
والجهال وحدهم من يعتقدون النبوغ بلا مقدمات، أو يُجنى بلا متاعب، أو يُشرب كاللبن، أو يُحتسى كالشاي...!
وما أحسن قول القائل :تريدينَ لقيان المعالي رخيصةً...ولابد دون الشهد من إبر النحلِ..؟!
١/ نفي الاعتماد : أي عصامية التلميذ وقوة شخصيته، التي تجعله يقدّس العلم من ذاته، ويحترم الشيوخ، ويوقر الكتب، ويستشعر فضل العلم عليه، وفِي مسام قلبه، وخلايا عقله، فتقرأ إذا تعينت القراءة، وتطالع بلا خوف وملالة ، وتحفظ ، فلن يحفّظك الأصدقاء، وتجاهد في الفهم والتفقه، فلن يفتح الشيخ عقلك حتى تفهم، وتغوص بين المطولات ، وتقلبها تقليبا حثيثا،،،! نعم قد يتوفر بعض المساعدات لك، فتحفز وتعين، ولكنها لن تدوم معك كثيرا، وستمر عليك أيام ولحظات، إن لم تكن "عصاميا " فلن تفلح فلاحا، ولن تبلغ مأمولا، أو تحقق مقصودا...! وما أحسن قول القائل :
نفسُ عصام سوّدت عصاما...
وعلمته الكر والإقداما...
وصيّرته بطلاً هُماما...! 
وقد يتعاون معك الآخرون ويحمّسونك، ولكنهم لن يدخلوا المتون في عقلك، ولن يفقهوك المسائل، ولن يجعلوا المجلدات السريعة جزءا يسيرا، فاعزم أنت، واشحذ همتك، وخذ من راحتك لجدك، وتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين .
وها هو ابن عباس يهب طالب علم، ملحاحا مثابراً بعد وفاة رسول الله، ويقول لجاره الأنصاري( هلمّ نطلب العلم على أصحاب رسول الله، فإنهم اليوم كثير ...) فيسخر منه، فينطلق جادا مبادراً، معتمدا على جهده وجهاده بعد توفيق الباري تعالى، حتى بلغه الله المبلغ ...! 
وعلامات الاعتماد الذاتي:
• البدء ولو كنت وحيدا .
• نشاطك السلوكي في العلم.
• الإصرار وقت غيابهم عنك .
• السؤال المبدئي عن الدروس والكتب وحضورها .
• المحافظة على برنامجك العلمي .
• مجاهدة النفس في ترك المألوفات الصارفة .

وبعض الكتّاب فسّر (نفي الاعتماد) أي على النفس افتخارا وزهواً، ونسيان التوفيق الإلهي ، والفتح الرباني، وهذا متجه وحسن، ولا أظن طالبا ينفك عن ذاك ، وسؤال المولى تعالى الفتح والإعانة ( ما يفتحِ اللهُ للناس من رحمة فلا مُمسكَ لها ) سورة فاطر .
وأتوقع أن الشعبي رحمه الله لا يجهل ذاك، ولكنه نبه على الأسباب المادية والله أعلم .
والعرب تقول في أمثالها:( ما حك جلدُك مثَلُ ظفرك، فتولّ أنت جميع أمرك ).

٢/ السير في البلاد: كالسفر العلمي، والرحلة المعرفية وجمع الكنوز، من تلاقٍ بالشيوخ، أو حيازة الدرر، أو الظفر بمكنونات العلوم، فثمة فوائد ومباحث ، لا تنال إلا في الأسفار، وقد سافر موسى عليه السلام إلى الخضر لنيل العلم( قال هل أتّبعك على أن تُعلمن مما عُلمت رشدا ) سورة الكهف .
ورحل الأئمة الأماجد، والأعلام الجهابذ في الآفاق، وضربوا في مشارق الأرض ومغاربها ، قال تعالى: ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدين...) سورة التوبة .
وسافر الصحابة والتابعون لأجل الحديث الواحد كما في قصصهم المشهورة، وكتب الخطيب البغدادي(٤٦٣) رحمه الله رسالته اللطيفة ( الرحلة في طلب الحديث ) فاقرأها لتعرف قدر القوم، وانظر في كتب التراجم قاطبة، لتعاين كيف وصل العلم إلينا ، وهم خليق بقول القائل :
جمالَ ذي الأرض كانوا في الحياة وهم...بعد الممات جمالُ الكُتب والسيرِ...!

ويعتقد الأسلاف أن من لم يسافر وتغبر قدماه في سبيل العلم فهو :
• محروم النضج والرشد.
• ناقص المعرفة والتفكير .
• قليل المشايخ .
• فاتته أسانيد عاليات .
• ضيّع فرصا، وفوت كنوزا .

قال الإمام يحي بن معين رحمه الله( أربعة لا تأنس منه رشدا، وذكر منهم : طالب الحديث الذي لا يرحل )
ومن الرحالين المشاهير في الإسلام أبو عبدالله بن مَندة(٣٩٥)هـ ، الذي استمرت رحلته نحو (٤٥) سنة رحمه الله، فقضى غالب حياته سفراً وجدا وتهمما بالعلم وجمعه، قال الإمام الذهبي رحمه الله معلقا على رحلته:( ولم أعلم أحداً كان أوسع رحلةً منه، ولا أكثر حديثاً منه، مع الحفظ والثقة، فبلغنا أن عدة شيوخه ألف وسبعمائة شيخ ).
السير (١٧/٣٠)
ونقل عنه قوله : ( طفتُ الشرق والغرب مرتين ).
قيل للإمام أحمد : ( رجلٌ يطلب العلم يلزم رجلاً عنده علم كثير أو يرحل ؟ قال : يرحلُ ، يكتب عن علماء الأمصار ، فيُشامُّ النَّاس ، ويتعلم منهم ).
والرحلة العلمية سبب لتفتح العقل، ومقابلة العباقرة، والخروج عن المألوف، والاحتكاك بالثقافات ، والتزود الفكري والأدبي والإبداعي، ومعايشة الارزاء، والذي سينتج عجائب معرفية، توازي ذلك الجهد المبذول، والدأب المرصود ...!

٣/ بكور الغراب : أي صباحا بعد الصلاة، واستثمار لحظات الصفاء والنشاط ، وهذا ديدن الجادين والمثابرين، وصح حديث:( الله بارك لأمتي في بكورها ) .
وقال الإمام أحمد رحمه الله ( كنتُ ربما أردت البكور إلى الحديث ، فتأخذ أمي ثيابي وتقول : حتى يؤذن الناس ، حتى يصبحوا ، وكنت ربما بكرت إلى مجلس أبي بكر ابن عيّاش وغيره ).
وقال يحيى بن سعيد القطان رحمه الله : ( كنت أخرج من البيت قبل الغداة فلا أرجع إلى العتمة )

وفِي البكور :
• جد وجلَد وعلو همة .
• واستثمار للأوقات .
• واستغلال لحظات النشاط والصفاء .
• واستعداد للحفط والانضباط .
• ومسابقة للآخرين، وتجاوز المقصرين .
• وانتصار على النوم والكسل .

٤/ صبر الحمار: وهو القدرة العالية على حبس النفس على الطريق، والتباعد بها عن شهواتها وملذاتها، والحمار مما يضرب به المثل في الصبر وطول الاحتمال فيقولون ( أصبر من حمار ) في مدح بعضهم ، وقد تصحفت هذه الكلمة في عدة مصادر، فرويت: الجماد- الجمال ، وصوّب الشيخ المحقق أبو غدة رحمه الله أنها (الحمار)
والصبر في العلم له صور:
• صبر على القراءة والحفظ .
• على كلام المثبطين .
• على السهر ومشاقه .
• على طوله وصعوبة بعض مسائله .
• على الفقر فيه والجوع في أيامه .
• على غلاء الكتب وبعدها.
• على قلة المشايخ وجلافة بعضهم ، واشتهر قولهم : من لم يذق مر التعلم ساعةً / تجرعَ ذل الجهل طول حياتهِ...! 
• على عسر الفهم والمذاكرة .

- ومن صبر الأئمة في الطلب : 
• قال الصحابي الفذ المجد أبو هريرة –رضي الله عنه-:
" لقد رأيتني أُصرع بين منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها، فيقول الناس إنه مجنون وما بي جنون ما بي إلا الجوع" .

• الإمام البخاري الحافظ والناقد الشهير رحمه الله كان يستيقظ في الليلة الواحدة قرابة ١٨ مرة يكتب الخاطرة من العلم، ويدقق ويراجع، وأخرج كتابه لنا بعد ست عشرة(١٦) سنة .

• وقال الحافظ ابن طاهر رحمه الله : "بلت الدم في طلب الحديث مرتين، مرة ببغداد، وأخرى بمكة، كنت أمشي حافيا في الحر، فلحقني ذلك، وما ركبت دابة قط في طلب الحديث، وكنت أحمل كتبي على ظهري، وما سألت في حال الطلب أحدا، كنت أعيش على مايأتي" .

• قال الإمام يحي بن أبي كثير رحمه الله :" لا يُستطاع العلمُ براحة الجسد ".

• قال عُبيد بن يَعيش رحمه الله " أقمتُ ثلاثين سنة ما أكلت بيدي يعني بالليل، كانت أختي تلقمني وأنا أكتب " .

والأمثلة في هذا السياق كثيرة تطول على الحصر، وتلقاها في كتب التراجم والسير، ومن أحسن من جمعها كتاب( الصفحات في صبر العلماء) للشيخ أبو غدة، و ( صلاح الأمة ) للدكتور سيد العفاني وغيرها ...
وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ...!  


شارك الخبر

ساهم - قرآن ١